رئيس الجمهورية جعله في أولوياته واختصّه بالعناية..

دسترة التراث الثقافي.. تحصين المنجز الوطني..

أسامة إفراح

حماية التراث وتثمينه.. التزام تحقّق وجهد يتواصل

ترسيخ مقوّمات الهوية الوطنية وتعزيزها.. واجب وطني

اعتراف عالمي بدور الجزائر في صون التراث وطنيا ودوليا

تزخر الجزائر بتراث مادي ولا مادي يعبر عن تاريخها العريق وإسهاماتها الفاعلة في الحضارة الإنسانية. ويحتاج هذا التراث إلى العناية والحماية، وإلا كان عرضة للاندثار والزوال، أو ضحية لمساعي السرقة والاحتيال. من أجل ذلك، سهرت الدولة الجزائرية، وعلى رأسها رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبّون، على حماية التراث وتصنيفه، وطنيا ودوليا، من خلال إجراءات كان من أهمها دسترة التراث الثقافي..

تعرّف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) التراث بأنّه “الإرث الذي ورثناه من الماضي، والذي ننعم به اليوم، والذي ننقله إلى أجيال الغد. ويُعتبر تراثنا الثقافي والطبيعي نبع حياة وإلهام لا بديل له”، تؤكّد المنظمة الأممية.
وتزخر الجزائر بكنوز تراثية لا حصر لها، نظرا لشساعة إقليمها من جهة، وتجذرها في التاريخ والحضارة الإنسانية من جهة أخرى، ما جعل حماية هذا التراث، الذي هو جزء من هوية الدولة الجزائرية، ضمن أولويات رئيس الجمهورية.

دسترة التراث الثقافي

ولعلّ من أهمّ إضافات رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبّون،  إلى مسألة حماية التراث، المادة الجديدة في الدستور الجزائري لسنة 2020، وهي المادة 45، ونصّها: “الحقّ في الثقافة مضمون للمواطن. تحمي الدولة التراث الثقافي الوطني المادي وغير المادي وتعمل على الحفاظ عليه”.
ونشير هنا إلى أنّ دسترة التراث الثقافي فتحت الباب لمراجعة وتحيين الإطار القانون لحماية التراث. مثلا، وبعد تنظيم “الجلسات الوطنية حول مراجعة المنظومة القانونية المتعلّقة بحماية التراث الثقافي”، نصّبت وزيرة الثقافة والفنون صورية مولوجي، مطلع السنة الجارية، “اللجنة الوطنية المكلّفة بمراجعة قانون حماية التراث الثقافي”، وذلك من أجل “صياغة نصّ جديد يرتكز على تعديلات عميقة للقانون 98-04، أو إصدار قانون تراث ثقافي جزائري جديد إذا تعدّت التعديلات نسبة معيّنة من مواد القانون الساري المفعول، وضبط المصطلحات القانونية بما فيها المفاهيم الجديدة المتعلّقة بحماية وتثمين التراث الثقافي، وإصدار قانون لحماية التراث الثقافي الجزائري يواكب التحدّيات والرهانات، وتبسيط إجراءات تصنيف التراث الثقافي المادي وغير المادي، وتجسيد البعد الاقتصادي في استغلال التراث الثقافي، وتنفيذ الالتزامات الدولية للجزائر في مجال حفظ وحماية التراث الثقافي.

حرص الرئيس على حماية التراث

وتعدّدت المناسبات التي أكّد فيها رئيس الجمهورية على ضرورة حماية التراث. مثلا، خلال اجتماع مجلس الوزراء في 20 سبتمبر 2020، الذي عالج نقاطا منها الاستغلال المنجمي للذهب بولايتي تمنراست وإيليزي، كلّف رئيس الجمهورية وزارة الدفاع الوطني بمعالجة مسائل منها “حماية معالم التراث الثقافي والمواقع الأثرية بالجنوب الكبير”.
كما ترأس رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبّون، في 30 أوت 2021، اجتماعا استثنائيا لمجلس الوزراء، خصّص لدراسة والمصادقة على مخطط عمل الحكومة قبل عرضه على البرلمان، وكان من بين النقاط التي تضمّنها، وتحت المحور الأول “تعزيز دولة القانون وتجديد الحوكمة”، العمل على “ترسيخ وتعزيز وحماية مقوّمات الهوية الوطنية والذاكرة”. وأكّد المحور الثالث “من أجل تنمية بشرية وسياسة اجتماعية مدعّمة”، على “الحفاظ على التراث الثقافي وتفعيل دوره”.
ومن الجوائز الثقافية التي أسّس لها الرئيس عبد المجيد تبّون، “جائزة رئيس الجمهورية للأدب واللّغة الأمازيغية”، والتي تشمل أربع فئات، إحداها فئة “الأبحاث في التراث الثقافي الأمازيغي غير المادي”، وتتعلّق بالأعمال الميدانية التي “تتناول جمع التراث الثقافي غير المادي الأمازيغي بجميع تنوّعاته”.
وقد تأسّست هذه الجائزة وفقا لأحكام المرسوم الرئاسي رقم 20-228 المؤرخ في 19 أوت 2020 (المعدل والمتمم بالمرسوم الرئاسي رقم 24-57 المؤرخ في 23 جانفي 2024)، وتنظّمها المحافظة السامية للأمازيغية، التابعة بدورها لرئاسة الجمهورية. وتنصّ المادة الثانية من المرسوم على أنّ الهدف من الجائزة هو “مكافأة أحسن الأبحاث والأعمال التي ينجزها المشاركون إمّا فرديا أو جماعيا”، في المجالات المحدّدة للجائزة، وذلك في إطار “تشجيع البحث والإنتاج في الأدب واللّغة الأمازيغية وترقيتهما، سواء كانت الأعمال مؤلّفة باللّغة الأمازيغية أم مترجمة إليها”.

الجزائر.. قلعة للتراث الإنساني

والجزائر حاضرة في قائمة التراث العالمي لليونسكو، من خلال قلعة بني حمّاد، ومواقع تيبازة، وتيمقاد، وجميلة، وتاسيلي ناجّر، ووادي مزاب، وقصبة الجزائر (حسب موقع اليونسكو).
ونجد من العناصر المدرجة ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية (حسب موقع وزارة الثقافة والفنون)، أهاليل القورارة، العادات والمهارات الحرفية المرتبطة بتقاليد زيّ الزفاف التلمساني، والممارسات والمعارف المرتبطة بموسيقى الإمزاد وآلتها عند جماعات الطوارق في الجزائر ومالي والنيجر، الزيارة السنوية لضريح سيدي عبد القادر بن محمد سيدي الشيخ، الطقوس والاحتفالات الخاصة بعيد السبيبة في واحة جانت بالجزائر، “السبوع” (الزيارة السنوية إلى زاوية سيدي الحاج بلقاسم في قورارة بمناسبة المولد النبوي). كما نجد في قائمة التراث الثقافي غير المادي الذي يحتاج إلى صون عاجل، المعارف والمهارات الخاصة بكيالي الماء العاملين في الفقارة في توات وتيديكلت.
ويضاف إلى هذه القائمة ثلاثة عناصر بالاشتراك مع دول مجاورة وهي “الإمزاد”، “الكسكسي” و«الخط العربي”.
وشهد عام 2022 إدراج اليونيسكو أغنية الراي الجزائرية في قائمة التراث العالمي غير المادي للإنسانية. كما تمكّنت الجزائر عام 2023 من تسجيل ملف “النقش على المعادن: الذهب، الفضّة والنّحاس، المهارات والفنون والممارسات” على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي اللامادي للإنسانية لدى اليونسكو بمشاركة عشر دول عربية أخرى.
وتتوالى مساعي الجزائر في حماية تراثها، حيث تعتزم إيداع ملفات لحماية عناصر تراثية أخرى، لتكون من أكثر الدول نشاطا ومصداقية في مساعي حماية التراث الثقافي.
وفي هذا السياق، كان عمار نوارة، مدير الحماية القانونية للتراث بوزارة الثقافة والفنون، قد تحدّث، أفريل الماضي، عن تصنيف 1600 موقع أثري ضمن الحظائر الوطنية الثقافية عبر التراب الوطني. وأكّد نوارة أنّ جهود الجزائر جعلتها تحتل الصدارة على الصعيدين العربي والإفريقي، والمركز العشرين على الصعيد العالمي، في تصنيف التراث الثقافي.

اعتراف عالمي

عرف جوان الفارط انتخاب الجزائر بالإجماع لعضوية لجنة التراث الثقافي اللامادي لعهدة 2024 ـــ 2028 باليونسكو. واعتُبر ذلك اعترافا بدور الجزائر في مجال صون التراث وطنيا ودوليا، ودليلا على ثقة المجتمع الدولي بالجزائر، وبجدية سياستها الوطنية في المحافظة على موروثها الثقافي غير المادي الغنيّ وتنميته وتطويره.
وفي هذا الصدد، أشار سليمان حاشي، مدير “المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتاريخ”، ومدير “المركز الإقليمي لحماية التراث الثقافي غير المادي في إفريقيا”، إلى ما يكتسيه هذا الانتخاب من أهمية كبرى بالنسبة للجزائر، التي ستعزّز مكانتها في المحافل الأممية، للمساهمة في تفعيل آليات دولية لحماية التراث الثقافي الإنساني، وأيضا للعمل أكثر على حماية التراث الثقافي الجزائري بكلّ مكوّناته المادية واللامادية.
وأضاف حاشي بأنّه قد صار للجزائر “منبر أممي لإسماع صوتها الهام، وهي المعروفة بمواقفها ومساهمتها الفعّالة في مجال حماية التراث الثقافي اللامادي”، خاصة وأنّ الجزائر كانت أول بلد يوقّع على الاتفاقية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي سنة 2003، وشاركت بشكل فعّال في صياغة نصوصها، وقبل ذلك كانت سبّاقة لإصدار قانون 98 - 04 المتعلّق بحماية التراث الثقافي، يؤكّد سليمان حاشي، مضيفا أنّ الجزائر أصبحت، في السنوات الأخيرة، مثالا يقتدى به في عديد الدول وخصوصا في القارة الإفريقية لإنشاء بنوك للمعلومات، وهو ما أدّى باليونسكو إلى الموافقة على احتضان الجزائر “المركز الإقليمي الإفريقي لصون التراث اللامادي الصنف 2”.

قاطرة التراث الإفريقي

بالحديث عن المركز الإقليمي بالجزائر لصون التراث الثقافي غير المادي في إفريقيا، من الفئة 2، تحت رعاية اليونسكو، فإنّ هذا الأخير يعدّ اعترافا بدور الجزائر المحوري في القارة الإفريقية.
ولتسليط الضوء أكثر على هذا المركز الذي تحتضنه الجزائر، نشير إلى المرسوم التنفيذي رقم 20-166 (27 جوان 2020) الذي يحدّد تنظيم وسير المركز. حيث وتعرف المادة السادسة من المرسوم التنفيذي المركز بأنّه “أداة إقليمية للصون والحفظ والبحث والدراسة وتثمين التراث الثقافي غير المادي على المستوى الوطني والإفريقي”. وتلخّص ذات المادة مهام المركز في: ترقية التراث الثقافي غير المادي وصونه على المستويين الوطني والإقليمي، ودعم القدرات الوطنية وتعزيزها من أجل تحديد التراث الثقافي غير المادي وصونه، وتعزيز التعاون بين بلدان الإقليم في هذا الميدان، وتنظيم أنشطة ترمي إلى تعزيز القدرات الوطنية لبلدان الإقليم في ميادين تحديد وتعريف التراث الثقافي غير المادي الموجود في أقاليمها، وتوثيقه، وإعداد قوائم حصره وصوته وفقا للاتفاقية وتوجيهاتها التنفيذية، ومساعدة هذه البلدان بغية المحافظة على البيانات المتعدّدة الوسائط المتعلّقة بهذا التراث، ومعالجتها معالجة رقمية، وجمع المعطيات في ميدان التراث الثقافي غير المادي على المستوى الوطني والإفريقي ومعالجتها وضمان المحافظة عليها ونشرها.

جهود متواصلة.. وعمل في الميدان

ولعلّ الإنجازات في مجال حفظ وحماية التراث، التي يتجاوز صداها الحدود، تستقطب الانتباه أكثر بالنظر إلى سمتها العالمية، إلا أنّ الجهود على المستوى المحلي لا تقلّ أهمية كمّا وكيفا، وهو ما يتماشى مع شساعة القطر الوطني وما يزخر به من تراث مادي.
على سبيل المثال، شهدت سنة 2020 صدور قرار تنفيذي يتضمّن مخطط حماية الموقع الأثري “هيبون” والمنطقة المحمية التابعة له واستصلاحها. وعرفت 2021 صدور مراسيم تنفيذية تتضمّن إنشاء القطاع المحفوظ وتعيين الحدود لكلّ من “قصر ازلواز” و«قصر أجاهيل”، وكذا الموافقة على قرارين وزاريين مشتركين يتضمّنان الموافقة على المخطط الدائم لحفظ واستصلاح القطاع المحفوظ للمدينة العتيقة لميلة، والمخطط الدائم لحفظ واستصلاح القطاع المحفوظ للمدينة العتيقة لتنس.
أما سنة 2022، فشهدت صدور قرارات تتضمّن تصنيف كلّ من “حصن القديس غريغوريو”، و«حصن روز الكزار”، و«حصن القديس بيدرو”، و«حصن سانتا كروز”، و«حصن سان تياغو”، إلى جانب تصنيف “زاوية سيدي منصور” بولاية تيزي وزو، وتصنيف “الموقع الأثري لمغارات غلدمان” بولاية بجاية.
فيما عرفت سنة 2023 صدور قرارين يتضمّنان فتح دعوى تصنيف المسرح الجهوي لباتنة “صالح لمباركية”، والمسرح الجهوي لسيدي بلعباس، ومرسوما تنفيذيا يتضمّن إنشاء القطاع المحفوظ للمدينة العتيقة لمليانة وتعيين حدوده، ومرسوما مشابها يتضمّن إنشاء القطاع المحفوظ للمدينة العتيقة “قلعة بني راشد” وتعيين حدوده.
وصدر في السنة الجارية 2024 مرسوم تنفيذي يتضمّن إنشاء القطاع المحفوظ للمدينة العتيقة لمازونة (غليزان)، وتعيين حدوده. كما صدر قرار تنفيذي يتضمّن مخطّط حماية الموقع الأثري لسيقار والمناطق المحمية التابعة له واستصلاحها، وقرار آخر يتضمّن مخطّط حماية الموقع الأثري لزموري البحري والمناطق المحمية التابعة له واستصلاحها.

حماية التراث الثقافي البيئي

ولا يقتصر الحديث عن التراث الثقافي على التحف والآثار والموروث الشعبي، بل يتعدّى ذلك إلى المحيط الطبيعي بتنوّعه البيولوجي وتعايش الإنسان معه على مرّ العصور. وهو ما كرّسه مشروع “المحافظة على التنوّع البيولوجي ذي الأهميّة العالمية والاستعمال المستدام لخدمات الأنظمة البيئية في الحظائر الثقافية بالجزائر”، المعروف اختصارا بـ«مشروع الحظائر الثقافية الجزائرية”، وهو مشروع وطني في إطار شراكة دولية بين وزارة الثقافة وصندوق البيئة العالمي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، انطلق في أكتوبر 2013 واختتم في أفريل 2021، وكان من إنجازاته المحقّقة رصد الفهد الصحراوي، المهدّد بالانقراض، بعد أكثر من عقد من الزمن.
وعمل فريق المشروع في أقاليم شاسعة (تغطي ما يقارب 43 بالمائة من المساحة الإجمالية للتراب الوطني) مصنّفة حظائر ثقافية بموجب قانون 98-04 المتعلّق بحماية التراث الثقافي، مجسّدة بذلك مبدأ عدم الفصل بين التراث الطبيعي والثقافي والمكرّس في المواد 38، 39، و40 من ذات القانون. ويتعلّق الأمر بالحظائر الثقافية: الأهقار، الأطلس الصحراوي، تندوف، توات قورارة ـــ تيديكلت، والتاسيلي ن أزجر، المصنّفة ضمن التراث العالمي المختلط لليونسكو منذ عام 1982.
وقد نجح مشروع الحظائر الثقافية الجزائرية، باعتباره تجربة استثنائية في تسيير التراث البيئي الثقافي للحظائر الثقافية، في إدراج حفظ التنوّع البيولوجي ضمن اهتمامات قطاع الثقافة، وإرساء نظام متابعة التنوّع البيولوجي، وإشراك السكان المحليين باعتبارهم الحلقة الأهم الواجب الاستثمار فيها للاستجابة لأهداف التنمية المستدامة، والترويج للسياحة البيئية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024