الطفل لا يحتـاج أبويــن مثاليين قـدر حاجتـه إلى حضـور دافــئ
بنـــاء علاقـة متوازنــة بـين الزمــن الرقمـي والزمــن الإنسـاني..
العطلـة الصيفية مساحـة ذهبيــة تعيـد للأســرة مركزيتهــا في حيـاة الطفــل
ترى الباحثة في علوم التربية والتعليم المبكر الأستاذة ناعم زينب جيهان أن العطلة الصيفية تمثل فرصة ذهبية لإعادة بناء الرابط العاطفي داخل الأسرة، عبر أنشطة تجمع بين اللعب والتعلم، وتمنح الطفل حرية الاختيار ضمن إطار مرن وآمن. وقالت إن التكنولوجيا ليست بديلا للعلاقات الإنسانية، وعلى الأسرة الواعية أن تدمج هذه الوسائط الرقمية بذكاء في المسار التربوي، من خلال المرافقة الهادئة، والقدوة الصامتة، وتخصيص أوقات خالية من الشاشات، بما يعيد التوازن بين الزمن الرقمي والزمن الإنساني.
- الشعب: كيف يمكن للأسرة أن تواكب العصر دون أن تفقد سيطرتها على المسار التربوي السليم؟ وهل من استراتيجيات عملية لتحقيق هذا التوازن؟
ناعم زينب جيهان: مواكبة العصر لا تعني بالضرورة الانصهار الكامل في وسائطه، بل تعني القدرة على اختيار الوعي المناسب في كل مرحلة، فالأسرة المعاصرة مطالبة اليوم بأن تكون ملمة بالأدوات الرقمية من جهة، ومتمسكة بجوهرها التربوي من جهة أخرى، وهذا التوازن لا يبنى عشوائيا، بل يحتاج إلى وعي واستراتيجيات دقيقة.. من أبرز هذه الاستراتيجيات العملية: أولا، التحول من الرقابة الصارمة إلى المرافقة الواعية، فبدل منع الطفل من استخدام الوسائل الرقمية، يمكن توجيهه نحو استخدامها بشكل هادف، مع إشراكه في مناقشة الحدود والضوابط. ثانيا، تخصيص “أوقات خالية من الشاشة” داخل البيت لحماية الزمن العائلي من التشتيت، وخلق مساحات للتفاعل الإنساني الحقيقي عبر الحوار، اللعب الجماعي، أو المطالعة. ثالثا، دمج التكنولوجيا في التربية لا خارجها، من خلال استخدام التطبيقات التعليمية، والقصص التفاعلية، والمنصات الآمنة التي تعزز المفاهيم القيمية والمعرفية، رابعا، تنمية “الوعي الرقمي” لدى الطفل منذ الصغر، أي تعليمه أن الوسائل ليست غاية، بل وسيلة، مع فتح حوار دائم حول المصداقية، الخصوصية، وتأثير المحتوى. خامسا، أن يكون الوالدان قدوة رقمية، لأن الطفل يتعلم بالسلوك أكثر من الأقوال، فإذا لاحظ توازنا في استخدام أجهزة الراشدين، سيكون أكثر تقبلا للضوابط المفروضة عليه.. باختصار، الأسرة الواعية ليست تلك التي تمنع التكنولوجيا، بل تلك التي تحسن توظيفها دون أن تفقد بوصلة القيم، والتربية اليوم لا تقوم على التحكم، بل على الحضور، المصاحبة، والقدرة على بناء علاقة متوازنة بين الزمن الرقمي والزمن الإنساني.
- ما هو أثر الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية على الطفل في سنواته الأولى؟ وكيف يمكن توجيهه نحو استخدام تربوي نافع؟
في السنوات الأولى من عمر الطفل - أي ما بين 0 و6 سنوات - يكون الدماغ في ذروة نموه العصبي والمعرفي، وتتشكل أنماط التفاعل والانتباه والعلاقات الاجتماعية. وهنا تحديدا يكمن الخطر في الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية، والذي يمكن أن يخل بتوازن هذا النمو الدقيق. من أبرز آثاره السلبية، تأخر النمو اللغوي والتعبيري، حيث تحرم الأجهزة الطفل من التفاعل الشفهي المباشر، وهو أساس تعلم اللغة.. من آثاره أيضا ضعف في الانتباه والتركيز، بسبب تعود الدماغ على الإشباع السريع والمؤثرات البصرية المتلاحقة، ما يضعف قدرته على الصبر والتفكير العميق، كما يسبب خللا في العلاقات الاجتماعية والعاطفية، إذ يستبدل الطفل العلاقة الوجدانية مع المربي أو الوالدين بشاشة صامتة، ما يؤثر على تطوره العاطفي، كما يترتب عن ذلك ارتفاعا في سلوكياته العدوانية أو الانسحابية، خاصة عند الانفصال المفاجئ عن الجهاز، أو التعرض لمحتوى غير مناسب لعمره.. الأجهزة ليست العدو، لكن ترك الطفل معها دون مرافقة، هو الخطر الحقيقي، والتكنولوجيا تصبح نافعة حين تتحول من وسيلة استهلاك، إلى أداة تواصل وتعلم، تراعي عمر الطفل ونموه.
- نحن في فترة عطلة صيفية، كيف ترين دور العطلة في تعزيز التربية الأسرية؟ وكيف يمكن استغلالها بين الراحة والتعلم؟
العطلة الصيفية ليست مجرد استراحة من الدراسة، بل هي مساحة تربوية ذهبية تعيد للأسرة مركزيتها في حياة الطفل، بعيدا عن روتين المدرسة وضغط المهام.. هي فرصة للتقارب العاطفي، واستعادة الحوارات، وتجديد العلاقة بين الطفل وأسرته ضمن جو من الراحة والمرونة.. دور العطلة في تعزيز التربية الأسرية يتمثل في تقوية الروابط الأسرية من خلال قضاء وقت نوعي بعيدا عن التوتر اليومي، وتعزيز التعلم غير النظامي، عبر الأنشطة اليومية، الرحلات، والألعاب التربوية، كما يتيح الفرصة لاكتشاف مواهب الطفل وهواياته التي قد لا تظهر خلال العام الدراسي.. ويستفيد الطفل من تعلم مهارات حياتية، كالمسؤولية، التنظيم، التعاون، من خلال مشاركته في الأنشطة المنزلية أو المجتمعية.
- كيف نحقق التوازن بين الراحة والتعلم؟
من خلال تخصيص وقت يومي للأنشطة الذهنية الخفيفة، مثل القراءة، التلوين، أو القصص التفاعلية، دون ضغط. دمج التعلم باللعب، عن طريق ورشات منزلية أو زيارات تعليمية (كمتحف أو مكتبة أو مزرعة). منح الطفل حرية اختيار نشاطاته، مع توجيه غير مباشر نحو ما ينمي شخصيته. وتنظيم جدول أسبوعي مرن، يوازن بين الراحة، الأنشطة الحركية، والأهداف المعرفية البسيطة، مع إشراك الطفل في التخطيط للعطلة، مما يشعره بالانتماء وينمي حسّ المسؤولية؛ لذلك فالعطلة ليست فراغا، بل فسحة تربية مرنة، إذا أديرت بذكاء، تصبح مدرسة للحياة، حيث يتعلم الطفل أن الراحة لا تعني الكسل، والتعلم لا يعني الملل.
- صدر لك العديد من الإصدارات الأكاديمية وسلسلة تنمية تربوية، ما هي أبرز المحاور التي تتناولينها؟ ولمن توجهين هذه المؤلفات؟
تندرج مؤلفاتي ضمن مشروع متكامل يهدف إلى إعادة بناء الوعي التربوي انطلاقا من الطفولة المبكرة، باعتبارها المرحلة الحاسمة في تشكيل الإنسان. وقد حرصت من خلال إصداراتي على الربط بين البعد الأكاديمي والديناميكية المجتمعية، فجاءت كتبي متنوعة في محاورها لكنها موحدة في رؤيتها التربوية والإنسانية.. أبرز المحاور التي أتناولها: . الوعي النفسي والاجتماعي عند الطفل، كما في كتاب “فن تشكيل الوعي النفسي عند الناشئ بين العاطفة والحدود”.. التحولات الرقمية والتنشئة الحديثة، وهو ما ركزت عليه في “أبعاد التربية في عصر التكنولوجيا - التنشئة بين الفرص الرقمية والحدود التربوية”.. هناك أيضا قضايا الطفولة المبكرة من منظور ميداني شمولي، كما تناولته في “آفات الطفولة المبكرة: منظور الرعاية والتنمية لطفل ما قبل المدرسة”، إضافة إلى تحويل الفعل التربوي إلى ممارسة واعية موجهة بالقيم، وهي فلسفة السلسلة التي أطلقتها تحت عنوان: “تنشئة الطفل .. فن ومهارة”.. الفئة المستهدفة هي: الأمهات والمربون، الباحثون عن أدوات تربوية عملية قائمة على أسس علمية، إضافة إلى الأساتذة والباحثين في علوم التربية ومرحلة الطفولة، لما تتضمنه الكتب من أطر نظرية ومراجع حديثة، طبعا، يستفيد من الكتب الطلبة والمهتمون بالتنمية البشرية التربوية، خاصة الذين يسعون إلى التكوين الذاتي الجاد، كما يستفيد الفاعلون في رياض الأطفال ومراكز الطفولة، ممن يحتاجون إلى دليل تربوي يجمع بين الممارسة والتأصيل.
مؤلفاتي لا تخاطب الطفل مباشرة، بل تخاطب “الراشد الذي يصنع وعي الطفل”، لأني أؤمن أن بناء الطفل يبدأ ببناء رؤية من يرافقه، لا فقط بتقديم نصائح جاهزة.
- ذكرت أن لك براءة اختراع لمؤسسة ناشئة مبنية على منهج حديث في التعليم المبكر، هل يمكنك أن تشرحي لنا مضمون هذا المشروع وما يميزه عن الطرق التقليدية؟
نعم، المشروع الذي حاز على براءة اختراع هو نموذج تربوي مبتكر يحمل اسم “منهج التنشئة النفسية-التكنولوجية المتكاملة في مرحلة ما قبل المدرسة”، وهو نابع من إيماني بأن الطفل المعاصر لا يحتاج إلى تكديس المعارف، بل إلى “تنشئة متوازنة” تراعي أبعاده النفسية، الوجدانية، والرقمية، ويقوم المنهج على دمج الوعي النفسي (الذكاء العاطفي، الإدراك الذاتي، إدارة الانفعالات) مع الوعي التكنولوجي المبكر (التفاعل الآمن، التعلم الذكي، التربية الرقمية) داخل بيئة تربوية مرنة ومحفزة، تشرك الطفل كمحور لا كمستقبل سلبي.. إجمالا.. المشروع يترجم هذا المنهج عبر وحدات تربوية مرقمنة موجهة لأطفال ما قبل المدرسة. أنشطة حسية -رقمية، تحاكي واقع الطفل وتنمي قدراته الذاتية. إطار عمل تكويني شامل للمربّين والأهل، يعيد بناء دور الراشد كمرافق وعي لا كسلطة تقليدية، وما يميزه عن الطرق التقليدية هو الانتقال من التلقين إلى التمكين، حيث لا يقدم المحتوى للطفل بل يبنى معه. الدمج المنظم للتكنولوجيا، لا رفضها ولا إطلاقها دون وعي، وهو يعطي أولوية للجانب النفسي والانفعالي كجزء من التعلم، وليس كعنصر خارجي.. أيضا، اعتماد منهج استجابة الطفل، وليس فقط الأهداف التعليمية المفروضة. فضلا عن أنه يعتبر كمقاربة تربوية شمولية، تخاطب الطفل ككل متكامل وليس كمجموعة مهارات مجزأة. وأتطلع من خلاله إلى إعادة صياغة مفهوم التعليم المبكر في العالم العربي، ليكون أكثر إنسانية، وواقعية، وابتكارا.
- من خلال تجربتك كأستاذة باحثة، ما المبادئ الأساسية التي ترين أنها يجب أن تؤسس لأي مشروع تربوي ناجح داخل الأسرة الجزائرية؟
أي مشروع تربوي ناجح داخل الأسرة الجزائرية أو غيرها لا يبنى على العفوية فقط، بل يحتاج إلى تصور واضح، ومبادئ مرجعية توجه الفعل اليومي، ومن خلال تجربتي البحثية والميدانية، أرى أن هناك خمسة مبادئ جوهرية يجب أن تشكل الأساس لأي تربية أسرية سليمة وفعالة:
- أولا: الوعي قبل التربية، فالأسرة الواعية لا تربي برد الفعل أو استنساخ ما ورثته، بل تبدأ من فهم عميق لنفسية الطفل، لاحتياجاته في كل مرحلة، وللتغيرات المجتمعية من حوله.
- ثانيا: الحضور العاطفي لا المادي فقط، ويتمثل في أن النجاح التربوي لا يقاس بما نوفره من وسائل، بل بمدى حضورنا الإنساني والوجداني مع الطفل. أن نراه، نصغي له، نحتويه..هذه أبجديات لا تعوضها أي تكنولوجيا.
- ثالثا: الاتساق بين القول والفعل، فالطفل لا يتربى بما نقوله، بل بما نفعله أمامه. والمصداقية التربوية تبدأ من التماهي بين القيم التي نغرسها، وسلوكياتنا اليومية.
- رابعا: المرونة بدل التسلط، لأن تربية اليوم تتطلب قيادة ناعمة لا سلطة صارمة. المرونة التربوية تعني أن نربي بشخصية قوية لكن غير قاسية، وأن نضع الحدود دون أن نكسر الطفل.
-* خامسا: المشاركة بدل الفردية، وهذا لأن الأسرة ليست فردا واحدا يصدر التعليمات. بل مشروع تربوي جماعي يشرك الجميع: الأب، الأم، وحتى الطفل في بعض القرارات. فكلما شعر الطفل بكونه طرفا فاعلا، تعزز شعوره بالمسؤولية والانتماء.
- رسالتك للأمهات والآباء في زمن السرعة الرقمية والانشغالات المتزايدة..
إلى كل أم وأب في هذا الزمن السريع.. اعلموا أن الطفل لا يحتاج إلى أبوين مثاليين، بل إلى حضور صادق يشعره بالأمان والانتماء.. احضروا بقلوبكم قبل أجسادكم.. اصنعوا من اللحظات البسيطة وقتا ذا معنى.. لا تتركوا التربية للصدفة، بل ابنوا وعيكم كما تبنون مستقبل أطفالكم.. تذكروا.. أنتم في نظر أطفالكم العالم الأول الذي لا يعرفون غيره، والقدوة الأولى، والحنان الأول. فلا تجعلوا الانشغال يسرق منكم دفء الارتباط، ولا تتركوا السرعة تقتل متعة التربية.