مع تطـوّر الذكاء الاصطناعـي وتوسّـع المجـال الرقمي

الترجمة.. فـنّ يستحقّ الحمايـة

أسامة إفراح

يتم الاحتفال باليوم الدولي للترجمة في الثلاثين سبتمبر سنويا، للإشادة بالدور المهم الذي يلعبه المترجمون والمترجمون الفوريون في تسهيل التواصل بين المتحدّثين بلغات مختلفة. ويأتي هذا اليوم للتذكير بأهمية اللغة والتبادل الثقافي في عالم اليوم المترابط. واختار الاتحاد الدولي للمترجمين، هذا العام، موضوع «الترجمة فنّ يستحقّ الحماية»، اعترافا بالترجمات باعتبارها أعمالًا إبداعية أصلية، تستحقّ الاستفادة من حماية حقوق التأليف.

يحتفل العالم، في الثلاثين سبتمبر من كلّ سنة، باليوم الدولي للترجمة. ووفقا لمنظمة الأمم المتحدة، فإنّ المراد به «إتاحة الفرصة للإشادة بعمل المتخصّصين في اللغة، الذين يلعبون دورًا مهمًا في التقريب بين الدول، وتسهيل الحوار والتفاهم والتعاون، والمساهمة في التنمية وتعزيز السلام والأمن العالميين».
وتضيف المنظمة الأممية: «إنّ نقل العمل الأدبي أو العلمي، بما في ذلك العمل الفني، من لغة إلى لغة أخرى، والترجمة المهنية، بما في ذلك الترجمة المناسبة والتفسير والمصطلحات، أمر لا غنى عنه للحفاظ على الوضوح والمناخ الإيجابي والإنتاجية في الخطاب العام الدولي والتواصل بين الأشخاص». وهكذا، في 24 ماي 2017، اعتمدت الجمعية العامة القرار 71/288 بشأن دور المتخصّصين في اللغة في ربط الدول وتعزيز السلام والتفاهم والتنمية، وأعلنت يوم 30 سبتمبر يومًا دوليًا للترجمة (مع الإشارة إلى احتفال الاتحاد الدولي للمترجمين بهذا اليوم لأكثر من 35 عامًا).

حقوق التأليــف.. في الواجهـة

وبعد موضوع «الترجمة والتنوّع» (2017)، و»تعزيز التراث الثقافي في الأوقات المتغيرة» (2018)، و»الترجمة واللغات الأصلية» (2019)، و»إيجاد الكلمات المناسبة لعالم في أزمة» (2020)، و»متحدون في الترجمة» (2021)، و»عالم بلا حواجز» (2022)، و»الترجمة تكشف عن الوجوه المتعدّدة للإنسانية» (2023)، اختار الاتحاد الدولي للمترجمين هذا العام 2024 موضوع «الترجمة فنّ يستحقّ الحماية».
وحسب الاتحاد الدولي للمترجمين، فإنّ موضوع هذا العام يتبنّى الاعتراف بالترجمات باعتبارها أعمالًا إبداعية أصلية في حدّ ذاتها، تستحقّ الاستفادة من الحماية بموجب اتفاقية برن لحماية المصنّفات الأدبية والفنية. وباعتبارهم منشئي أعمال مشتقة، ناضل المترجمون لحماية حقوقهم المعنوية في الحصول على الفضل عن أعمالهم الترجمية، والتحكّم في أيّ تغييرات تطرأ على هذا العمل، والحصول على أجر مناسب. «إنّ حماية هذه الأشياء البسيطة من شأنها أن تضمن مستقبلًا مستدامًا لمحترفي الترجمة والفنّ التاريخي للترجمة نفسه»، يؤكّد الاتحاد، مضيفا أنّ القضايا المتعلقة بحقوق التأليف والنشر تمتد إلى جميع مجالات المهنة، بما في ذلك استخدام الترجمات في القطاع الثقافي والترجمة الأدبية والنشر والترجمة القانونية.
ومع تطوّر الذكاء الاصطناعي وتوسّع المجال الرقمي، زادت آثار حقوق المؤلف على المترجمين والمترجمين الفوريين وعلماء المصطلحات بشكل كبير. ويعدّ إسناد الترجمة في المجال الرقمي أمرًا بالغ الأهمية، بالإضافة إلى السماح للمترجمين بتلقي التقدير لجهودهم، فإنّه يشير بوضوح إلى مصدر النص، وتحديده كمحتوى بشري وليس من إنتاج الذكاء الاصطناعي.

أصنـاف وأغـراض متعــدّدة

الترجمة هي «قول الشيء نفسه تقريبا» حسب تعبير أومبرتو إيكو.. وكلمة «تقريبا» هذه تحوي عالما كاملا، تقول اليونسكو.
ليست الترجمة مجرد عملية ميكانيكية لتحويل الكلمات من لغة إلى أخرى؛ بل إنّها تتضمّن أيضًا فهم السياق الثقافي ودقائق النص الأصلي لنقل رسالته بدقّة، ما يتطلّب الكفاءة اللغوية في لغة المصدر واللغة المستهدفة معا، والقدرة على تكييف نبرة وأسلوب النص الأصلي مع الجمهور المستهدف.
وتسهّل الترجمة تواصل الثقافات، وتلعب دورًا حاسمًا في الحفاظ على المعرفة والثقافة ونشرها، وإتاحتها لجمهور أوسع. وتعزّز تنوّع اللغة والحفاظ عليها، وتساعد في حفظ التراث اللغوي وضمان تمثيل لغات وثقافات الأقليات.
وتتعدّد أنماط الترجمة وأغراضها، لتشمل مجموعة واسعة من الفئات والمعايير. كمثال على ذلك، يمكن تصنيف الترجمات على أساس التكافؤ اللغوي بين المصدر والهدف، وهكذا قد نجد ترجمة حرفية literal translation تلتزم بالنص الأصلي، وترجمة حرة free translation تركّز على نقل معنى ورسالة النص.
والسياق الثقافي من أوجه التصنيف، بناءً على الدرجة التي تتكيّف بها أو تحافظ على العناصر الثقافية والفروق الدقيقة للنص المصدر. مثلا، يتضمّن التوطين domestication جعل النص أكثر ألفة وسهولة في الفهم للجمهور المستهدف، بينما يسعى التغريب foreignization إلى الاحتفاظ بالعناصر الأجنبية والمراجع الثقافية للنص المصدر.
ويمكن التصنيف اعتمادا على نوع النص. مثلا، تختصّ الترجمة الأدبية بالروايات والقصائد والمسرحيات، في حين تتعامل الترجمة التقنية مع الوثائق المتخصّصة مثل الأوراق العلمية أو العقود القانونية. كما قد يكون التصنيف على أساس الغرض أو الوظيفة، مثل الترجمة الإعلامية informative translation، وهدفها الرئيسي نقل المعلومات بدقّة، والترجمة التعبيرية expressive translation، وتركّز على التقاط أسلوب وعواطف النص المصدر، ويخدم كلّ منهما غرضًا تواصليًا مختلفًا.
وقد نجد أنواعا أكثر تحديدًا من الترجمة، بناءً على عوامل لغوية مثل الزوج اللغوي الذي تتم ترجمته، وتعقيد النص المصدر، ووجود عناصر ثقافية أو أسلوبية.

ســوق الترجمــة العالميــة

أصبحت خدمات الترجمة ذات أهمية متزايدة في عصر العولمة، مع الحاجة إلى التواصل عبر الحواجز اللغوية. وسوق الترجمة الدولية هي صناعة سريعة النمو، حيث بلغت الإيرادات العالمية أكثر من 33 مليار دولار عام 2012، ثم 43 مليار دولار في 2017، ثمّ أكثر من 46 مليار دولار في 2018، ثم 46.9 مليار دولار في عام 2019، ثم ما يفوق 56 مليار دولار عام 2021. وهذا النمو مدفوع بالحاجة المتزايدة لخدمات الترجمة في قطاعات عديدة، مثل الأعمال والسياحة والرعاية الصحية والوكالات الحكومية.
ويدفع توسّع العمليات التجارية العالمية نمو سوق الترجمة الدولي، وعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أجرتها Common Sense Advisory أن 68٪ من العملاء الدوليين يفضّلون شراء المنتجات بلغتهم الأم، ما دفع العديد من الشركات إلى الاستثمار في خدمات الترجمة المهنية لضمان ترجمة موادها التسويقية ومواقعها الإلكترونية واتصالاتها مع العملاء بدقّة.
محرك آخر لسوق الترجمة الدولية هو صعود السياحة العالمية. وفقًا لمنظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، وصل عدد الوافدين من السياح الدوليين إلى 1.5 مليار في عام 2019، ما زاد الطلب على خدمات الترجمة لمساعدة السياح على تجاوز الحواجز اللغوية والاختلافات الثقافية.
وفي قطاع الرعاية الصحية، تتزايد الحاجة إلى خدمات الترجمة الدقيقة أيضًا. وقد وجدت دراسة نُشرت في مجلة الجمعية الطبية الأمريكية أنّ الحواجز اللغوية يمكن أن تؤدّي إلى أخطاء طبية ونتائج صحية أسوأ للمرضى. كما تعدّ الوكالات الحكومية من المستهلكين الرئيسيين لخدمات الترجمة، مثلا، يستخدم الاتحاد الأوروبي 24 لغة رسمية، ناهيك عن المنظمات الدولية المختلفة.
من حيث اتجاهات السوق، تلعب تقنية الترجمة الآلية دورًا متزايد الأهمية في صناعة الترجمة، مع التأكيد على افتقارها إلى الفوارق الدقيقة والفهم الثقافي الذي يمكن أن يوفره المترجم البشري. كما تشهد الترجمة تحوّلًا نحو التخصّص في صناعات أو مجالات محدّدة (الترجمات القانونية، الطبية، المستندات التقنية، النصوص الإبداعية). ونتيجة لذلك، يتمتع المترجمون المتخصّصون ذوو الخبرة بميزة تنافسية في السوق.
بالمقابل، نجد من التحدّيات التي تواجه سوق الترجمة الدولية «تسليع خدمات الترجمة» (commoditization of translation) بسبب زيادة المنافسة وضغوط الأسعار، خاصة مع ظهور المنصات عبر الإنترنت التي تربط العملاء بالمترجمين المستقلين من جميع أنحاء العالم، وبأسعار أقلّ، ما وضع ضغوطًا على المترجمين المحترفين لتبرير رسومهم المرتفعة وإظهار القيمة التي يمكنهم تقديمها من حيث الجودة والدقّة والحساسية الثقافية.

مستقبـل الترجمـة

يكمن مستقبل الترجمة في دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآلي، والتي لديها القدرة على إحداث ثورة في طريقة ترجمة اللغات.
أحد الاتجاهات الرئيسية الاعتماد المتزايد على أدوات الترجمة الآلية machine translation tools. وتستخدم هذه الأدوات الخوارزميات والذكاء الاصطناعي لترجمة النص بسرعة أكبر وتكلفة أقلّ، وكميات كبيرة من المحتوى، مع التأكيد على أهمية الخبرة البشرية، على الأقلّ حتى الآن.
تطوّر مهم آخر هو ظهور الترجمة الآلية العصبية neural machine translation، والتي تستخدم تقنيات التعلّم العميق لتحسين جودة الترجمات. وبتحليل كميات هائلة من البيانات والأنماط، يمكن للترجمة الآلية العصبية إنتاج ترجمات أكثر دقّة تشبه الترجمات البشرية.
كما نشير إلى دمج منصات الترجمة المستندة إلى السحابة cloud-based translation platforms، والتي تمكّن المترجمين من التعاون والعمل عن بُعد في مشاريع الترجمة، ما من شأنه تحسين الإنتاجية.
وهناك اتجاه مهم آخر هو الحاجة إلى أن يتكيّف المترجمون مع التكنولوجيات المتطوّرة وأشكال الاتصال الجديدة. ويفرض ظهور محتوى الوسائط المتعدّدة (مثل مقاطع الفيديو والبودكاست) تحديات جديدة على المترجمين من حيث ترجمة اللغة المنطوقة والمراجع الثقافية.
ومن المرجّح أن يتأثر مستقبل الترجمة بالتقدّم في معالجة اللغة الطبيعية natural language processing وتقنيات التعرّف على الكلام speech recognition technologies. ويمكن لهذه التقنيات تحسين دقّة وكفاءة الترجمات من خلال تحليل ومعالجة مدخلات اللغة الطبيعية بشكل أكثر فعّالية.
بشكل عام، تفرض هذه الديناميكية البقاء على اطّلاع بأحدث الاتجاهات في مجال الترجمة، وتطوير المهارات المتخصّصة، والتكيّف مع التقنيات الجديدة.

الترجمـــة بالجزائــــر

يفترض أن تحتل الترجمة مكانة هامة في الجزائر، وذلك بحكم تاريخ البلاد وجغرافيتها، فهي قريبة من مراكز إشعاع حضاري كثيرة، وتواصلها طبيعي وممتد في التاريخ مع أنظمة لغوية مختلفة، ناهيك عن تنوّعها الثقافي واللغوي، حيث نجد كتّابا جزائريين يكتبون بالعربية، والأمازيغية، وآخرين بالفرنسية، ولغات أخرى كالإنكَليزية والإسبانية والإيطالية، ما يجعلنا في حاجة إلى «ترجمة داخلية» تمكّننا من القراءة لمؤلفينا.
مع ذلك، يبقى واقع الترجمة أقلّ من المأمول.. وفي هذا السياق، تقول د.وسام تواتي (جامعة الجزائر 2) إنّ الإشكال لا يكمن في الكفاءات البشرية والعلمية، بقدر ما هو متعلّق باستراتيجية مستعجلة لاستغلال الأدوات اللازمة لمواكبة التطورات الكبرى بما يوائم الواقع المعيشي، ومدّ جسور المعرفة بين مختلف التخصّصات مع الترجمة، التي من شأنها أن تقوم بدور مصيري في تحرير الطاقات الوطنية وتحفيزها.
فيما ترى د.هاجر ذيب (جامعة عنابة) أنّ الترجمة تعرّف عموما بأنّها عملية نقل من لغة إلى لغة أخرى، غير أنّ هذا التعريف من الناحية النظرية لم يقف عند حدود النص، بل تعداه إلى نقل نص أو ثقافة أو خطاب أو فكرة أو رسالة أو أثر أو غيرها من المفاهيم التي لم تتعدّد فحسب، بل طرحت مسائل جوهرية في حقل الترجمة بوصفها علما وفنا ومهارة، حتى أصبح المهتمون بها في المجال من مترجمين وتراجمة وأكاديميين وطلبة يخلطون بين المدرسة والنظرية والمقاربة والاستراتيجية والتقنية.
من أجل ذلك، ترافع د.ذيب لصالح تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة الشائعة في مجالي الترجمة النظري والتطبيقي، في إطار مواءمة التكوين في شعبة الترجمة على المستوى الوطني، وهو بالمناسبة هدف الملتقى الوطني الأول للترجميات (ديسمبر المقبل)، الذي ترأسه د.ذيب، والذي تدعو من خلاله إلى «التفكير الإيجابي لإيجاد سبل وحلول ترقى بمجال الترجمة التعليمية إلى مصفّ المهنية في سوق العمل، بما يخدم الاقتصاد الوطني والتنمية المستدامة، ويجعل من طالب الترجمة مستقبلا رياديا وعنصرا فاعلا في بناء وطنه».
من جهته، اقترح د.محمد شوشاني عبيدي (جامعة الوادي) توحيد الجهود في جمعية وطنية لأساتذة الترجمة، تكون ساحة للنقاش وتبادل الآراء، وطالب بالتفكير في تحسين وضع سوق العمل في مجال الترجمة، مع ضرورة انخراط الجميع في هذا النقاش بما يخدم التخصّص ويرفع من شأنه.
وسبق لشوشاني عبيدي الدعوة إلى «مشروع الجائزة الجزائرية للترجمة»، ويأتي في شطرين: شطر أول هو الجائزة العامة، وتكون في مجالات كالعلوم والتكنولوجيا، والأدب والفنون والإبداع، وشطر ثانٍ هو جائزة المترجمين الشباب، موجّهة تحديدا لطلبة معاهد الترجمة والمتخرّجين حديثا منها.
ولأهمية الترجمة الإبداعية، وباعتبارها مختصّة في ترجمة المسرح، حثّت د.ذيب المترجمين والأكاديميين والمبدعين في مختلف المجالات إلى بناء شبكة علاقات عمل مثمرة في ترجمة النص الإبداعي.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19585

العدد 19585

الأربعاء 02 أكتوير 2024
العدد 19584

العدد 19584

الثلاثاء 01 أكتوير 2024
العدد 19583

العدد 19583

الإثنين 30 سبتمبر 2024
العدد 19582

العدد 19582

الأحد 29 سبتمبر 2024