المجلس الاقتصادي والاجتماعـي والبيئي يؤكّـد..

الثقافــة الجزائريـة.. مقوّمـات عاليـة للاستثمـار المنتج

أسامة.إ

 تأطير تشريعي محكم يمنح الفعل الثقافي دينامية غير مسبوقة

شهد القطاع الثقافي حركية مسّت عديد الملفات، القانونية منها والتنظيمية. وحقّقت الثقافة العديد من المكتسبات، كان على رأسها قانون الفنان، وقانون الصناعة السينماتوغرافية، وقانون المقاول الذاتي، وتشجيع التكوين الفني والرقمنة، وحماية التراث. وبهدف تفعيل اقتصاديات الثقافة، ووضع اللبنة الأساسية لتجسيد الاستراتيجية الجديدة حول الاقتصاد الثقافي، تمت الاستعانة بمؤسّسات نخبوية وطنية، كان من بينها المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.


عرف قطاع الثقافة والفنون في الجزائر حركية جلية على مختلف المستويات، القانونية منها والتنظيمية، والإبداعية. ورغم العراقيل التي تعرضت إليها مساعي النهوض بالقطاع، لأسباب كان من أهمها الإغلاق الصحي بسبب جائحة كوفيد، إلا أنّ ذلك لم يمنع من تحقيق العديد من المكتسبات.

إنجازات.. ومكتـســبـات

قد يكون من الصعب التطرّق إلى جميع المكتسبات التي استفاد منها القطاع الثقافي مؤخرا، أو التفصيل فيها تفصيلا شافيا. ولعلّ من أهم المكاسب التي تدعّمت بها الثقافة، إصدار القانون الأساسي للفنان، وهو النص القانوني الذي طال انتظاره.
وقد أشاد المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، في التقرير الذي نشره في ماي 2024 تحت عنوان «التنمية الاجتماعية والبشرية.. أهم الإنجازات والرهانات 2019 – 2023»، أشاد بقانون الفنان، وصنّفه مع «النصوص التنظيمية الضامنة للحقوق والتماسك الاجتماعي».
وتحت العنوان الفرعي «تعزيز حقوق العمال والفنانين»، أشار المجلس إلى القانون الأساسي للفنان، بحيث «يحمي المرسوم رقم 23-376 المؤرخ 22 أكتوبر 2023 حقوق الفنانين، ويضمن لهم: نفس مزايا الضمان الاجتماعي التي يتمتع بها العمال الآخرون، وآلية سداد في حالة التوقف غير الطوعي للنشاط، وبطاقة فنان لتسهيل التعرف على وضعهم».
ودائما في الجانب الاجتماعي، أطلقت بوابة رقمية للاستفادة مـن المساعدة الاجتماعية، يختص بها المبدعون والفنانون الأعضاء في الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة.
كما صدر القانون المتعلق بالصناعة السينماتوغرافية، ويهدف هذا القانون إلى تحديد الأحكام المطبقة على الصناعة السينماتوغرافية، ولا سيما منها تلك المتعلقة بإنتاج وتوزيع واستغلال الأفلام السينمائية والترويج لها عبر مختلف الدعائم، وكذا تنظيم النشاطات المتصلة بها. كما أوكل هذا القانون إلى الوزير المكلف بالثقافة، وبالتنسيق مع القطاعات والهيئات المعنية، مهمة القيام بإعداد السياسة الوطنية في مجال الصناعة السينماتوغرافية، والسهر على تنفيذها.
ومن أهداف السياسة الوطنية في مجال الصناعة السينماتوغرافية، التطوير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للصناعة السينماتوغرافية، وتكييف الصناعة السينماتوغرافية مع التطورات والابتكارات التكنولوجية، وتطوير وترقية الاستثمار في الصناعة السينماتوغرافية، والرفع من القدرات التنافسية للسينما الجزائرية وتنوّع الإنتاج السينمائي الوطني، وترقية الذوق الفني والثقافة السينمائية للمواطن الراسخة في القيم الوطنية والمتفتحة على العالم، والحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيز اللحمة الوطنية.
ويمكن ملاحظة الجهود والمبادرات التي تترجم سعي الجزائر إلى تشجيع ريادة الأعمال في جميع المجالات، بما فيها الصناعات الثقافية. وقد أطلقت وزارة الثقافة والفنون مشروع حاضنة «مُبادرة Art»، وهي «مبادرة مبتكرة تهدف إلى دعم وتعزيز الصناعات الإبداعية في الجزائر»، كما شهدت البلاد إصدار القانون الأساسي للمقاول الذاتي، وأنشئت الوكالة الوطنية للمقاول الذاتي للإسهام في تنظيم الأنشطة الاقتصادية الجديدة، لا سيما في مجال الرقمنة، وتعزيز روح المبادرة من خلال تسهيل وصول الشباب إلى العمل الحر، وتشجيعهم على الاندماج في الاقتصاد الرسمي للبلاد. كما صدرت، مطلع الشهر الجاري، مدوّنة المهن الفنية، التي ضمّت 222 مهنة، مقسّمة على 9 مجالات فنية.
وفي مجال التكوين، كانت هذه السنة موعدا مع أول بكالوريا فنون في تاريخ الجزائر، حيث سجّلت ثانوية «علي معاشي» نسبة نجاح بلغت 79,45 بالمائة.

استراتـيجية جديدة.. بإسهام النخبة

لم تأت هذه المكتسبات من فراغ، بل كانت ثمرة إرادة سياسية على أعلى المستويات، واستشارات واسعة شملت أبناء القطاع الثقافي والفني بمختلف مكوّناته، ولكن أيضا استشارة الهيئات والمؤسّسات النخبوية الجزائرية، ومن بينها المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
مثلا، بهدف تفعيل اقتصاديات الثقافة، ووضع اللبنة الأساسية لتجسيد الاستراتيجية الجديدة حول الاقتصاد الثقافي، شهد مطلع 2020 انعقاد اللقاء التنسيقي الأول بين وزارة الثقافة والفنون والمجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، بمقر هذا الأخير.
وقالت وزيرة الثقافة والفنون، صورية مولوجي، حينها، إنّ للثقافة أهمية بالغة ليس فقط على مستوى التنشئة الاجتماعية للفرد الجزائري، وإنما أيضا لها بعد اقتصادي، إذ يمكن أن تشكّل مورداً اقتصادياً إضافياً يسهم بشكل كبير في التنمية المحلية والوطنية، وهو الأمر الذي صار من الواجب المضيّ فيه خاصة في ظلّ تبنّي الدولة لنظام اقتصادي جديد يسعى إلى استغلال كلّ الموارد لخلق اقتصاد حقيقي ودائم.
بعد ذلك بسنة، أيّ في أفريل 2021، نظمت وزارة الثقافة والفنون، بالتعاون مع المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، «منتدى الاقتصاد الثقافي»، وأكّدت الوزارة حينها على ما تكتسيه الثقافة من أهمية كبيرة في التنمية الحضارية بمختلف جوانبها، والتي يشكّل العنصر البشري الفاعل الأساسي فيها، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال، بناء فرد واع ومبدع خلاّق للثروة دون تغذية ثقافية صلبة ومستمرة مندمجة ضمن مسار تنشئته الاجتماعية.
وأضافت الوزارة حينها أنّ استراتيجيتها في تثمين واستغلال الموارد الثقافية الثرية والمتنوّعة التي تزخر بها بلادنا وتفعيل دورها في الاستثمار الثقافي الاقتصادي؛ تهدف إلى الانتقال بالثقافة من قطاع مستهلك إلى قطاع منتج يسهم في بناء صناعة ثقافية تتفاعل مع عدّة قطاعات اقتصادية واجتماعية ستستفيد حتمياً من حركية الصناعة الثقافية، الأمر الذي سينعكس بالإيجاب على التنمية الوطنية.
وتقوم هذه الاستراتيجية في بناء الاقتصاد الثقافي على تفعيل كلّ الموارد التي يزخر بها قطاع الثقافة والفنون والتي يمكن تثمينها اقتصاديا في خلق صناعة ثقافية، وهي تشمل المجالات الأساسية الآتية: صناعة الكتاب، صناعة السينما، صناعة العروض الفنية الحية، وصناعة السياحة الثقافية والتراثية، تؤكّد الوزارة.

تشريح اقتصاديات الثقافة

كان من ثمار التعاون مع المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، نشره، في مارس 2021، «دراسة حول الاقتصاد الثقافي في الجزائر، واقع وآفاق».
وتطرقت هذه الدراسة الشاملة، في 115 صفحة، إلى تحديد المفاهيم الأساسية المتعلقة بالثقافة، والفنون، والمعايير الدولية في هذا المجال. كما تطرقت إلى إمكانات الجزائر الهائلة على المستوى الثقافي، وجهود الدولة المتواصلة في دعمها.
ولكن، رغم كلّ هذه المجهودات، تورد الدراسة بعض المآخذ والملاحظات على دعم الثقافة: حيث نظرا إلى اعتماد تطوير قطاع الثقافة بشكل كبير على الميزانية العامة للدولة، تقول الدراسة، فإنّ هذه الأخيرة تلاحظ أنّ الميزانية المخصّصة لهذا القطاع تبقى ضعيفة، حيث قدّرت بـ 0.31 بالمائة من إجمالي الميزانية العامة للدولة سنة 2019، والنصيب الأكبر فيها موجّه لتغطية نفقات المستخدمين والتجهيز. وقياسا إلى تحقيق هدف 1 بالمائة من ميزانية الدولة الذي حدّدته اليونسكو، «تعتبر النسبة المخصّصة لقطاع الثقافة في الجزائر ضعيفة وجب تحسينها»، يشير المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
وتضيف الدراسة بأنّ هذا الانخفاض في الميزانية يستدعي التوجّه نحو البحث عن مصادر جديدة للتمويل، لا سيما لدى الخواص.
كما أظهرت دراسة تطور المتاحف في الجزائر نقصا في استغلالها، وهو ما يستدعي إرساء قواعد جديدة لمضاعفة عدد الزوار، وبالتالي مضاعفة إيراداتها.
ورغم كون التراث الثقافي الجزائري ثريّا ومهمّا جدّا، إلا أنّ السياحة، وبالتحديد «السياحة الثقافية»، لا تستغله بالقدر الكافي، وذلك لمجموعة من الأسباب أوردتها الوثيقة، التي ذكرت أيضا بخصوص الصناعة السياحة الثقافية أنّ الجزائر تمتلك كلّ المؤهّلات لتصبح قطبا إقليميا وعالميا للسياحة الثقافية، فهي تضم زخما تاريخيا كبيرا يعود إلى 2.4 مليون سنة، وعمرانا بشريا على مرّ العصور من ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا، وحضارات متعاقبة دون انقطاع (...) كلّ ذلك دفع بوزارة الثقافة والفنون إلى رسم استراتيجية لتفعيل دور التراث الثقافي في صناعة سياحة ثقافية.
وبدأت استراتيجية وزارة الثقافة بتشكيل ورشات وخلايا تفكير، لتنتهي بالشروع في الإجراءات العملية والميدانية، بدءا بتقديم بمراجعة ودعم المنظومة القانونية، ثم استحداث دفاتر شروط لدى المؤسّسات الفاعلة في التراث الثقافي، تسمح للمتعاملين الخواص ومختلف المؤسّسات بالاستثمار ضمن حقل التراث الثقافي.
من جهة أخرى، فإنّ «دراسة الصناعات الثقافية أظهرت ضعفا كبيرا في الإنتاج السينمائي، وتسجيل معدل بعيد عن المعدلات الدولية، وهذا ما يستدعي تصحيحه بتكاتف جهود الفاعلين العموميين والخواص». ولعلّ هذا من أسباب تركيز الدولة الكبير على هذه الصناعة، ولعلّ الإصلاحات المتعلقة بها ستؤتي أكلها في السنوات القليلة المقبلة.
ولاحظت الدراسة أنّ قطاع الثقافة يتوفر على هياكل ثقافية مهمة، لا سيما المكتبات، التي تملك طاقات استيعاب كبيرة، ما يستدعي استغلالها بصفة أفضل.
هذه المعطيات، وأخرى، الواردة في الدراسة، دفعت الحكومة إلى تبنّي استراتيجية جديدة لتفعيل اقتصاد الثقافة وإطلاق مبادرة بإشراك المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، لتحقيق التنسيق بين القطاعات الوزارية لإنجاح تنفيذ هذه الاستراتيجية.

خارطة طريق للمستقبل

تحت عنوان «تحدي لمساهمة الثقافة في الاقتصاد الوطني»، أشار المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي إلى أنّ إيرادات القطاعات الثقافية والإبداعية في العالم تصل إلى 2250 مليار دولار، حيث تمثل الكتب وألعاب الفيديو والموسيقى والسينما والصحف والمجلات والأداء الحي والتلفزيون والفنون البصرية والهندسة المعمارية 3 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ويعمل بها 1 بالمائة من القوى العاملة العالمية.
وتوقّع المجلس أن يكون نجاح تجسيد التوصيات التي وجّهها كفيلا برفع قيمة إسهام الثقافة في الناتج الوطني الخام في الجزائر، وبامتصاص قدر كبير من البطالة. كما توقّع أن تسهم المجهودات الحكومية والمقترحات المقدّمة في تحقيق المتوسطات العالمية: 3 بالمائة مساهمة في الناتج الوطني وتشغيل 1 بالمائة من الطبقة الشغيلة في غضون السنوات القادمة.
ولعلّ أحسن ما نختتم به، ما خلصت إليه الدراسة التي قدّمها المجلس، بأنّ اقتصاديات الثقافة تهتم بالجوانب الاقتصادية للأعمال الثقافية والفنية، إبداعا، وإنتاجا، واستهلاكا، وتوزيعا، كما تهتم بطرق وآليات استثمار التراث المادي وغير المادي. وتشهد هذه الاقتصاديات تحوّلات غير مسبوقة بسبب الشروط التكنولوجية، والاجتماعية والتواصلية المتجدّدة التي بدأت تفرض أدواتها ومضامينها.
وتجمع اقتصاديات الثقافة بين الشروط المؤسّسية والمادية ونمط التدبير، وبين ديناميكيات التنشيط للقطاعات المرتبطة بالثقافة، بحيث يتم من خلاها الترويج للمنتوجات الثقافية، وتحريك السوق الذي يسمح لها بخلق التوازن بين العرض والطلب، وبين الإبداع ومقتضيات التدبير، والإنتاج والتوزيع في هذا المجال.
وأكّدت الدراسة على أنّ الثقافة ليست وسيلة لتحقيق النمو، فقط، وإنما هـي عامل فـي التنمية ومحرك لها، ومن هذه الزاوية فإنّ مختلف عمليات التشخيص التـي أنجزت في الجزائر تتفق على معاينات أساسية منها:
-  هنــاك رأســمال ثقافــي مهــم وبالــغ الغنــى والتنــوّع، يتطلب عمليــات التثميــن المناســبة لاقتصاديات الثقافة.
-  توجــد في الجزائر هياكل ثقافية متنوّعة، لكن وجب تصحيح النقص الموجود في البنيـات التحتيـة، كما يجب استغلال ما هو موجود على مسـتوى المـوارد البشـرية والبرمجــة والتنشــيط.
-  نملـك رأسمال ثقافي كبير ينتظر استثماره ودمـجه فـي مؤسّسـات التنشـئة، كالمدرسـة والإعلام، وأماكـن العيـش.
-  يجب بذل مجهودات إضافية لتوثيق الإبداع الجزائري المعاصـر وتثمينه، لتكوين مجموعة من الذاكرات: ذاكرة المسـرح، السـينما...
- تفعيل أدوات للتنســيق الجهــوي والوطنــي لاستثمار التــراث بمختلــف تعبيراتــه لتحويــل التراث الوطني إلــى رأســمال قابــل للتنشــيط والحيــاة.
- وجب تدعيم عمليات التكوين ذي الصلة بالمجالات الثقافية والفنية.
- العمل على توجيه وتكويـن الجمهـور علـى حـب الفـن، لتنمية الإنتاج الإبداعي من جهة، ومن جهة أخرى لتحفيز استهلاك المنتجات الإبداعية.
في الأخير، نذكّر بأنّ هذه الدراسة صدرت في الثلث الأول من 2021، ما يعني الحاجة إلى دراسات أخرى مماثلة لها في الشمول والموضوعية والعلمية، مبنية على المعطيات الجديدة، تمكّننا من تقييم العمل المنجز، وتقويمه. وتبقى الملاحظات المشار إليها تخصّ ورشات مفتوحة في الثقافة، وهذه الأخيرة هي في الأصل ورشة مفتوحة على التغيّر والتطوّر والإبداع.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024