يرى الأستاذ بجامعة قاصدي مرباح بورقلة، الدكتور عبد الحميد هيمة، أنّ النّقد الأدبي بالجزائر بدأ بالنّقد السياقي منذ مطلع السبعينيات، وقد كان نقدا أكاديميا وليد المؤسّسة الجامعية، ثم حدث التطوّر نحو المناهج النسقية (النصّية)، في مرحلة الثمانينيات والتسعينيات مع عبد الحميد بورايو، وعبد المالك مرتاض وغيرهم.. ممّن انتصروا للنّقد الشكلاني، ممثلا في تيارات البنيوية والتفكيك الّتي سعت إلى تحويل النّقد إلى نوع من العلم الإنساني الجديد، وكانت كلمة النظام هي الأيقونة أو الطقس الرمزي الذي يتعبّد له النقّاد الذين أرادوا إضفاء طابع علمي على الممارسة النّقدية..
يقول عبد الحميد هيمة: “لقد رغب النّقد الحديث في القرن العشرين أن يكون جزءا من حقل المعرفة العلمية التي تستند إلى التجريب والاختبار، لكنّه في طريقه لعلمنة الحقل النّقدي أطاح بالجانب الشخصي والفردي في تذوّق الأدب، كما ساهم أيضا في تحويل هذا الحقل إلى جزيرة نخبوية لا يسعى إلى الإبحار نحوها سوى المتخصّصون.”
وأكّد المختصّ في الأدب والنّقد العربي الحديث والمعاصر لـ«الشعب” أنّ في هذه اللحظات المفصلية من عمر النّقد الأدبي، جرى التمهيد لـ«موت النّاقد” وانسحابه من المشهد واكتفائه بالعمل داخل أسوار مؤسّسته الأكاديمية، ولكنّ المشكلة هي أنّ النّاقد الأكاديمي لم ينسحب من المشهد وحده، بل إنّه أطفأ نور القاعة بعد انسحابه، ممّا أدّى إلى القطيعة بين النّقد المتخصّص والقارئ العام المتعطّش إلى معرفة رأي النقّاد في النصوص، ممّا فسح المجال للنّقد الصحفي غير المتخصّص، ولنقّاد الصحف غير المتخصّصين لتوجيه ذائقة القراء أكثر من النقّاد المتخصّصين، الأمر أدّى إلى موت النّاقد بالمعنى المجازي - حسب المتحدّث - ليترك مكانه للقارئ غير المتخصّص الذي يستطيع أن يدلي بدلوه في ضوء تطوّر وسائل الاتصال، وأن يضفي قيمة على الأعمال الإبداعية التي يقرأها دون حاجة إلى ناقد متخصّص يرشده ويدلّه على النصوص التي يجب قراءتها، إذ نسجّل بكلّ أسف – يقول هيمة - تقهقر النّقد المتخصّص والنّاقد المتخصّص الذي لم يعد يطلّ على القراء في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام المختلفة.
ويرى هيمة أنّ ضعف دور النّاقد في الوقت الراهن يرجع إلى انتشار المدوّنات والمواقع في شبكة الانترنت التي تتيح لأيّ شخص أن يبدي رأيه فيما ينشر من أعمال روائية، وهذه الكتابات أصبحت توفر الرأي النّقدي المطلوب للقارئ العام، الذي يريد أن يجد من يوجّهه إلى الأعمال الأدبية الجيّدة، وقال: “نحسب أنّ النّقد المتخصّص سوف لن تبقى له المكانة السابقة، وقد تسارع اليوم حضور هذا النوع من النّقد بعد التطوّر الذي حدث على الشبكة العنكبوتية، التي وفرت منصّة سهلة للقراء لإبداء الرأي في النصوص الأدبية بكلّ ديمقراطية”.
وهذا يؤشّر على تآكل سلطة النّقد المتخصّص، وبروز هذا النّقد غير المتخصّص الذي قد يسئ للمشهد الأدبي كما ذكر البروفيسور هيمة، مشيرا إلى أنّ السبب في ذلك يعود إلى أنّ هؤلاء الكتّاب والنشطاء على الشبكة العنكبوتية، لا يتمتّعون بحسّ المسؤولية والمعرفة بالمقارنة بالنّقد المتخصّص، وهو ما يجعل القارئ فريسة في يد جهات احتكارية تعمل على توجيهه نحو خيارات غايتها الأساس هي الربح من بيع الكتب والأعمال الإبداعية، والنتيجة أنّنا سنصبح أسرى للضجيج “التواصلي”.
وقال محدّثنا: “إذا عدنا إلى مسألة راهن النّقد الروائي، والعلاقة بين هذا النّقد والأدب نلحظ كما سبق الذكر سيطرة النّقد الشكلاني الذي يُعلي من شأن النصوص الروائية الأكثر توظيفا للتقنيات السردية الجديدة ولأشكال جمالية أخرى، كالتناصات بكلّ أنواعها، والتحاور مع الفنون، وتعدّد الأصوات وغيرها، بناءً على النظريات البنيوية والسيميائيات وغيرها.
ويضيف: إنّ هذا الأمر جعل من المبدع الجزائري يسابق إلى العناية بالشكل على حساب المضمون، وصار الروائي يتبع النّقد ويقوم بمغازلة أحدث نظرياته لكي يفوز بالاهتمام النّقدي السائد. ومع هذا النوع من النّقد صرنا نتساءل: من يواكب من؟ هل النّقد يواكب الإبداع؟ أم الإبداع يواكب النّقد؟