تحرير الرّوحي من الدُّوغماتي

نحـو منظـــور مختلــف للرّوحانية

الحلقة الثانية والأخيرة

 لن تكون مداخلتي هذه عن الروحانية بمفهومها السَّائد أو التقليدي الذي يضعها مباشرة في مواجهة المادية أو في صدام مع كل ما هو جسدي – حسي كما درجنا على ذلك. لن تكون، بمعنى ما، انخراطا في النقاشات والمواقف المكرورة التي تستثمرُ في تلك القسمة المكرسة منذ فجر الفلسفة بين ما هو روحاني وما هو مادي، بين اللطيف والكثيف، بين البسيط والمركب، بين العلوي والسفلي.
أحمد دلباني
 تلك ثنائياتٌ مثلت براديغم النظر إلى العالم منذ أصبحت الأفلاطونية رؤية معقولة للعالم امتدَّ تأثيرُها حتى إلى الأديان. نتذكر في هذا مقولة نيتشه في كتابه «بمعزل عن الخير والشر» عندما أشار إلى المسيحية باعتبارها «أفلاطونية موجهة للشعب» كما يعبِّر.

 أدونيس:
صوفية وثنية في محراب الجَسد

     يُعتبرُ أدونيس، في اعتقادي، من أبرز المثقفين والمبدعين العرب الذين حاولوا التنبيه إلى حضور «شهوة المطلق» في تراثنا العربي – الإسلامي من منظور يبتعدُ كليا عن القراءات المبتسرة الجامدة. فالروحانية لا ترتبط قطعا بالمنظومات العقدية المُبلورة تحت إلحاح الحد من مغامرة العقل والروح أو تدجين الذوات ومراقبتها وقمع صبواتها وتطلعاتها. الروحانية مغامرة ومحاولاتٌ لا تفتر في مدِّ الجسور نحو اللامرئي والبعيد. إنها التشوفُ الذي يخترقُ الحجُب ويصل بين المرئي واللامرئي ويُعيدُ للإنسان وحدته العميقة مع العالم. من هنا اهتمامُ أدونيس بالتصوف – منذ بدايات نشاطه الإبداعي والفكري – على اعتبار أنَّ هذا الجانبَ من التراث لم ينل نصيبه من القراءة المُحرِّرة التي تستكشفُ أبعادَه ولا تلجمُ ضوءَه داخل قمقم القراءات السائدة. لقد خصَّص لذلك بعض دراساته الشهيرة التي حاول من خلالها إعادة الاعتبار للتجربة الصوفية بوصفها تجربة في المعرفة وفي الكتابة معا. كما حاول أن يُنبِّهَ إلى أبعادها الإنسانية التي تجعلها في تقاطع وتَجاوُر مع تجارب إبداعية أخرى كالسوريالية مثلا. يبدو جليا، انطلاقا من ذلك، أنَّ أدونيس يبتعدُ كليا عن تناول الصوفية باعتبارها مدوَّنة عقدية مذهبية، وإنما بوصفها حركة تجاوز لثقافة الظاهر والشرع والقوانين والعلم الذي يقفُ على أعتاب المنطق العقلي الجامد لا يتجاوزه. يقول عن الصوفية إنها «تجاوزت تراثَ «القوانين» لكي تُقيمَ تراثَ «الأسرار». ويُضيف «لقد أسَّست لشكل آخر للمعرفة، ولحقل معرفيٍّ آخر».
إنَّ كون أدونيس شاعراً بالدرجة الأولى جعله منذ بداياته في علاقةٍ مع فتوحات الحداثة الشعرية في الغرب، وما تأسَّست عليه على اعتبار أنها نهلت من ينابيع مثلت مجابهة لحضارة التقنية والعقل والاستهلاك والتدجين، وطمست أبعادَ الإنسان الحميمة وطاقة الرغبة والحلم فيه. فنوفاليس ورامبو والسوريالية - تمثيلا لا حصراً - كانوا ينابيعَ لمساءلة حضارة العقلنة الأداتية والتقنية التي قامت على الكوجيتو الديكارتي، ومَجدِ الإنسان الحديث الذي ابتهج لطلاقه مع الطبيعة الأم منذ أصبح سيِّداً عليها. سيكون الشعرُ العظيمُ، بالتالي، محاولة مضنية لاستعادة الإنسان وحدته مع العالم، وضوءاً يقودُ إلى فردوس أضاعه يوم جعل ذاته في مواجهةٍ صداميةٍ كارثية مع الوجود. إنَّ المعرفة لا تقتضي أن نحارب العالم ونسيطرَ عليه بل أن نفهمه ونحبه من خلال السَّفر إليه في رحلةٍ تقودُ إلى معرفة الذات أكثر، واكتشاف أنَّ الآخر ليس إلا بُعداً من أبعادها.
بداية، يوضّحُ أدونيس أساسَ مقاربته المعرفية، والهدف منها في هذه اللحظة العولمية التي تشهدُ انكفاءً على الذات، وتغول خطابات الهوية والانغلاق ونبذ الآخر باسم الدين التقليدي، وبعض تجلياته التي عرفها ومثلت أزمة من أزماته الإنسانية والأخلاقية الكبرى. يقول في كتابه «الصوفية والسوريالية»، موضحا منشأ التصوف ومساره العميق «...الاتجاه إلى الصوفية أملاه عجز العقل (والشريعة الدينية) عن الجواب عن كثير من الأسئلة العميقة عند الإنسان – وأملاه كذلك عجز العلم. فالإنسانُ يشعرُ أنَّ ثمة مشكلات تؤرقه، حتى عندما تُحل جميعُ المشكلات العقلية، والشرعية – الدينية، والعلمية، أو عندما تُحل جميعُ المشكلات بوساطة العقل والشرع والعلم...والهدفُ الأخير الذي يسعى إليه الصوفيُّ هو أن يتماهى مع هذا الغيب، أي مع المطلق. ويهدفُ السوريالي إلى أن يُحقق الأمرَ نفسه. وليس المهم هنا هو هوية هذا المطلق، بل حركة التماهي معه، والطريق التي تؤدي إلى ذلك، سواء كان هذا المطلق الله، أو العقل، أو المادة نفسها، أو الفكر أو الروح... إلخ. هناك في جميع الحالات عودة إلى أصل الخلق، أيّاً كان هذا الأصل».
إنَّ في هذه الاعتبارات الأدونيسية إشارة إلى أوجه التآلف والتقارب التي تجمع بين حركات الفكر والروح عبر الثقافات وعبر الأزمنة بمعزل عن هوية ما تسعى إليه دينيا أو فلسفيا. فالأهم هو حركة الفكر والروح في مقاربة الوجود والعالم مقاربة تتجاوز الظاهر المرئي إلى الباطن الخفي والسعي إلى الاتحاد بالمطلق، أيّاً كان هذا المطلق، بعيداً عن «شهوة الهيمنة» التي كرَّسها الكوجيتو والعقلانية الأداتية المعاصرة التي برعت في الفصل بين الذات والموضوع أو بين الأنا والآخر مقيمة بينهما حواجز وعلاقات سيطرة وإخضاع. هذا هو البعد الإنساني والمعرفي الذي مثلته الصوفية في تراثنا.
لقد كان من اللازم والضروري التمييز بين التاريخ والدلالة أو بين الحركة التاريخية، والمعنى العميق بخصوص التجربة الصوفية في التراث العربي – الإسلامي. إذ قد يعترضُ الكثيرون على وصف بعض التجارب الفكرية والروحية الكبرى في عصرنا بالصوفية لاعتقادهم أنَّ التصوفَ يرتبط بالدين الإسلامي، ويخضعُ لعدة اعتبارات سلوكية وعقدية لا تخرجُ عمَّا تقرَّر تاريخيا لدى أهل التصوف. كأنَّ التصوف مذهبٌ مغلقٌ ومدرسة تعاليم جاهزة تقوم على التقليد والانصياع، وامتثال المُريد للشيخ. ربما كان هذا صحيحا إلى حدٍّ ما لو أخذنا في الحسبان ما آل إليه التصوف في القرون الأخيرة بعد أن تصلبت شرايينُه مع الطُرقيَّة، وخمدت جذوته الأولى التي أنتجت مغامراته الكبرى، فأصبح تقليداً ونظاما سلوكيا وانعزالا عن العالم. نعم هذا صحيحٌ نسبيا. ولكنَّ التصوف، في العمق، ليس تاريخا وإنما هو روحٌ معذبة تتطلع إلى التجاوز، وإلى كسر كل الحدود التي تجعل الذات تعيشُ منفاها الوجودي بعيداً عن الكل. التصوفُ يصدر عن شعور مرير بالمنف،ى وكأنَّ الإنسان يستعيدُ فاجعة سقوطه من جنةٍ ما، فيحاول أن يسردَ قصة بحثه عن أمومةٍ كونية ووحدةٍ مع العالم في محاولة للظفر بتلك الجنة من جديد. بهذا المعنى يكون التصوف مسلكا إنسانيا لا إسلاميا فحسب. فقد عرفت كل الثقافات هذا الأمر، كما يكشفُ عن ذلك التراثُ الشعريُّ والديني والثقافي بعامة عند كل الشعوب. هذا ما قصده أدونيس عندما تناول الصوفية مع السوريالية باعتبارهما حركتين تشتركان في هم واحد - بمعزل عن المضامين الفكرية والإيديولوجية لكل حركة - كما تشتركان في المسلك الباطني الرؤيوي الذي يعتمدُ الحدس والقلب، وتجاوز الظاهر المرئي الذي يكرس الثنائيات إلى نوع من الوحدة. إذ من المعروف أنَّ أقسى ما يواجهه المتصوف هو شعوره المرير بالطلاق مع جوهر الوجود، في ظل عالم تتنازعه الثنائياتُ وينهضُ فيه الوجودُ المرئيُّ على التناقض الظاهريِّ، الذي يقفُ سدّاً أمام إدراك كنه وحدته العميقة. فإذا كان السورياليُّ يبحث، بحسب بريتون، عن «النقطة العليا» التي تزول معها التناقضاتُ والخلاص من عالم لا يزال «تحت هيمنة المنطق»، كما يُعبر في بيان السوريالية الأول، فإنَّ الصوفيَّ يريد اختراقَ حجب الظاهر نحو الباطن الذي يكشفُ عن وحدة الذات مع الآخر أو المطلق أو الله من خلال الفناء. هذا ما يجعل من التجربة الصوفية تجليا إسلاميا تاريخيا لهاجس إنساني عام يُسمَّى الروحانية في شكلها الذي ذكرنا ملامحه العامة آنفا.
يتناول أدونيس علاقته بالصوفية ضمن هاجس سيطر على تفكيره، وتجربته الشعرية معا هو هاجس الهوية. لقد رأى في التجربة الصوفية إمكانا لتجاوز المفهوم التقليدي الثابت للهوية، والذي يحصرها في مطابقة الذات لذاتها بمعزل عن الصيرورة – أي قانون الوجود. إنه يجابه أرسطوطاليس بفتوحات الرائي هيراقليطس في هذا المجال. فالهوية، بهذا المعنى، ليست أقنوما ثابتا، وإنما هي صيرورة واغتناءٌ ووعدٌ بالاكتمال من خلال حضور الآخر في الذات. إنها «الهوية غير المكتملة» دوما كما يحب أن يسميها. عدم الاكتمال هو ما يميِّز، في العمق، كل ما له علاقة بالصوفية بما يشي أنها «حركة نحو» وليست وصولا إلى يقين جامد ثابت أو هوية منغلقة على ذاتها تستبعدُ الآخر المختلف من دائرة الحقيقة والخلاص. هكذا يبحثُ الصوفيُّ عن التماهي مع المحبوب والمعشوق والفناء فيه. إنها روحانية تجدُ أساسها في الحب لا في علاقات الهيمنة والسيطرة التي تقيمها العقلانية الأداتية أو الدين في أشكاله الشرعية التقليدية مع الآخر. وهنا تكمنُ قيمة الصوفية تحديداً في جوانبها الإنسانية. فهي، من هذا الجانب، فرصة عظيمة لإنسانية مريضةٍ بالانغلاق الهوياتي تدعوها إلى مراجعة نفسها ووضعها الذي لم يعُد إلا مَعينا للعنف ورفض الآخر المختلف.
معرفيا وأنطولوجيا، يتموضعُ أدونيس في موقع يجعله مختلفا عن التأويل الديني النصي التقليدي السائد للغيب. يقول «تخلو صوفيَّتي من المحتوى الديني. إنَّ الله، بمعناه الديني، لم يعُد يتكلم، وإنَّ اللامرئي قيل مرة واحدة وإلى الأبد. غير أنَّ اللامرئي، في صوفيتي يتكلمُ دوما، وعلى نحو لا نهائي...لهذا ليس في صوفيتي فرق بين الكائن الإنساني وما يُسمَّى الله، حيث نبلغ هنا حالة من الوجد تصلنا بجوهر الكون، متجاوزين كل الحجب وكل العوائق المادية، ويغدو المرءُ في تلك البرهة واحداً مع الله...وهو ما يُمكن تسميته بالاتحاد، أو وحدة الوجود». يضيف أدونيس - مُشيراً إلى الجسد باعتباره معبراً إلى الضوء في عتمة الوجود - قائلا «في صوفيتي، تُعطى الأهمية المباشرة والقصوى للجسد بوصفه مثولا متصلا مباشرة بالأشياء، وبالعالم، وبالنور. يقول أحد الصوفيين: من أجل بلوغ اللامرئي، أي الله، لا بد من المرور بالجسد. وأكد على الجسد الأنثوي، لأنَّ العالم الذي لا يؤنث لا يُعول عليه». هكذا يتمُّ استحضارُ الجسد – مُفعما بكل الإنجازات والفتوحات المعرفية التي أزاحت النقاب عن وجه قارة اللاشعور والمكبوت – من أجل تحرير التجربة المعرفية من أشكالها التقليدية القائمة على قمع الجسد. وعلى استبعاد اللامعقول. فمن غير الممكن البحث عن الإنسان الكلي المكتمل المتصالح مع ذاته ومع الكون دون الالتفات إلى الجسد والتجربة الجسدية باعتبارها تجربة صوفية بالأساس تمثل دخولا في ليل العالم – عبر الجنس – بحثا عن لحظة الانخطاف والتماهي مع المطلق الذي يجاورُ الفناءَ والموت. يضيف قائلا «إنَّ فعل الحب يعني التوحد مع الكون، عبر الجسد، إنه يعني التوحد مع جوهر الكون». هكذا يعطي أدونيس للحب معنى ميتافيزيقيا، كاشفا عن أبعاده التي تربطه بينابيع الكون، وبالمعرفة التي تتجاوز عتبة الظاهر المباشر إنقاذاً له من الابتذال الذي أصبح سِمة لحضارة الاستهلاك، والمتعة العابرة في عهد شيخوخة الليبرالية. إنَّ الحب، بهذا المعنى، كالشعر كيمياء ترومُ البحث عن النور في إغفاءةٍ لذيذة يكون فيها الموتُ صنواً لحياةٍ أعلى وأكثر شفافية. وهل ثمة طريقٌ أخرى للمطلق؟
لن يُنقذ الروحانية اليوم، في اعتقادي، إلا انفلاتها من قفص المذهبيات التي أوقعتها في الطقسية والتكرار، وجعلتها سلعة معلبة ومومياء جفَّ في أوصالها ماءُ الحياة. لن يكونَ للروحانية شأنٌ جديد متجدد إلا من خلال صلتها بالنداءات البعيدة الغور في الذات – تلك التي كانت في أساس انبثاقها.
قال المتصوف أبو بكر الشبلي «الصوفية أطفال في حِجر الحق»، ولكن ما دلالة الطفولة هنا؟ أليست إشارة إلى البكارة: بكارة الرؤيا؟ أليست إشارة إلى براءة الكيان؟ إلى البداية؟ إلى الدهشة في حضرة ما لا ينتهي؟ إلى النسيان العظيم المُطهِّر من ثقل التقاليد وإملاء المؤسَّسات الوصية على الروح؟ هذا ما يمنحُ التصوفَ عظمته باعتباره تطلعا لا يفتُر إلى السر وسفراً، وإبحاراً دائما إلى شواطئ قد تومئ من بعيد، ولكن لا يمكن بلوغ تخومها بصورةٍ نهائية.
كتب الفرنسيُّ أندري جيد في يومياته «لن أكونَ رجلا أبداً، بل طفلا شاخ!»، وكأنه يستعيدُ ما كتبه الصوفيُّ المسلم قبل قرون. ولكنني سأختمُ بما قاله أدونيس نفسُه يوما ما عندما كتب «ما أحوج شيخوخة الكلام إلى طفولةِ الأبجدية». هذا جوهرُ المشكل: التحدي الذي يواجه الروحانية اليوم هو أن تستعيدَ طفولتها وبداياتها قبل أن تسقط في شيخوخة التمذهب والدوغماتية.
للموضوع إحالات
عن مجلة «فواصل»


 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024