«الحديثُ عن معارك أمراءِ الحرب، أقلُّ أهميةً من الحديث عن كفاحٍ يلتزمُ به أمراء الفكر”..كانت هذه فكرة محورية وضعها محمد بن شنب، لتكون الأساس لدراسة تتعلّق بشعر أبي دلامة، في زمن ضرب العالم العربي صفحا عن تراثه، ولم يهتم المستشرقون سوى بما هو سياسي ينقّبون فيه عن مواطن القوّة والضّعف في حضارة كان لها الفضل السّابق على مسار الغرب نحو البناء الحضاري.
لقد سجّل محمد بن شنب، في أطروحة الدكتوراه التي ناقشها بجامعة الجزائر عام 1922، بإشراف رونيه باسي، أنّ الدّراسات تركّز على الجانب السياسي في التأريخ للخلافة العباسية، بينما لا يمثّل هذا سوى انعكاسا للجانب الثقافي الذي أغفله الدارسون، فالأحداث الثقافية - يقول بن شنب - تثير الاهتمام تماما مثل الأحداث السياسية، باعتبار أن ما هو سياسي، ليس سوى نتيجة طبيعية لما هو ثقافي..
أبو دلامة وشعره..
لم يكن شعر زند بن الجون المعروف بأبي دلامة يحظى بالاهتمام، والإخباريون العرب أنفسهم، أمثال ابن قتيبة الدينوري، وأبي الفرج الأصفهاني وغيرهما، لم يتيحوا له أيّة مساحة ضمن أبواب الأخبار المهمّة، وإنما استغلّت أشعاره وأخباره فيما يدخل في أبواب الطّرائف والنّوادر، أو ما هو للتّرويح عن النّفوس، بعد جهد الدّرس الفكري العميق، وعلى هذا، بقي شعر أبي دلامة منثورا على الكتب، دون أن يعيره أحد سمعا..
ولقد تساءل عدد من الدّارسين عن السبب الوجيه الذي يكون قد أقنع محمد بن شنب بدراسة أبي دلامة وشعره، فالعالم العربي من حوله، كان منشغلا بابن خلدون والمتنبي، والأسماء الكبيرة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، غير أنّ هؤلاء يفوتهم أن السّياق التاريخي الذي اشتغل به محمد بن شنب، مختلف تماما عن السياق الذي اشتغل فيه الباحثون الآخرون، ولم يكن للمتنبّي - على سبيل المثال - إضافة يمكن أن يقدّمها لمجتمع يعيش فترة حرجة من تاريخه، بعد أن تمكنّ الاستعمار الفرنسي من المقاومات الشّعبية، وهيمن على جميع أنحاء القطر الجزائري، ويبدو لنا أنّ شخصية أبي دلامة، كانت تمثّل النّموذج الأنسب لشعب مغلوب على أمره، ينبغي أن يحضر لمقاومة جديدة، ويتعامل مع الاستعمار بحنكة ودهاء، كي يحتفظ بجميع مقوّماته التي تسمح له بخوض معركة جديدة ضد المحتل، تماما مثلما تمكّن أبو دلامة، ذلك الرّجل البسيط الذي ترعرع في مرابع بني أسد، من تمرير رسائله في زمن صعب للغاية، دون أن يعييه ما اشتهر به الخلفاء العباسيّين الأوائل من بطش بكل من يناوئهم، بالنظر إلى وضع الدولة الفتية التي كانت في طور التّأسيس.
يبقى هذا مجرّد افتراض، ولكنه يبدو لنا الأقرب إلى واقع الحال، خاصة وأنّ رسالة محمد بن شنب المكمّلة للدكتوراه، تعلّقت بالألفاظ الفارسية والتركية التي عرّبها الجزائريّون، إضافة إلى ما قام به من جهد في جمع الأمثال، وكل ما يتعلّق بالخصوصية الجزائرية، وهذا يدل بوضوح على أنّ البحث ميّز الجزائريّ عن المستعمر، واحتفظ له بسمو واقعه الحضاري الذي اشتغل الخطاب الكولونيالي على محوه من التاريخ.
ولا حاجة إلى القول بأنّ محمد بن شنب، منح الجزائر أوّل دراسة أكاديمية، وفسح المجال أمام المنهج العلمي كي يستقر في الدراسات، وهذه تعتبر - في تاريخ الجزائريين والعرب عموما - لحظة انتقال مبهرة على المستوى المعرفي، فقد جمع بن شنب كل ما تناثر من شعر أبي دلامة في ملحق أطروحته التي وسمها بعنوان: “أبو دلامة: شاعر مهرج ببلاط الخلفاء العباسيين الأوائل”، وقدّمه موثقا ومدققا وفق اختلافِ الروايات، ومُحدَّدا وفق البحور التي استعملها، فكان الملحق كتابا ثانيا عنوانه (القلامة من شعر أبي دلامة)..وهو كتاب تولى طبعه بعد ذلك من اجتهد وأضاف البيت والبيتين.. فاجتمع لأبي دلامةَ ديوانُه..
جهد بن شنب..
لملم محمد بن شنب سيرة أبي دلامة من كتب الإخباريين، وتمكّن من استخراج الصّورة الأقرب إلى الواقع التاريخي، من خلال قراءات فاحصة لمصادر الأخبار..ولقد لاحظ أن أقرب الذين سجلوا وقائع من سيرة أبي دلامة، كان ابن قتيبة (صاحب عيون الأخبار)، وهذا توفى بعد حوالي قرن كامل من وفاة ابن الجون، بينما عاش أبو الفرج الأصفهاني (صاحب الأغاني)، وهو المصدر الرئيسي لحكايات أبي دلامة وطرائفه، بعد حوالي قرنين كاملين من وفاة الشاعر.
لم يحتفظ التاريخ بشهادات معاصري الشاعر، ولقد فرض هذا الواقع جمع الأخبار وفحصها بدقّة من أجل تخليصها من المنحولات والإضافات أو التعديلات التي يمكن أن تعتريها أو تتسلّل إليها، فإذا نظرنا إلى أحجام كتب الإخباريّين، يتبين لنا أن بن شنب قام بجهد فريق بحث كامل، من أجل جمع مادته التي ينبغي أن يدرسها، ولقد أظهر باحثنا نبوغا في تقييم الأخبار وردّها إلى مظانّها، وأخضعها إلى النظر النقدي فأقام البرهان على أكاذيب كثيرة تلصّقت بسيرة الشاعر، وكشف عن مبالغات غير معقولة ارتُكبت في حقه، بل لقد وجد محاكيات لسرديات قديمة تستبعد أبطالها الحقيقيين، وتستعمل أبا دلامة..لم تكن مدوّنة بن شنب جاهزة إذن، وإنما استخلصها من الضّياع في مرحلة أولى، ثم اشتغل عليها منهجيا في المرحلة التالية.
ولم يتوقّف جهد محمد بن شنب عند مقتضيات عمله المنهجي، فقد كان لزاما عليه أن يترجم شعر أبي دلامة إلى الفرنسية، بحكم أنّها لغة الأطروحة، فجاء بروائع ترجمية حافظت على روح النصوص وانسيابيتها، بل لقد ترجم كل ما احتاج إليه من أشعار ومقولات وحكايات تتعلق بموضوع دراسته، وأثبت ذلك في المتن باللغتين معا..
لن نخوض في التحليل الذي خصّصه محمد بن شنب لتطور عمود الشعر، ولا إلى طريقته في شرح فكرة “نمو اللغة وتطورها”، فهذه جاء فيها بما هو أكثر حصافة مما عند اللغوي الكبير آرسين دارميستيتر..لعلّنا نكتفي بالإشارة إلى فكرة “التسامح” التي أثارها، ووصفها بأنها طبعت العصر العباسي، وسمحت لمعنى الحضارة أن يستقيم، فهذه فكرة استغرقت في نوم عميق، وكان عليها أن تصبر ثلاثين عاما، كي يأتيها جيل جديد من المفكرين، ويحاولون صياغتها من جديد..
عودة أبي دلامة..
استقامت صورة أبي دلامة أمام محمد بن شنب، فقد توصّل إليها بخطوات منهجية مضبوطة، فهو لم يأخذ بآراء النقاد المتسرّعين الذين اعتبروا أن شعر أبي دلامة يمثّل نموذجا عن سوء السلوك والكلبية المقيتة..كذلك قالوا عن فرانسوا رابليه من قبل، يقول بن شنب، لهذا لخّص قائلا: البيت الشّعري عند أبي دلامة، لم يكن زخرفا من القول يرغب في إثارة الانتباه على حساب الفكرة، وإنما كان لباسا طبيعيّا لفكر لا يستطيع التعبير بواسطة النثر، والغالب أنّ عمق الفكرة، كان متفوّقا على الشكل عند أابي دلامة..
..عمق الفكرة..هو ما يمكن أن نصف به مشروع محمد بن شنب الذي استعصى على كثيرين..وجعل كبار الدارسين الغربيّين يذعنون أمام غزارة علمه، وصفاء فكره، ودقّة تحليله، وهو العمق الذي لمسه الأستاذ الدكتور عبد القادر بوزيدة في تحليله للمقارنة التي عقدها محمد بن شنب بين “رسالة الغفران” للمعري، و«الكوميديا الإلهية” لدانتي أليغيري..وتساءل في ختام عمله قائلا: ألم يكن بن شنب، وهو يضع دراسته هاته، يشير بصورة غير مباشرة إلى تأثير نصوص إسلامية في نص أوروبي؟! ألم يساهم في نسف الخطاب الكولونيالي الذي كان يسعى إلى تبخيس الجزائريّين والحضارة التي ينتمون إليها؟!
على كل حال، لا يمكن لمن يقرأ محمد بن شنب برويّة، أنلا يعانق نفس السّؤال الذي انبثق في عمل الدكتور بوزيدة، وبين أيدينا كذلك توثيقات رحلة محمد بن شنب إلى المغرب بتكليف من الجامعة، فهذه تتحدّث صراحة عمل منهجي لنسف الخطاب الكولونيالي، ولا نرجو إلاّ أن تسعفنا الحال كي نعود إلى ما كتب محمد بن شنب في مقبل الأيام.
هناك ملاحظة أخرى لا نريد أن تفوتنا في مقامنا هذا، وهي متعلّقة بـ “مفهوم السّخرية”، وهذا ما يزال تائها إلى يومنا هذا بالحاضنة اللغوية العربية، يتلبّس بمفهوم “الفكاهة” تارة، وبمفهوم “الهزل” تارة أخرى، بينما تمكّن محمد بن شنب قبل 1922، من التفريق بين ما هو من “الاستهزاء” وما هو من “التهكم” أو “الكلبية” وباقي الأنواع السّاخرة، رغم أنّه لم يشتغل على وضع تعريفات محدّدة لكل نوع، فهذا لم يكن موضوعه، غير أنّ الفوارق بين الأنواع السّاخرة كانت تقفز من بين السطور بوضوح تام، لأنّ محمد بن شنب لم يكن يأتي بالمصطلح إلاّ لأداء وظيفته التي يختص بها.
تنبيه ضروري..
بقي القول إنّ اسم العلاّمة الجزائري المولود بحي تاكبو بمدينة المدية، عام 1869، هو”محمد بن شنب”، وليس “محمد بن أبي شنب”، كما تصرّ كثير من الدراسات على تسميته، دون تحقيق ولا تدقيق كان بن شنب قد أتقنهما قبل قرن كامل من الزّمان، وانتقل بالدراسة العلمية من حدود البلاغة التي توّقفت عندها، إلى رحاب المنهج العلمي، وهذا “انتقال” لا تتوفّر أسبابه في كلّ لحظة على المسار العام للتاريخ.