السيرة الذاتية نوع أدبي يركز على حياة الكاتب وتجاربه الشخصية، وهي شكل من أشكال السرد القصصي غير الروائي، يتيح للكاتب التأمل في ماضيه ومشاركة رؤاه الشخصية مع القراء. وتتميز بتقديمها سردًا مباشرًا لحياة الكاتب، متيحة فهمًا أعمق للشخص وتجاربه، وموفرة رؤى أوسع للتجربة الإنسانية، مع قدرة كبيرة على الإلهام. وعلى غرار باقي أشكال الإبداع، تعرّضت السيرة الذاتية لتأثيرات التكنولوجيا، إلى حدّ الحديث عن نشأة “سيرة ذاتية رقمية”.
قد نؤكّد جميعا أنّنا نعرف الزعيم الجنوب إفريقي الراحل نيلسون مانديلا، ولكن المؤكد هو أننا سنعرفه أفضل بكثير حينما نقرأ سيرته الذاتية “مسيرة طويلة نحو الحرية” (Long Walk to Freedom). هكذا تؤثّر السّير الذاتية فينا، وفي وعينا وإدراكنا للأشياء.
التّـعريــــف والنــّشـــــأة
تعتبر سامية بابا (جامعة الجزائر 2) أن أشهر التعريفات للسيرة الذاتية تعريف فيليب لوجون الذي يقترح حدّا في كتابه الأول عن الموضوع (1971) مفاده أن: “السيرة الذاتية هي حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز عن حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة”.
وتقول الباحثة إن هذا الحد عرف رواجا كبيرا في دراسات السيرة الذاتية، ويركز على أربعة عناصر: شكل الكلام، والموضوع المتطرق إليه، ومنزلة المؤلف (التطابق بين المؤلف والراوي) وموقع الراوي (التطابق والشخصية الرئيسية). ولما كانت هذه العناصر ليست خاصة بالسيرة الذاتية، عمد لوجون إلى المقارنة مع باقي الأجناس الأدبية القريبة كالرواية. ثم تقول الباحثة إن لوجون تراجع عن هذا التعريف معلنا عن حد آخر للسيرة الذاتية في كتابه “أنا أيضا” (1986)، وفيه يقول: “السيرة الذاتية هي أثر أدبي، رواية، شعر، مقالة، دراسة فلسفية...يسعى من خلاله المؤلف بقصد مضمر أو صريح إلى حكاية حياته وعرض أفكاره وتشخيص إحساساته”. وبهذا التعريف وسع “لوجون” مجال السيرة الذاتية بإضافة عنصر جديد هو القصدية التي من شأنها أن تكون مضمرة أو صريحة، مع الحفاظ على عنصر الحكي أي الطابع الاسترجاعي، أما النقطة الجديدة التي طرأت فهي الشعر عوض النثر الذي أصر عليه في التعريف الأول.
من جهتها، تلاحظ الهوارية عراج (جامعة وهران 1)، أنه إذا كان النقد الحديث قد حدّد المجال الأجناسي للسيرة الذاتية باعتبارها نوعا من الكتابة المتعلقة بأدب الذات، فإنه لم يحسم نهائيا في مسألة تعريف هذا الجنس الأدبي تعريفا علميا دقيقا.
وفيما يخص نشأة وتطور تاريخ السيرة الذاتية، تنقل سامية بابا بأن “الاعترافات” لجان جاك روسو (1712) أول عمل سير ذاتي في العصر الحديث حسب المقاييس التي تم وضعها، ما معناه أن للغرب السبق في الكتابة السير ذاتية. ولكن “جورج غوسدورف” يعارض هذا الطرح ويعتبر أن الكتابة عن الذات هي حقيقة لا زمنية، فهي بالنسبة إليه قد قطعت قرونا لأنها حاجة أبدية للإنسان.
عربيا، أشارت الباحثة إلى أنّ سيرة طه حسين “الأيام” (1926) بأجزائها الثلاثة تعد أول عمل عربي في العصر الحديث، ويعود سبب هذا الاختيار لجرأة الطرح من جهة، وصراحته وتقديمه للحقيقة من جهة أخرى، وهناك أمثلة كثيرة في الساحة العربية الحديثة من بينها “سبعون” لميخائيل نعيمة، و«أنا” للعقاد، و«حياتي” لأحمد أمين، و«خارج المكان” لإدوارد سعيد.
وتلاحظ حليمة بولحية (جامعة سكيكدة)، أن التقاليد العربية التي تميل إلى التكتم والتستر، إضافة إلى الطابوهات التي تحكم المجتمع العربي، آلت دون الانغماس في هذا النوع، والكتابة فيه بكل جرأة وصدق دون الأخذ بالاعتبار لأي سلطة انطلاقا من سلطة النفس ذاتها، واكتفت الأقلام العربية بتدوين سيرتها الفكرية ومشوارها العلمي منذ عهد الطفولة إلى وقت الكتابة، مرورا بمراحل حياة الكاتب والصعوبات والعراقيل التي واجهته لتحقيق ما وصل إليه الآن، خاصة الظروف الاجتماعية.
خصائص ومميّــــزات
تركّز السيرة الذاتية على تجارب الكاتب الشخصية ومنظوره، وعلى عكس أشكال الأدب الأخرى، يقوم المؤلف بتوثيق حياته. كما تركّز السيرة الذاتية على التأمل الذاتي والداخلي، حيث يتأمل الكاتب في أفعاله وخياراته وتجاربه الماضية. وغالبًا ما تتضمن السير الذاتية عناصر من النمو والتحول الشخصي على مدار حياة الكاتب، وقد تتضمن أيضًا عناصر من السياق التاريخي والثقافي.
ولعل من أهم مميزات السيَر الذاتية، قدرتها على إلهام القراء وتمكينهم، ومنحهم الأمل والشجاعة والدافع للتغلب على مختلف التحديات والعقبات، ما يجعلها شكلا أدبيا قيما ومؤثرا.
ويذكر حسين تروش عددا من خصائص السيرة الذاتية، منها أنها تكتب مرّة واحدة لا تتكرر، ولذلك يكون النص السير ذاتي عند كاتبه نصا مهما في حياته الأدبية والاجتماعية، بواسطته يتوّج تجربة حياة، وهو يعلم أنه لن يعود إليها مرة أخرى لأن الحياة قد لا تسعفه بالوقت الكافي ليعيد كتابة سيرة حياته الشخصية، وإن أسعفته فإن ما أراد أن يقوله قد قاله.
ويضيف أن فعل الكتابة في هذا الجنس الأدبي هو فعل استحضار للذكريات واستعادة لماضٍ بعيد، وهو فعل عسير ولكنه يبعث ضربا من اللذة الفنية لا يتوفّر في مجالات إبداعية أخرى، ففي هذا الجنس الأدبي يعيش المؤلّف لحظتين زمنيتين، لحظة الحاضر بكل تفاعلاته، ولحظة الماضي بكل ذكرياته، لحظة الشيخوخة والعجز واقتراب الرحيل، ولحظة الفتوة والشباب الغائبين، ولكن في كلا اللحظتين انفعال نفسي يربط بين الكاتب والقارئ. وانطلاقا من هذا التفاعل بين الذات والزمن والقارئ تنشأ السيرة الذاتية التي لا يمكن أن تتوقف عند مجرد سرد الأحداث الماضي أو استحضار لذكريات الطفولة والشباب وذكريات العمر، بل هي بحث عن معنى جديد لوجود الكاتب من خلال التفاعل بين الذات والكتابة. وهذا التفاعل المتبادل بين هذه الأطراف المتعددة (الذات، الزمن، الكتابة، القارئ) يعطي السيرة الذاتية مجالا واسعا للتعبير تتعدد فيه الموضوعات وتتنوع فتجعل من السيرة الذاتية نصا مفتوحا على القراءة والتأويل.
وبخصوص علاقة السيرة الذاتية بالرواية، يقول الباحث إنّ بداية الرواية كانت سيرا ذاتية مثلت حياة أصحابها في أشكال أدبية هامة تعود إلى العصور القديمة، وهو ما يوضحه باختين، وتظل العلاقة بين السيرة الذاتية والرواية أكثر التباسا، فكثيرا ما يُنظر إلى الرواية على أنها جنس سير ذاتي. وظهرت أجناس وسيطة بين الرواية والسيرة الذاتية، مثل رواية السيرة الذاتية (roman autobiographique) والسيرة الذاتية الروائية (auto biographie romancée).
ويذكر تروش ملاحظتين أساسيتين يمكن تقديمهما حول بنية الرواية وبنية السيرة الذاتية: فالسيرة الذاتية بنية مغلقة ومنتهية لأنها تنتهي مع حياة كتابها، وبهذا فهي لا تمتد في المستقبل، وتلغي كل بعد في هذا الاتجاه، ومن حيث البناء فهي تشبه الأسطورة والملحمة. أما الرواية فتبدو بنيتها منفتحة على كل الأزمنة، فهي تصور حياة متطورة ونامية، ويشهد القارئ أهم اللحظات في حياة الشخص وهي تتطور أمامه.
السّـيرة الذّاتيـة الرّقمية
يلقي أحمد بدير شعبان الضوء على حقل أدبي ناشئ لم تتضح معالمه بعد، ولكن يمكن أن نطلق عليه اسم “السيرة الذاتية الرقمية”، ويقول الباحث إن هذا الحقل يهتم برصد طبيعة عرض الذات وإدارة الهوية الرقمية، وكتابة الحياة على مواقع الإنترنت وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وتوضيح الفرق بينه وبين النمط التقليدي الذي اعتاد عليه الكتاب في كتابة سيرهم، واستعادة ذكرياتهم في سرد حكائي على الورق، في شكل الكتاب المطبوع، وهو ما انعكس على الدراسات النقدية والأكاديمية التي ركزت وما زالت على أنواع السيرة الذاتية المستندة إلى المطبوعات، مع ما لذلك من أثر في انتشار المفاهيم المألوفة للهوية الشخصية والاجتماعية.
ولكن العالم الديناميكي عبر الإنترنت بدأ في إنتاج مفاهيم جديدة للسيرة الذاتية، يؤكد الباحث، وسيكون لذلك آثاره القوية على المستقبل الرقمي للسيرة الذاتية، من حيث الكتابة ووسائل عرض الذات وسرد ذكرياتها بطريقة تفاعلية تشرك المتلقي في مناقشة أحداثها، والتعليق على قضاياها، مما سينعكس على بلورة شكل جديد للهوية الذاتية يمكن أن يطلق عليها “الهوية الرقمية”.
وممّا خلص إليه الدكتور شعبان أنّ السيرة الذاتية فن مرن له وجود ديناميكي يتجاوب بسرعة مع المتغيرات الاجتماعية والتقنية، وهذا يتجلى في التجاوب السريع مع الوسائط المتعددة، وانتقال التعبير عن الذات من الحكي المكتوب على الورق إلى النشر التفاعلي وسرد السيرة المصورة.
كما أنّ السيرة الرقمية تتوافق مع السيرة التقليدية المكتوبة في وحدة الدافع والمتمثل في الرغبة في نقل الخبرات والتواصل مع الآخرين ولكنها تختلف عنها في المرونة وإمكانية التغيير، حيث إن السيرة التقليدية ثابتة ويغلب عليها التسلسل الزمني، ويصعب تغيير محتواها أما السيرة الرقمية يغلب عليها الانتقائية والمرونة ويمكن تغيير محتواها بواسطة الشخص المعني أو بواسطة الآخرين، إضافة إلى أنها تتميز بالعلنية والمكاشفة وإشراك الجمهور المتفاعل في صنعها.
وقد أفسحت السيرة الرقمية المجال لمصادر معاصرة للسيرة الذاتية، فإذا كانت الذاكرة هي المصدر الرئيس للسيرة الذاتية التقليدية، إلا إنها لم تعد كافية مع السيرة الرقمية التي استندت على المذكرات والصور، وكذلك الهواتف المحمولة الذكية التي صارت تخزن الصور ومقاطع الفيديو والمعلومات الحساسة في صورة يوميات وتزامنها مع الأجهزة الأخرى حتى صارت رافدا مهما من روافد السيرة الذاتية الرقمية المعاصرة.
ولما كان الأدب الرقمي يتميز بالتفاعلية (l’interactivité) فقد سمح بالعلاقات التداولية بين المرسل والمتلقي، عبر الوسيط الإعلامي (الصوت والصورة والنص) وبالتالي تبادل الملاحظات والانتقادات والتعليقات المختلفة بصورة مباشرة، على صفحة النص بحضور الكاتب والمتلقي.
وعلى الرغم من اعتماد السيرة الرقمية على وسائل الميديا الحديثة، كالصوت والصورة والفيديو، يظل السرد المكتوب دائما هو الأسلوب الأمثل للتعبير عن الذات سواء بطرقة تقليدية أو رقمية، فالسرد هو أحد مكونات الهوية، يقول الباحث، مضيفا أن الصورة تعد هي الأخرى نصا ثقافيا، وأحد أهم عناصر الإبداع في العصر الرقمي، بل هي شريك أساسي في تشكيل الهوية والتعريف بالذات على شبكة الإنترنت، حيث تتسم بالتعدد الدلالي وتستطيع، مع الفيديو، أن يرويا ما لا تستطيع الكلمة أن تشرحه.