اندثار بعض الفنون كالألغاز والأمـثال الشعبية
الهضاب العـليا المنبـت الأصلي لأغـنـية السراوي
الخير عشاش، فنان مهتم بالعادات والتقاليد واللباس التقليدي بمنطقة سطيف خصوصا، رئيس جمعية «ديوان عامر الثقافية»، يحب التعمق في التراث واستنشاق عبير كل ما هو تقليدي في مدينته ووطنه، كما صرح في حوار مع «الشعب»، قائلا «إنّ تراثنا هويتنا ومن واجبنا أن ننقله للأحفاد كما ورثناه عن الأجداد، فأصالتنا هي رمز اعتزازنا، وأنا منذ سنوات أحاول إطلاق ورشات تكوينية لفائدة الشباب في كل مناطق ولاية سطيف، وتعريف الأجيال بلباس وعادات الأجداد قبل اندثارها».
- الشعب: بداية كيف تعرّف نفسك للقرّاء؟
الفنان الخير عشاش: بداية أشكركم على هذه الفرصة الطيبة، الخير عشاش فنّان مهتم بالعادات والتقاليد واللباس التقليدي بمنطقة سطيف خصوصا، بما فيها المأكولات التقليدية، أحب التعمق في التراث وأستنشق عبير كل ما هو تقليدي في مدينتي ووطني.
- من أين اكتسبت هذا الاهتمام الكبير بالتراث؟ وهل هي ميولات شخصية أم تأثير المحيط الذي ترعرعت فيه؟
ترعرعت في حي طنجة الشعبي، وعشت في بيئة مليئة بالفرسان والشيوخ الذين كانوا يلتحفون البرانيس، ويلبسون الشاش، ويغنون الفن السراوي الخاص بالمنطقة، عشت معهم وتعلّمت منهم الفروسية في منطقة ذراع بن خرباش، حيث كانت تنظّم استعراضات واحتفالات الفروسية، خال أبي كان فارسا معروفا يدعى مسالتي البشير، وكانت جدتي تصحبنا لمشاهدة هذه الألعاب الفانتازية، وتشترط فينا شروطا فتقرن لنا هذه الهواية بإتمام واجباتنا الدراسية والمنزلية، ثم تعرّفت بعدها على العديد من رجال الفروسية ومنهم عمي الكواشي عشاش رحمه الله، الذي كان يجلس في منطقة باب بسكرة ويحتفظ بلباسه التقليدي حتى آخر سنوات حياته في الثمانينات، ولم تؤثر عليه تغيرات الزمن.
- ماذا عن جمعية ديوان عامر الثقافية؟
ديوان عامر هي فرقة أسّستها بعد أن لاحظت غياب العادات والتقاليد في دار الثقافة سنوات الثمانينيات، لم يكن هناك شهر للتراث بل كنا نحتفل بأسبوع يطلق عليه «عيد السنبلة» كانت تحتفل به منطقة سطيف، كنت حينها فارسا أشارك في استعراضات الفانتازيا، وطلب مني أحد المسؤولين أن أوافيه بمقترحات في مجال العادات والتقاليد، فاقترحت عليه «الزردة»، وجسّدناها في بهو دار الثقافة ولقيت استحسان العائلات السطايفية، شارك معنا العجائز (العمريات) في إحياء هذه العادة بتحضير الكسكس والعيش (أكلة شعبية)، وأعجب بها الجمهور، بعدها كانت انطلاقتي وانخرطت في جمعية «ذاكرة سطيف» التي كان رئيسها الأستاذ عمار شايب، الذي كان يحب تراث المنطقة وأعطانا فرصة للنشاط في هذا الميدان، وبعدها تطوّرت الجمعيات وتفرّعت، فأسّست جمعية للفروسية أسميتها نادي عين الفوارة للفروسية سنة 1989م، وكنا نجلب الفرسان من كل المناطق (عين ولمان، أولاد صابر، والعلمة وغيرها)، وأعدنا إحياء الفروسية في الأعراس من خلال المشاركة في مواكبها، وكان أول موكب عرس شاركنا فيه في عرس واحد من اللاعبين القدامى لوفاق سطيف وهو اللاعب رضا ماتام، وأعجبت بها الكثير من العائلات فصارت عادة في أعراس السطايفية، ومنها بدأت أستقطب كل المهتمين بالتراث الشعبي من لباس وفروسية وعادات متنوعة، وبدأ مساري في المشاركة في المهرجانات والملتقيات الوطنية التي تعنى بالتراث، وطوّرت الجمعية إلى أن أصبحت ديوان عامر، كما خضت غمار التمثيل والمسرح عبر تجربة الملاحم والمسرحيات الوطنية، حيث كنت أتكفل بتلبيس الممثلين، وكذلك تأدية بعض الأدوار.
- ما هي أهم الأعمال والمشاركات المسرحية للفنان الخير عشاش؟
أوّل ملحمة شاركت فيها هي ملحمة 8 ماي للكاتب عزالدين ميهوبي، شاركت فيها مع أحمد حماش الذي أدى دور الراوي والعمري كعوان الذي أدى دور السياسي وآخرين، أما أنا فأديت دور القايد، حتى أن بعض المشاهدين من كثرة تفاعلهم مع الدور كرهوني ـ يبتسم - ثم توالت المشاركة في أعمال أخرى منها «المشينة» للأستاذ نورالدين معيوف، وقد كانت مسرحية غنائية مؤثّرة أدّيت فيها دور بدوي يعاني من احتقار الفرنسيين، وتكفّلت فيها بتلبيس الممثلين، ثم شاركت في ملحمة «أزديف»، مسرحية «الشمس الباردة» والكثير من الأعمال الأخرى، كما شاركت أيضا في خمسة أفلام عالمية في التمثيل والتلبيس، منها فيلم «حضرة العقيد» (مون كولونال) للمخرج كوستا غافراس سنة 2006، فيلم «خارجون عن القانون» مع المخرج العالمي رشيد بوشارب، فيلم «ذاكرة الحدث» مع المخرج رحيم العلوي ولعبت دور بوسعدية بابا سالم، شاركت أيضا في فيلم «بن بولعيد» كاختصاصي ملابس مع المخرج أحمد راشدي، وآخر فيلم شاركت فيه هو «الأميرة الأخيرة لمملكة الجزائر»، حيث أديت دور شيخ قبيلة الشراقة، ناهيك عن أعمال أخرى.
- إضافة إلى المسرح واللّباس التّقليدي، ماذا عن الذّاكرة الشّفوية، هل لك اهتمامات بالفنون القولية واللّهجة الشّعبية وغيرها؟
بالطبع، تأخذ الفنون القولية والذاكرة الشعبية حيزا كبيرا من اهتماماتي، لاحظت اندثار بعض الفنون كالألغاز والأمثال الشعبية، فجمعت العديد منها بغية إصدارها في كتاب، جالست الشيوخ والكبار في باب بسكرة في حمام السي الخير بن يحيى، الذي كان يجمع الفرسان والخياطين والفلاحين، وكنت أجمع مثلا شعبيا من كل واحد أو لغزا أو قصيدة، وأذكر لك هذه الحادثة، حيث سألني أحد الأشخاص عن هويتي، فأجابه واحد ممن يعرفونني جيدا ويدعى مخلوف شمس الدين رحمه الله وقال:
«يلا كانك فهّام، وتعرف عامر عل لرسَام، لحدادّة على غرام، وظهّر، تلقى قجّال، وطن العز والدلال، فيه جدّو سال، سيدي مسعود ركاب الشهبة وسبع رقود.
قدم شوية لهيه، القبة الخضرا تواتيه، كل الناس تنده بيه، ذاك سيدي الخير شايل الله بيه»
فقال له: وين نولي ندور؟
فأجاب: ولي للدار الحمرا، المرابط الطيب والزيتوني جدود بوعمرة
فأجاب: وين نولي نروح؟
قال: ولي للقبلة، تلقى سيدي بن خرفية، وقالوا عليه سلطان الولية، وحدر لولاد ذويب تلقى فيهم رجال صناديد، ذوابين الحديد قعادين الغريب، عامر يا حسرا، ناس الشهرة، بيهم لعراش تتباهى في كل وطان، ويلا عادوا في الميمر، يا خويا بالاك تحقر، واللي يوقف قصادهم يتكسر، يلا عينك تتبختر، اقصد عامر، الخير مزروع في كل مكان».
جمعت الكثير من الأمثال والأقوال الشعبية في كتاب طبعته في 2006م بدعم من ديوان الثقافة والسياحة لبلدية سطيف يضم 280 مثل شعبي قيل في سطيف وحدها، ولدي كتاب آخر جمعت فيه طرائف ولطائف وحكايات حدثت لي مع شيوخ وفرسان ووجوه منطقة سطيف، من باعة وحرفيين وغيرهم ممّن كانت لهم لمسة في التاريخ المحلي للمدينة، اخترت له عنوان «وجوه الزمان»، وما زال لم ينشر بعد.
- ماذا يمكن أن تقول لنا عن الأغنية السراوية وأصولها؟
دائما أسمع خلطا في هذا الموضوع، وأنا بحكم أنني بحثت ونقبت وسألت الكبار، سأعطيك رأيي في أصل أغنية السراوي، جاءت من كلمة السراوات وهي المناطق المرتفعة والجبال في الهضاب العليا، وهي المنبت الأصلي لهذا الطابع الغنائي، وتختلف هذه المناطق في اللهجات وموضوعات الغناء، مثلا سطيف يكثر فيها التغني بالحزن لأنّها مرت بأحداث حزينة مثل 08 ماي 1945م، واليتم الذي سببته الأحداث الدامية وحملات التهجير بسبب الاستعمار والظروف القاسية، التي سببت اغتراب الكثير من الآباء والأبناء، وكانت مصدر ألم بالنسبة للنسوة والشعراء، فتجد الأم كثيرا ما تغني عن ابنها المغترب أو المهاجر، بينما يغني الكثير من الأبناء عن الأم والخال نظرا لغياب الأب في الأسرة بسبب الهجرة أو اليتم، وتختلف الألحان من منطقة لمنطقة، السراوي موجود في سطيف منذ القدم، لكن أدخلت عليه بعض التعديلات مثل «الشكوة» و»المزود» التي جاء بها المهجرون، الذين استوطنوا سطيف وتعايشوا فيها مثل الأخوين سعيد وسعدون من ليبيا، وكانت لهم عادات وتقاليد كثيرة وكانوا مستقرين بمكان يدعى دار الديوان، وكان هناك تآلف بين أهل سطيف والوافدين الذين كانوا يتنقلون في شكل قوافل خصوصا في مواسم الصيف، ويزورون سطيف بحثا عن المؤونة والكلأ، ومنهم «البوسعادية» الذين كانوا يفدون من بوسعادة، ويجدون الاستقبال الحار من الشيوخ والعجائز، وتقام لهم احتفالات وطقوس خاصة، كما كانت عندنا عادة تسمى «بوغنجة» في مواسم الجفاف، فكانت الفتيات الصغيرات يلبسن ألبسة خاصة، ويتم رشهن بالماء وتغنى أغنية جميلة «داح داح والقطرات من القداح، السبولة عطشانة وارويها يا مولانا، هذي بيت سيدنا تعطينا وتزيدنا، هذي نعجة ما تمشيش يا ربي قوي لحشيش، هذي امرا بلا كحل، يا ربي اعطيها طفل..»، وكانت تجسد متعة الفنون الشعبية والفلكلورية التي ما زلنا نسعى للحفاظ عليها وإحيائها.
- هل تجد اهتماما واحتضانا كفنان مختص في التراث؟
بصراحة، ألقى بعض المصاعب والعقبات في هذا المجال، وأحيانا يطالني التهميش، حتى من المؤسسة التي اشتغلت فيها لسنوات «مسرح سطيف»، وهو ما يحز في نفسي كثيرا لأنّني قدمت الكثير لهذه المدينة فارسا وفنانا وعاملا، وواقع الحال أنّني صرت لا أجد حتى أين أحفظ ملابسي من التلف والضياع، وأواجه الكثير من العراقيل.
- ما هي رسالتك للشباب الصّاعد بخصوص التراث والعادات والتقاليد؟
في الحقيقة نشاهد عودة الأجيال للعادات والتقاليد، وانتشار جمعيات الفروسية والفانتازيا في الآونة الأخيرة، وكل الجمعيات تجد توافدا من الفرسان وهواة الفروسية والتقاليد، وهذا يعد نجاحا لمشروعنا والحمد لله، كما نشاهد عودة الفلكلور الشعبي، غير أن هؤلاء الشباب يحتاجون إلى تأطير وتكوين في المجال، حتى يأخذوا معلومات أوفى عن الألبسة التقليدية، ويحافظوا عليها بالشكل الصحيح الذي توارثناه عن الأجداد، تراثنا هويتنا ومن واجبنا أن ننقله للأحفاد كما ورثناه عن الأجداد، فأصالتنا هي رمز اعتزازنا، وأنا منذ سنوات أحاول إطلاق ورشات تكوينية لفائدة الشباب في كل مناطق ولاية سطيف لأن اللباس يختلف من منطقة إلى أخرى بين عين ولمان، بوطالب، سطيف، العلمة، عين الكبيرة، الشمال..، غير أنني لم أجد تجاوبا للأسف مع المبادرة رغم أنني طرقت جميع الأبواب، وأوجّه رسالة إلى المسؤولين من منبركم هذا، لابد من احتضان مثل هذه المبادرات، وتعريف الأجيال بلباس وعادات الأجداد قبل اندثارها.