تتزايد أهمية تسويق المنتجات والخدمات الثقافية، خصوصا في عصر العولمة. ومع التقدّم التكنولوجي وصعود وسائل التواصل الاجتماعي، تتمتّع المؤسّسات الثقافية، على اختلاف أشكالها، بقدرة أكبر على الوصول إلى المستهلكين المحتملين في جميع أنحاء العالم. ونتيجة لذلك، أصبح تطبيق تقنيات التسويق الحديثة للثقافة، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية المنتجات الثقافية، أمرًا بالغ الأهمية للشركات التي تتطلّع إلى الوصول إلى جماهير متنوّعة.
يلعب التسويق للمنتجات الثقافية دورًا حاسمًا في تعزيز وحفظ التراث الثقافي والتقاليد في المجتمع، موظفا التقنيات التي تتماشى ومتطلّبات العصر الرقمي.
التسويــق بالثقافــــة
التسويق تخصّص متعدّد الأوجه يشمل مجموعة واسعة من الأنشطة التي تهدف إلى الترويج وبيع المنتجات أو الخدمات للعملاء. ويتجاوز مفهوم التسويق مجرد بيع المنتجات؛ فهو يتضمّن أيضًا فهم سلوك المستهلك واتجاهات السوق والمنافسة من أجل تطوير استراتيجيات تمكّن الشركات من تحقيق أهدافها التجارية.
ومن العناصر الرئيسية للتسويق نذكر أبحاث السوق (جمع وتحليل البيانات حول العملاء والمنافسين واتجاهات السوق لتحديد الفرص والتهديدات) والهدف منها تطوير استراتيجيات التسويق. كما نجد العلامة التجارية (إنشاء هوية فريدة لا تنسى لمنتج أو خدمة لتمييزها عن المنافسين)، وهي ضرورية لبناء ولاء العملاء والثقة. ويتضمّن التسويق أيضًا الإعلان (شكل مدفوع من أشكال الاتصال هدفه الوصول إلى جمهور كبير وإقناعه بشراء منتج أو خدمة)، والترويج للمبيعات (تقديم خصومات وقسائم وحوافز أخرى للتشجيع على الشراء)، والعلاقات العامة (إدارة سمعة الشركة وبناء علاقات مع العملاء والمستثمرين ووسائل الإعلام).
وفي العصر الرقمي، تطوّر التسويق عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، باستخدام القنوات الرقمية للوصول إلى العملاء وإشراكهم، ما يسمح باستهداف جماهير محدّدة وقياس فعّالية الحملات والتفاعل مع العملاء في الوقت الفعلي.
بشكل عام، يعدّ التسويق تخصّصا ديناميكيا ومتطوّرا باستمرار، وهو فنّ وعلم في نفس الوقت، ويتطلّب الإبداع والمهارات التحليلية والتفكير الاستراتيجي من أجل النجاح. وغالبا ما تتخذ العلاقة بين التسويق والثقافة شكلين: تسويق بالثقافة، وتسويق للثقافة.
يعدّ التسويق بالثقافة (توظيف الثقافة في التسويق) عنصرًا أساسيًا في استراتيجيات التسويق الحديثة، ويتضمّن فهم العوامل الثقافية التي تؤثر على سلوك المستهلك والتعامل معها، خاصّة مع تنوّع المستهلكين وخلفياتهم ومعتقداتهم وقيمهم وتفضيلاتهم. ويتضمّن فهم الفروق الثقافية لمختلف الأسواق المستهدفة إجراء بحث شامل حول القيم الثقافية والأعراف والتقاليد وتفضيلات الجمهور، وعلى هذا الأساس يتم تطوير الحملات والرسائل.
كما يتضمّن هذا النوع من التسويق دمج العناصر الثقافية في رسائل العلامة التجارية وصورها، وقد يشمل ذلك استخدام لغة وصور ورموز وإشارات ثقافية محدّدة تبعا للحساسيات الثقافية للجمهور المستهدف. ويتوجّب على المسوّقين أن يكونوا على دراية بالحساسيات الثقافية، ويتجنّبوا الصور النمطية والاستيلاء الثقافي (cultural appropriation)، ويظهروا الاحترام للقيم والتقاليد الثقافية للجمهور المستهدف.
ويعتمد التسويق بالثقافة تكييف استراتيجياته مع السياقات الثقافية المختلفة، فما قد ينجح في ثقافة واحدة قد لا يتردّد صداه في ثقافة أخرى.
ومن فوائده بناء ولاء العلامة التجارية والثقة وتعزيز الروابط العاطفية، فالمستهلك قد يتواصل أكثر مع العلامات التجارية التي تفهم وتحترم قيمه الثقافية. ومن فوائده أيضا مساعدة العلامات التجارية على توسيع نطاق وصولها ودخول أسواق جديدة.
تسويــق المنتجـات الثقافيـة
يسهم تسويق الثقافة في تعزيز وحفظ التراث الثقافي والتقاليد في أيّ مجتمع. وفي زمن العولمة، حيث يتعرّض التنوّع الثقافي للتهديد بشكل متزايد، تشكّل استراتيجيات التسويق الفعّالة ضرورة أساسية لتسليط الضوء على ثراء الثقافات المختلفة، وضمان استدامة الممارسات والتقاليد الثقافية.
من الأهداف الرئيسية لتسويق الثقافة زيادة الوعي بأهمية الحفاظ على التراث الثقافي، ويبرز المحتوى التسويقي المقنع والجذّاب الجوانب الفريدة لثقافة معينة، ويثير اهتمام الزوار والمؤيّدين المحتملين، ويزيد المشاركة في الأحداث والأنشطة الثقافية، ويساعد في كسر الحواجز وتعزيز الفهم والتقدير للتقاليد الثقافية المختلفة، ويعزّز انسجام المجتمع وتماسكه.
ويسهم هذا التسويق في التنمية الاقتصادية محليا ووطنيا، إذ يعمل التسويق الفعّال للأحداث والمعالم الثقافية على دعم عائدات السياحة، وخلق فرص العمل، وتحفيز النموّ الاقتصادي في المنطقة.
كما يلعب دورًا رئيسيًا في الحفاظ على التقاليد الثقافية ونقلها إلى الأجيال القادمة، ويعزّز التعليم والتعلّم الثقافي من خلال جذب المدارس والجامعات ومختلف المؤسّسات التعليمية، ويساعد في بناء الشراكات والتعاون والتشبيك مع المنظمات والمؤسّسات الثقافية الأخرى، ما يسمح بالوصول إلى جمهور أوسع.
قامت الباحثتان صليحة بوسليماني ومهدية بوجمعة (جامعة الجزائر3) بدراسة آليات التسويق الثقافي لترقية الصناعات التقليدية والفنية باعتبارها منتجات ثقافية واقتصادية. وأفادت الباحثتان بأنّ أول المطبوعات حول التسويق الثقافي ظهرت أواخر سبعينيات القرن الماضي.
وأشارت الباحثتان إلى الفرق بين “التسويق التقليدي” و«التسويق الثقافي”، إذ يهدف الأول إلى إشباع حاجات المستهلك وتعظيم الأرباح، فهو بذلك قائم على مبدأ “الطلب قبل العرض”، فيما يهدف التسويق الثقافي إلى نشر العمل الفنّي والإبداعي مع تحقيق أفضل النتائج المالية، أيّ أنّ الهدف منه فنّي أكثر ممّا هو مادي، وهو بالتالي يركّز على مبدأ “العرض قبل الطلب”.
وأوردت الدراسة تعريفا للتسويق الثقافي على أنّه “فنّ الوصول إلى قطاعات السوق المحتمل أن تكون مهتمة بالمنتج الثقافي، من خلال إجراء تعديل على المتغيّرات مثل السعر والعلاقات والتوزيع، من أجل جعل المنتج في اتصال مع عدد كافٍ من المستهلكين وتحقيق الأهداف المحدّدة، ويكون هذا بتطبيق تقنيات التسويق على الثقافة وتحديدا على المنتجات الثقافية”، ما يعني ضرورة مراعاة خصائص المنتجات الثقافية عند تطبيق تقنيات التسويق. وترتبط خصوصية التسويق الثقافي بخصائص المنتج الثقافي نفسه، فهذا الأخير معقّد لأنّه غير ملموس وليس وظيفيا للغاية، وفريد من نوعه، وذو قيمة رمزية قويّة، وناقل للمتعة والجمال، وهو جزء من زمان معين، وفي نفس الوقت دائم وسريع الزوال.. كما يقوم التسويق الثقافي على تعزيز صفة التعقيد للمنتجات الثقافية من حيث العرض والطلب.
وتحتّم خصوصية المنتج الثقافي على المؤسّسات الثقافية تحديد المنتج الثقافي أولا، ثم البحث على المستهلكين المهتمين فقط بالمنتج الثقافي، ثم تأتي خطوة تحديد استراتيجيات السعر (الذي يصعب تحديده لصعوبة تقدير العمل الفنّي)، والتوزيع، والترويج. وفي حالة تسويق المنتج الثقافي، لا يشتري المستهلك في الواقع الخدمة أو السلعة بل يشتري التجربة، ومن هنا تأتي رغبة المستهلك وتحديد أهمية المنتج الثقافي بدقّة.
كما تجدر الإشارة إلى استقلالية المنتج الثقافي عن توقّعات السوق، وفيما ترتبط المنتجات الواسعة الاستهلاك بتوقّعات السوق حول ارتفاع الطلب أو انخفاضه، حيث يقوم المنتج بدراسة السوق حول احتياجات المستهلك ودراسة المنافسين، يعتبر المنتج الثقافي مستقلا عن توقّعات السوق، أيّ يقوم المنتج أو الفنان بعمل فردي دون اللجوء إلى توقّعات السوق، أيّ غير مرتبط بارتفاع الطلب أو انخفاضه لأنّه عمل فني إبداعي يعكس ثقافة المجتمع.
ولاحظت الباحثتان أنّ منتجات الصناعات التقليدية والفنية تجمع بين الخصائص الثقافية والخصائص الاقتصادية، حيث تعبّر عن حضارة وثقافة مجتمع ما، إضافة إلى دورها الاقتصادي في تقليل البطالة ودعم السياحة.
في الأخير، خلصت الدراسة إلى مجموعة اقتراحات، من بينها ضرورة إجراء دراسات وأبحاث في مجال آليات التسويق الثقافي، مثل استغلال التكنولوجيات المتطوّرة لتفعيل التسويق الإلكتروني للمنتجات الثقافية.
التقنيــــات الحديثـــة لتسويــق الثقافـــة
يعدّ تطبيق تقنيات التسويق الحديثة للثقافة أمرًا ضروريًا للترويج للمنتجات والخدمات الثقافية بشكل فعّال. إحدى الطرق لتطبيق تقنيات التسويق الحديثة للثقافة هي استخدام تحليلات البيانات، حيث يسمح تحليل سلوك المستهلك وتفضيلاته، بتصميم استراتيجيات التسويق التي تناسب احتياجات الجمهور المستهدف.
ومن الطرق أيضا استخدام المنصات الرقمية. ومع صعود وسائل التواصل الاجتماعي والتسويق عبر الإنترنت، يمكن الوصول إلى جمهور أوسع دون الحاجة إلى أساليب الإعلان التقليدية. ويمكن أيضا الاستفادة من المؤثرين للترويج للمنتجات والخدمات الثقافية، بالنظر إلى امتلاكهم عددا كبيرا من المتابعين، ما يعني الوصول إلى جمهور أوسع، وإمكانية التواصل مع المستهلكين على مستوى أكثر شخصية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن الاستفادة من تسويق المحتوى للترويج للمنتجات والخدمات الثقافية، واستخدام تقنيات سرد القصص compelling narrative لإنشاء سرد مقنع حول منتجاتها وخدماتها الثقافية، ويمكن أيضا الاعتماد على تحسين محرك البحث (SEO) لزيادة الرؤية ودفع الزيارات على الويب.
في الختام، ومن خلال رفع مستوى الوعي، وكسر الحواجز، وتعزيز التنمية الاقتصادية، والحفاظ على التقاليد الثقافية، وتعزيز التعليم الثقافي، وبناء الشراكات، تستطيع المؤسّسات والمنظّمات الثقافية جذب جمهور أوسع، والتفاعل مع مجتمعات متنوّعة، وضمان استدامة الممارسات الثقافية. ومن خلال استراتيجيات التسويق الفعّالة، تستطيع المؤسّسات الثقافية أن تحتفل بثراء الثقافات المختلفة، وتعزّز التفاهم والاحترام المتبادلين، وتسهم في بناء مجتمع أكثر شمولاً وتناغماً.