مثّل المشهد الثّقافي في حركيته أو حتى في سكونه هاجسا مقلقا للكثير من المثقّفين، كونه يعكس التفاعل الحاصل داخل المجتمع من جهة، ويوحي بانتعاش أو فتور المشهد الثقافي ذاته من جهة أخرى. ومع الوضع الصحي جرّاء تفشّي فيروس «كورونا»، الذي أضرّ بالمشهد الثقافي، وتوازيا مع سنة انقضت ومشارف عام جديدة، يطرح تساؤل حول كيف يقرأ المثقّفون والأكاديميّون حصاد المشهد الثقافي خلال السنة المنقضية، وما هي تطلّعاتهم للسنة المقبلة؟
د.أحسن تليلاين:
الجائحة فرضت بدائل رقمية
يقول الدكتور والباحث أحسن تليلاني «هذه بعض ملاحظاتي حول المشهد الثقافي سنة 2021 وآفاقه سنة 2022، أقولها بصفتي كاتبا وباحثا وليس مديرا، مع خالص التمني للجميع بحلول عام جديد عامر بالنجاحات والانتصارات والخيرات والبركات.
أولا: تأثيرات وباء كورونا على الشّأن الثّقافي، حيث إنّه بقدر ما أغلقت المسارح ومختلف الفضاءات الثقافية، فإنّ هذا الوباء اللعين قد فرض على الكتاب والمبدعين البقاء في بيوتهم والتفرغ للكتابة والإنتاج الثقافي، كما فرض على أهل الثقافة البحث عن بدائل رقمية عبر مختلف المنصات الافتراضية لنشر المنتجات الثقافية، فكان هذا الوباء من قبيل «ربّ ضارّة نافعة»، حيث أقبل الجميع وخاصة الشباب على الإنتاج الثقافي في شتى صنوف الإبداع من الأشعار والروايات إلى السينما والفنون التشكيلية، وصولا إلى المسرح والأغاني والأشرطة المرسومة، غير أنّ هذه الإبداعات - على كثرتها وتنوّعها - يعوزها النقد والغربلة خاصة مع عدم اهتمام المختصّين الأكاديميّين بها، وابتعاد وانعزال الجامعة عن المحيط الثقافي، ولذلك لاحظنا كثرة النشاطات الثقافية في مختلف ولايات الوطن بمجرد رفع إجراءات الحجر الصحي شهر أكتوبر الفارط وفتح القاعات من جديد، وهي إن كانت تظاهرات محلية إلا أنّها استطاعت أن تعيد للثقافة حضورها في مختلف المدن الجزائرية شمالا وجنوبا، ولعلنا نلاحظ جميعا هذه الأيام مع العطلة الشتوية العودة القويّة لمسرح الأطفال، وكذلك مختلف اللقاءات والملتقيات وحتى بعض المهرجانات.
ثانيا: أنّ البرنامج الذي جاء به رئيس الجمهورية خاصة فيما يتعلّق بالحفاظ على الذاكرة الوطنية قد ألقى بظلاله على الفعل الثقافي سنة 2021، بحيث لوحظ الاستثمار في المناسبات الوطنية كذكرى يوم الهجرة 17 أكتوبر، أول نوفمبر، 11 ديسمبر وغيرها من المناسبات، كما لاحظنا تغيّرات كبيرة في الممارسات الثقافية، فقد اختفت مثلا تلك التظاهرات التهريجية، وحلّت محلها تظاهرات تستثمر في التاريخ الوطني والمناسبات، وتستفيد من الطروحات العلمية، ممّا رسّخ قناعة لدى الجميع بأنّ أي تظاهرة ثقافية لابد أن تخضع للتخطيط ورسم الأهداف، لأنّ الثّقافة بمقدورها المساهمة في التوحيد العقلي والوجداني للأمة. ولعل أبرز حدث ثقافي هذا العام بعد تعيين وزيرة جديدة للثقافة، هو عودة الحديث عن فيلم الأمير عبد القادر، وغيره من الأفلام التاريخية مثل فيلم «الشهيد زيغود يوسف» وفيلم «بوقرة» وفيلم «الحواس»، كما يجري الحديث عن التحضير للقيام بتظاهرات ثقافية كبرى بمناسبة الذكرى الستين للاستقلال.
ثالثا: على مستوى الأدب، نلاحظ كثرة الإصدارات ورواج الأدب الجزائري عربيا وحتى عالميا، يتجلى ذلك في تتويج الكثير من الكتاب الجزائريين بجوائز عربية، أبرزها تتويج د - عبد الملك مرتاض بجائزة سلطان العويس عن مجمل أعماله، وكذلك النجاح الباهر الذي أصبح يحقّقه الكاتب ياسمينة خضراء، الذي ترجمت أعماله إلى أكثر من 50 خمسين لغة. ولعل أبرز حدث ثقافي في مجال الكتاب إنما هو الإعلان عن إقامة المعرض الدولي للكتاب في الربيع القادم، وهي التظاهرة الثقافية التي من شأنها إعادة تنشيط حركة الطبع والنشر، وكذلك تنشيط سوق الكتاب وتشجيع المقروئية.
رابعا: في مجال المسرح نلاحظ عودة المسرح الجزائري إلى الواجهة الوطنية والعربية، خاصة بعد تتويج مسرحية «جي بي أس» بعدة جوائز، وكذلك توجّه وزارة الثقافة نحو إنشاء مسارح جديدة خاصة في منطقة الجنوب، وإعادة فتح أبواب المسارح المحترفة للجمهور بعد غلقها بسبب جائحة كورونا، وعودة مختلف تلك المسارح بإنتاجات جديدة، كما نلاحظ عودة قوية لمسرح الهواة و مسرح الأطفال، وازدياد اهتمام الباحثين في مختلف الجامعات الجزائرية بدراسة العروض المسرحية بعد الانكفاء لسنوات طويلة على دراسة النصوص فقط. ومن المؤكّد أنّ الاهتمام بدراسة النص المرئي قد رسّخ لدى الدارسين امتلاك أدوات دراسة العرض كالسينوغرافيا والإنارة والأداء وغيرها.
خامسا: في مجال السينما نلاحظ اهتمام السلطات العليا في البلاد بهذا الفن إلى درجة تعيين المخرج السينمائي أحمد راشدي مستشارا لرئيس الجمهورية في سابقة تاريخية لم تحدث من قبل، وهي بالتأكيد مبادرة لها دلالاتها في الاعتراف بأهمية السينما بصفتها فن العصر، وضرورة تطوير الصناعة السينماتوغرافية، وهو ما يتجلى أيضا في العمل الدءوب الذي تقوم به وزارة الثقافة من أجل استعادة قاعات السينما وتهيئتها من جديد، ودعم الإنتاج السينمائي وتشجيع الخواص على الاستثمار في السينما بخلق وبناء استديوهات التصوير. ومن المؤكّد أن فيلم الأمير عبد القادر سيكون من أضخم الانتاجات السينمائية التي ستدشن عودة السينما الجزائرية للواجهة الوطنية والعالمية عام 2022.
سادسا: تنامي الوعي الوطني بأهمية التاريخ، وضرورة الحفاظ على التراث المادي واللامادي، وقد ترسّخ هذا الاهتمام أكثر بفضل إصدار رزنامة من التشريعات والنصوص القانونية التي تهدف إلى حماية التراث وحفظه، خاصة ما تعلق بالعمران والآثار التي هي ليست مجرد أحجار بل هي أسرار وأخبار الأجداد، كما تزايد الاهتمام بالتراث الشعبي جمعا ودراسة، ومن المؤكّد أنّ هذا الاهتمام هو أحد نتائج توجه السلطات العليا في البلاد نحو الاهتمام بالذاكرة وتعزيز الهوية الوطنية.
سابعا: أعتقد أنّ الثقافة الجزائرية بخير، يتجلى ذلك في عودة الحس المدني للمواطن الذي أصبح يعترف بدور وأهمية الثقافة، ويقبل على الانتاجات الثقافية، ومن المؤكّد أنّ عام 2022 سيكون عام التظاهرات الثقافية الكبرى في إطار الاحتفال بالذكرى الستين للاستقلال. عام 2022 أعداده زوجية، وأنا شخصيا أستبشر خيرا لبلادنا، وفي تراثنا الشعبي ما يزكّي هذه البشرى».
د.نبيلة عبودي:
قلّة النّشاطات خصوصا المتعلّقة بالكتاب
من جهتها، ترى الدكتورة نبيلة عبودي أنّ «سنة 2021 مرّت دون أن تشهد الساحة الثقافية الجزائرية تغيرا جذريا، باستثناء النشاطات الثقافية التي تبادر إليها النوادي والجمعيات الثقافية على مستوى المكتبات العمومية ودور الثقافة في بعض الولايات مع غياب مسؤولي القطاع في أغلب المناسبات. كذلك قلة النّشاطات الفعّالة وخصوصا المتعلقة بالكتاب، مع غياب المعرض الدولي الكتاب بسبب الجائحة.
أمّا النّظرة الاستشرافية للسنة الجديدة، فلا تنفصل عن الواقع الثقافي الراهن. فالدخول الثقافي لهذه السنة جاء سريعا يشحنه الارتجال، مع غياب مسؤولي القطاع..وأمام الإصدارات الجديدة التي تشهدها الساحة الأدبية نتمنّى أن يلعب النقد دوره الفعال في نقد النصوص حتى لا يطغى الكم على الكيف».
د.حميدة نواصرية:
المحتوى التّعليمي التّنويري على المحك
أما الدكتورة حميدة نواصرية فتقول «بالنسبة لموضوع الثقافة الجزائرية لعام 2021، فربما سأربطها بالثقافة الجزائرية عبر الوسائط الجديدة، أعتقد أنّ عملية الانتقال والتحول للثقافة من الوسائل القديمة إلى الوسائط الجديدة فيه الكثير من الإشكاليات والحقائق الصادمة، فالملاحظ أنه محتوى الثقافة الهادف التعليمي التنويري أصبح على المحك، لأنّ روّاد مواقع الشبكات الاجتماعية والمؤثّرين الوهميّين الذين ينقلون ويعرضون محتويات تافهة (الرداءة والنكوص لا تمت بالصلة لمحتوى الثقافة الجزائرية الأصيلة والقيم والعادات والفن الهادف..انطباعاتي سلبية جدا، عدا بعض المؤسسات العمومية التي تسعى للحفاظ على الموروث الثقافي الجزائري ونشره).
من جهة أخرى، حقيقة بالرغم من تطور الأدوات والوسائل التكنولوجية التي تساهم في تطوير والحفاظ على الموروث الثقافة الجزائري، إلا أنّني لا أرى إلا استمرار النكوص الثقافي والغزو الغربي واستفحال الثقافات الفرعية التي ستشكّل مشكلا حقيقيا للثقافة السائدة على مستوى الجزائر، لأن الآليات التي تعمل بها المرجعيات الغربية تستهدف قيم وعادات وتقاليد وفنون المجتمع وغرس واستحداث ممارسات وقيم وعادات، فيها ما يكفي لطمس الهوية العربية والإسلامية، لا أتحدث من فراغ ولست أتنبأ من لا شيء، لكن هي سياسات واديولوجيات بدأت إرهاصاتها من نهاية القرن 18 وبداية القرن 19 مع ظهور الحركات التحررية والعرقية والاثنية والعنصرية والنظرية النسوية النقدية، وغيرها التي امتدت جذورها في العالم الغربي لتطال العالم العربي والجزائر..
الكلام كثير، والحقائق مذهلة وصادمة مستندة في ذلك بالعديد من الدراسات والبحوث (حول الصناعات الثقافية والثقافة الجماهيرية والثقافة الالكترونية الفرعية) للعديد من المختصين..أمل بأن يحدث شيء يغيّر خطّة ما يحاول الغرب تنفيذه».
د.لونيس بن علي:
الافتراضي نجح في استغلال الوضع الوبائي
يرى د - لونيس بن علي بأنّه «ليس سهلاً الحُكم على المشهد الثقافي في الجزائر طيلة عام كامل؛ ثم ليست وظيفتي كناقد أدبي أن أصدر أي حكم حتى لا أقع في التجاوز أو الاختزال، وسأكتفي بالقول بأنّ واقعنا الثقافي لم يبرح مكانه؛ نفس الرؤية ونفس المنهج في تسيير الشأن الثقافي. أكيد أنّ الوضع الصحي زاد من الوضع تأزّما، ولو أنّي هنا سأتحدّث عن الوجه الإيجابي لهذا الوضع الذي دفع ببعض النخب النشيطة إلى خلق منتديات افتراضية لتطرح قضايا ثقافية حساسة للنقاش، وأتصوّر أنّ مثل هذه الفضاءات الافتراضية نجحت في استغلال الوضع الوبائي لأجل صناعة بدائل بدأت تفرض نفسها.
ما يهمّني شخصيا هو وضع الكتّاب والكِتاب في الجزائر؛ فهو يشهد انحدارا خطيرا، خاصة وأنه لم تبرز أي سياسة ناجعة لتوزيع الكتاب على ولايات الوطن؛ فالأسعار أصبحت في غير متناول الجميع، الأمر الذي من شأنه التأثير سلبا على المقروئية في الجزائر. أملي أن تفكّر الوزارة على نحو جدي في فتح سوق الكتاب وخلق ديناميكية حقيقية لتحرك الكتب حتى تصل للجميع وبأسعار مدعّمة؛ فلماذا لا تدعم الدولة أسعار الكتب مثلما تدعّم أسعار المواد ذات الاستهلاك الكبير؟».
د - سميرة قنون:
نقترب نحو عالم مغاير لما عشناه
بينما تقول د - سميرة قنون «هو عام المتناقضات بامتياز، من الناحية السّلبية تغيّرت نفسية القارئ والكاتب على حد سواء في التلقي بسبب ظروف الوباء التي مرت على البلاد، والتي عزف فيها القارئ على التهام الكتب دون لقاء أصحابها بسبب نقص أو انعدام المعارض وخاصة الصالون الدولي للكتاب.
بالنسبة لدور النشر كانت سنة مروعة لأنّ العديد من الزملاء النّاشرين اضطروا لغلق دور النشر الخاصة بهم، في ظل ارتفاع تكلفة الورق وعزوف الكتاب على النشر وانعدام المعارض وقلة التوزيع.
من الناحية الايجابية كانت سنة الخروج من منطقة الراحة، جعلتنا على الأقل نفكّر في بدائل كالتوجه إلى الجانب الالكتروني خاصة فيما يتعلق بالبيع والتوزيع، كذلك قربت المسافات بين القراء والكتب المقتناة من المواقع.
بالنسبة للسنة الجديدة، يجب العمل على أن تكون سنة محورية وأساسية للسنوات القادمة، حيث يمكن التفكير في صالون دولي للكتاب يكون افتراضيا أو إلكترونيا، كذلك التوجه للتخصص فيما يتعلق بدور النشر خاصة الناشئة منها والتخطيط لرفع مستوى ذائقة القارئ بالاختيار المناسب للمخطوطات، وكذا التركيز على نقاط التوزيع والتي تعتبر دافع رئيسي للكاتب في الانطلاق للإبداع.
قد لا تأخذ الثقافة هذا التقسيم الرزنمي..فالثقافة امتداد وتطور هادئ ..غير أن المثقف وهو يأخذ الحياة على عاتقه يتأثر بما يصادفه من أمور الصحة والمرض وقلق العالم. وعجزه أمام الأسئلة الصعبة المتجددة. حول مصير البشر..عموما نقترب نحو عالم مغاير تماما لما عشناه، نتمنى أن نجد فيه سلاما مع قيمنا ومفاهيمنا وعام سعيد للجميع».
د - فضيلة ملهاق:
زخم من الأحداث، والانفعالات والتّفاعلات
تشير د - فضيلة ملهاق إلى أنّ «الحياة مراحل ومحطّات ولعل أجملها البدايات، فهي غالبا مضخة لأنفاس جديدة، وزخم من الأمنيات والمشاعر المتفرّدة التي تخالج القلوب والأرواح..وأكثر من ذلك، وقفة لتلخيص الأهداف في الحياة.
البدايات، أي كانت قدراتها على التحول إلى مسافة من الفعل، هي بمثابة مصفاة، تفرز أهم رغباتنا وهواجسنا، وتنتشلنا من فوضى تطلّعاتنا في الحياة.
أتمنى أن يكون 2022 عام صحة وسلام ومحبة للأهل والأحباب..والبشرية جمعاء، وأخص الوطن الحبيب الجزائر بأمنية خاصة، ففي النهاية، مهما تفرّقت أحلامنا وتباينت أهدافها، يجمعها نبع الوطن، وهي تصبُّ بشكل أو بآخر في نهره الكبير الدفاق. أتمنى لوطني الارتقاء والتطور على جميع الأصعدة..أتمناه عام الالتفات الكلي إلى الثروة الحيويّة الفاخرة التي تزخر بها بلادنا - الأدمغة والكفاءات الفاعلة -..فمثلما ترفع العظام الأجساد، ترفع العقول والكفاءات الأمم.
عام 2021 ميّزه على الصعيد الإنساني استمرار فيروس كورونا، بمختلف تحوّراته، حياتنا، في إعادة رسم خارطة وجودنا، وأحاسيسنا. أما على الصعيد الوطني، فكانت هناك محطات تشريعية ومؤسساتية عديدة ..وعلى الصعيد الشخصي، كان هناك زخم من الأحداث والانفعالات والتفاعلات، أذكر منها صدور روايتي الجديدة «حينما تشتهيك الحياة» عن دار العين المصرية، لأنها تحمل في طياتها شيء ممّا أفرزته مصفاة الوجود، وزخما من الأمنيات الطازجة للإنسان والوطن والعالم بأسره».