الجزائريّــــــــــــــون قدّمـــــــــــــــوا روائـــــــــــع سيريــــــــــــة ومكتبتنـــــــــــــا تزخـــــــــــر بأسمـــــــــــاء لامعــــــــــــــة
أكّدت الباحثة في الأدب والنقد الدكتورة دلال حلايمية، أنّ السيرة الذاتية تُعد من الأجناس الأدبية التي تثير العديد من الإشكالات على مستوى المفهوم والنشأة، وكذلك على مستوى الحدود والتداخلات الفنية، إلى جانب الإشكال القائم بين الصدق والتخييل، مشيرة إلى أن هذا الفن قد نال حظّا من اهتمام الأدباء الجزائريين الذين جعلوا منه وسيلة للبحث عن ذواتهم وتحديد هوياتهم، خصوصا في ظل التعدد الحاصل في مرجعياتهم التاريخية، الثقافية، الاستعمارية والواقعية.
قالت الدكتورة دلال حلايمية في تصريح لـ “الشعب”: “لقد استثمر الأدباء الجزائريّون السيرة الذاتية باعتبارها فضاء لاستعادة الذات وسط المتغيرات المتعددة، فبرزت أسماء وازنة خاضت هذا المسار الإبداعي، نذكر منها: مالك بن نبي، محمد البشير الإبراهيمي، آسيا جبار، ياسمينة خضرا، ربيعة جلطي، الحبيب السائح، أبو العباس برحايل، فيصل لحمر وغيرهم، حيث اعتمدوا على الذاكرة كمحورٍ أساسي لبناء نصوصهم، فاستقوا وقائعها من تجاربهم الخاصة ومعتقداتهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية”.
وأضافت الدكتورة حلايمية، أنّ السيرة الذاتية الجزائرية تتميّز بتنوع في أساليب كتابتها، حيث تتراوح بين النزعة الذاتية والنزعة الموضوعية، وبين الحقيقة والتخييل، كما تتداخل فيها أجناس أدبية متعددة، مثل الرواية، المذكرات، اليوميات، الاعترافات، وأسلوب المونولوج. وأشارت إلى أن هذه الخصوصية الأدبية جعلت من السيرة الذاتية الجزائرية فضاء رحبا يتيح للكاتب أن يعبر عن مواقفه، معاناته، تطلعاته، وحتى عن مواطن ضعفه، ما يكسب النص عمقًا إنسانيا واضحا.
وأوضحت حلايمية أنّ من أبرز سمات السيرة الذاتية في الجزائر هو وعي الذات الكاتبة بقيمة فعل الكتابة وتوثيق اللحظة والتجربة والمعاناة الشخصية والجمعية في آن واحد، وهذا ما يدفع بالكتّاب أحيانا إلى التخييل، أو إلى تقمّص شخصيات غير حقيقية كنوع من القناع السردي، بهدف مراوغة الرقابة، أو كوسيلة فنية تدمج بين الاعتراف والتخيل السردي، الأمر الذي يفتح أمامهم المجال لاستخدام تقنيات متنوعة مثل العودة إلى الماضي، والاسترجاع، والاستباق، ما يجعل السرد أكثر ديناميكية وثراءً.
وأكّدت المتحدّثة أنّ بعض الكتّاب مثل أبو العباس برحايل في سيرته “وتلك الأيام”، قد برعوا في خلق نوع من الحوار بين الكاتب والقارئ، وجعلوا من هذا اللقاء السردي وسيلة لفهم الذات ومساءلتها، حيث قالت: “نجد برحايل يروي في إحدى محطات حياته الجامعية قصة صديقه الذي كان يشاركه الاهتمامات الفكرية والقراءة والنقاش، ويذكره بشفافية لافتة قائلا إنه استعار منه كتاب (الغربال) لميخائيل نعيمة، بل بالأحرى استحوذ عليه ولم يُعِده قط. وهو بهذا يكسر التوقعات، ويعرض صورة واقعية صادقة تعكس بساطة الحياة، وتكشف جوانب غير مثالية للمجتمع”.
وأشارت المتحدّثة إلى أنّ مثل هذا النوع من الكتابة يكشف عن التناقضات الكامنة في المجتمع، ويمنح القارئ فرصة التأمل والتفاعل مع أحداث النص، بل يدفعه أحيانا إلى المقارنة بين الواقع المعيش والمتخيل السردي، ويخلق ما يسمى بالميثاق السيري بين الكاتب والمتلقي، حيث يكون الأول مسؤولا عن إنتاج نص صادق فنّيًا، ويكون الثاني مسؤولا عن إعادة تشكيل هذا النص وفق تجربته ووعيه وثقافته.
وشدّدت الدكتورة حلايمية، على أنّ السيرة الذاتية الجزائرية قد تطورت لتصبح نوعا أدبيا قائما بذاته، يمتلك خصوصيات تميّزه عن نظيره العربي والغربي، وترتبط جذوره بالسياقات التاريخية والسياسية التي عاشها الجزائريون، وبالرغبة في إثبات الذات داخل مجتمع يعاني من الانشطار الثقافي بسبب الاستعمار ومحاولات طمس الهوية. وأشارت إلى أنّ اللغة قد تحوّلت في هذا الجنس إلى أداة فاعلة للبحث عن الذات، وإعادة تشكيل الانتماء، والتعبير عن ذاكرة مزدوجة: فردية وجمعية.
وختمت حلايمية حديثها بالتأكيد على أنّ السيرة الذاتية الجزائرية لا تنفصل عن الكتابة الإنسانية الشاملة، فهي تعكس التوق إلى قول الذات، وتدوين لحظة إنسانية تتقاطع فيها التجربة الفردية مع الشأن العام، ما يمنح المتلقي تجربة مختلفة، ويجعله يعيد قراءة ذاته من خلال تجارب غيره، ويعيش حياة ثانية قد لا يستطيع أن يحققها في الواقع، بل يجدها في النص، عبر تقنية الذاكرة المكتوبة.