حل ضيف على الجمعية العُمانية للأدباء

وحيد بن بوعزيز يقرأ «أخلاقيات الاعتراف»

فاطمة الوحش

 استضافت لجنة الدراسات والفكر بالجمعية العمانية للأدباء والكتاب ضمن سلسلة المحاضرات التي تقدمها، الدكتور وحيد بن بوعزيز للنقاش حول موضوع «حضور الذاكرة ومسائل الغفران - قراءة في أخلاقيات الاعتراف -»، أدار الجلسة وحاوره الدكتور خالد، كما أثريت الجلسة بمجموعة من المداخلات من قبل دكاترة وباحثين مهتمين بهذا الحقل الثقافي.
افتتح الجلسة الدكتور خالد بالإشارة إلى أن موضوع حضور الذاكرة ومسائل الغفران والاعتراف من المسائل المهمة التي عنيت الدراسات الثقافية بدراستها مؤخرا، كما عنيت الكتابات السردية الحديثة بالاهتمام بها والاشتغال على أدبياتها وإبراز ملامحها بالعمل السردي، وبعدها رحب بالدكتور بن بوعزيز وشكره على المشاركة في هذه الندوة، ثم انتقل لتقديم سيرة موجزة عن الدكتور وحيد بن بوعزيز الذي يشتغل أستاذا للأدب المقارن والدراسات الثقافية بجامعة الجزائر 2، حاصل على شهادة الدكتوراه في مجال التأويل الثقافي سنة 2007، له عدة إصدارات منها: كتاب حدود التأويل، كتاب جدل الثقافة، شارك في كتاب جامعي حول الفيلسوف الألماني تيودور أدور، كما أشرف وقدم لكتاب بعنوان ثقافة المقاومة برفقة نخبة من الأكاديميين، قدم وشارك أيضا في كتاب العين الثالثة - تطبيقات في النقد الثقافي- ، كما أن له عدة مقالات منشورة في دوريات دولية، وله عدة مشاركات في ملتقيات عالمية، يشتغل الآن رئيسا للمجلس العلمي بكلية اللغة العربية وآدابها، ورئيسا للجنة ازدهار اللغة العربية بالمجلس الأعلى للغة العربية، لتبدأ بعد ذلك سلسلة الأسئلة والنقاشات.

الدراسات الثقافية تحاقلية أم هي متعدّدة التخصّصات؟

   أشار د/ وحيد بن بوعزيز إلى أن الكثير من المختصين والمتتبعين لهذا الحقل يرون أنها متعدّدة التخصّصات وصعبة، ويرجع ذلك إلى انفتاحها على عدة مجالات معرفية، ومن أجل فهم هذا التعدّد لابد من العودة إلى السياق المعرفي الذي انبثقت منه هذه الدراسات، مضيفا أنه في فترة الستينات والسبعينات كان هناك صراع بين مناهج سياقية أبعدت النصوص عن الدراسة، وبين مناهج نسقية غرقت في دراسة النصوص جماليا ناسية الظروف التاريخية والاجتماعية المنتجة لهذه النصوص، فلما جاءت الدراسات الثقافية لم تتحيّز لطريقة عن أخرى بل حاولت الجمع بينهما وذلك بإضفاء دياليكتيك الإبداع النصي، ذلك الجدل الذي يتمّ عن طريق الاعتقاد بأن النص هو نتاج لظرفية تاريخية، وأيضا منتج لظرفية تاريخية أخرى، وبهذا استطاعت الدراسات الثقافية أن تجمع بين النص وخارج النص، خاصة بعدما جاءت بعض الأفكار في أوروبا التي ترفض فكرة التخصّص وتعتقد بأن هذه الفكرة إستراتيجية من استراتيجيات السلطة كما يقول «ميشال فوكو»، وبذلك خرجت هذه الدراسات من التخصّصية وراحت تنفتح على العديد من المناهج والمقولات الفلسفية والاجتماعية والمعرفية...، وأصبحت تريد امتلاك كل نواحي النص في علاقته بالعالم من جهة ومن جهة أخرى أصبحت صعبة، لأنها تقتضي أن يكون للناقد مقدرة وعدة معرفية كبيرة.
ويرى د/ بن بوعزيز، أن هناك خصوصية أخرى مهمة من خصوصيات الدراسات الثقافية إلى جانب التحاقلية وهي الالتزام بالمعنى الذي كتب عنه «جون بول سارتر»، بمعنى أن الناقد لا يكتفي بالنص دراسة حيادية بل يجب أن يكون للناقد موقفا عن العالم الذي يعيش فيه، ويكون منخرطا في التعايش الاجتماعي عن طريق خطابه الثقافي، فالدراسات الثقافية قدمت للمثقف دورا جديدا فلم يصبح ذلك الذي يسبح في برجه العاجي بل أصبح مسيّسا بطريقة ما (سياسات الثقافة)، وله رأي كما يقول بيير بورديو «له موقف سياسي».
   أما عن كيفية تجلي التحاقلية في مجال الدراسات الثقافية فقد أكد الدكتور وحيد بن بوعزيز، أن الدراسات الثقافية متعدّدة الجوانب حيث نجد فيها: الجندريات - العرقيات المرتبطة باللون - الاستعمار - ما بعد الاستعمار..، لهذا راحت الكثير من التخصّصات تعالج نفس المغزى، وأضاف أنه لو نربط بين التحاقلية والالتزام يصبح المثقف مطالبا بفضح وتفكيك الهيمنات الموجودة في العالم الذي نعيش فيه سواء في علاقة الرجل والمرأة أو علاقة الأبيض بالأسود، وهنا نكتشف شيئا مهما جدا هو أن الهيمنة هي العمود الفقري للدراسات الثقافية، فرغم اختلافها وتعدّد مشاربها إلا أنها تشترك في شيء واحد هو فضح الهيمنة والتمركز.
مسائل الذاكرة من منظور الدراسات الثقافية
يرى د/ وحيد بن بوعزيز أن مشكلة الذاكرة تتردّد كثيرا في الدراسات الاستعمارية وما بعدها، وما نجده متداولا «الكلام عن الذاكرة الاستعمارية»، ثم يشير إلى «سايمون ديورنغ» الذي يقول في كتابه «الدراسات الثقافية مقدمة نقدية: «إن التاريخ لا يوضح جيدا المعاصر أبدا فهو على الدوام مفرط في انتقائيته ومتحيز لدرجة تحول دون قيامه بذلك، لكن مهما كانت الروايات والمشروبات اختزالية فهي أفضل بكثير من عدم وجود أي فهم بالماضي اللثة».
وأما عن إدراج الذاكرة ضمن الدراسات الثقافية فقد ذكر د/ بن بوعزيز أن الذاكرة تهيمن عليها إما طبقة أو خطاب مسيطر، وضرب مثلا بالسرديات الاستعمارية، حيث نجد تاريخ شعب ما إذا كان مستعمرا؛ الذاكرة التي تطغى عليه إن لم تكن له سردية مضادة هي الذاكرة الاستعمارية، فلو انطلقنا مثلا من الجزائر نجد أن التاريخ الذي كتب عنها إلى غاية الثلاثينات من القرن الماضي هو التاريخ الذي كتبه الفرنسيون، فالجزائريون بدأوا قبيل الاستقلال بعشرين سنة يكتبون تاريخهم وهي عبارة عن رد بالكتابة على السردية الاستعمارية، ومن المعروف أن من يمتلك الذاكرة فهو يمتلك المستقبل وبذلك نحن أمام شكل من أشكال الهيمنة.
ويؤكد بن بوعزيز أيضا، أنه لابد من التفريق بين التاريخ والذاكرة، منطلقا من المقولة التي قالها المؤرخ الفرنسي «بيير نورا» «الذاكرة تفرق والتاريخ يجمع»، فالتاريخ ينحو إلى العلمية والموضوعية وتجنيد نسبي للذاكرة، أما الذاكرة فتكتنفها العاطفة ولهذا يقول المؤرخون كلما ابتعدنا عن الماضي، كلما اتجهنا نحو التاريخ الحدث وابتعدوا عن الذاكرة، فهي دائما توظف بعاطفة ما وهي مرتبطة بالصدمة، حيث قدم الدكتور مثالا عن الجيل الجديد في الجزائر ورؤيته للاستعمار وكلامه عنه، فهو يراه موضوعيا لأنه مبتعد عن الصدمة على عكس الأجيال التي عقبت الاستقلال التي تراه كذاكرة لأنه يتكلم عن الاستعمار بعاطفة ونوع من الامتعاض.
 وفي ذات الصدد، ذكر الدكتور أن «غوستاف لوبون» في كتابه «التاريخ والذاكرة» تحدث عن هذه المسألة حيث قال «أخيرا أكد علماء النفس والمحللون النفسانيون التذكر أما في مجال النسيان، عمليات التلاعب الواعية أو غير الواعية التي تمارسها المصلحة والعاطفة الرغبة والحرمان الرقابة على الذاكرة، لذلك نرى أن الذاكرة الجمعية كانت رهانا مهما في القوة الاجتماعية للسلطة، السيطرة على الذاكرة والنسيان هي من أكبر اهتمامات الطبقات والأفراد الذين يهيمنون على المجتمعات التاريخية، فعمليات النسيان أو إغفاله مؤشران عن عناصر التلاعب بالذاكرة الجمعية»، ومنه فالدكتور بن بوعزيز يرى أنه يمكن إدراج الذاكرة في الدراسات الثقافية لأنها حقل للتلاعب والهيمنة وحقل للصراع وحقل لحروب الذاكرة.
نصوص الذاكرة والاعتراف في السرد الحديث والتأسيس لمسار معين
أكد د/ وحيد بن بوعزيز على ضرورة التوجه إلى عمل الذاكرة، كما قال بأن فرنسا تأخرت كثيرا في اعتذارها وأن الجزائريين تأخروا كثيرا في المطالبة بالاعتذار، من أجل الوصول إلى ما يسمى بأخلاقيات الغفران أو الصفح، وفي ذات الصدد تحدث الدكتور عن الفرنسيين وطريقة معالجتهم لمسألة الصفح، بدءا بالفيلسوف فلاديمير جانكيليفيتش الذي عالج مسألة الصفح عن مقترفي المحرقة النازية في كتابيه «الصفح» و»مالا يقبل التقادم»، فهو يرفض فكرة الصفح لسببين أولهما؛ أن الألمان لم يطلبوا الصفح والثاني أن تلك الجريمة التي ارتكبت عظيمة جدا ولا يمكن الصفح عنها، ثم جاك ديريدا الذي كتب كتابا بعنوان «الصفح، مالا يقبل الصفح ومالا يتقادم»، قائلا أن «جانكيليفيتش نسي جوهر الصفح في حد ذاته، أننا تصفح عن الأشياء التي لا يمكن أن تصفح عنها...»، إلى بول ريكور الذي أدلى هو الآخر بدلوه في مسألة الغفران فكتب كتابا مهما بعنوان «الذاكرة والتاريخ والنسيان»، ادخل فيه شيئا جديدا وهو مسألة الحب المطلق (فكرة مسيحية بامتياز)، حيث ذكر د/ بن بوعزيز أن فكرة الحب بالمعنى المسيحي عند ريكور فكرة مهمة جدا لكي تبنى فكرة الصفح.
 وقد لخص أهم ما جاء في الكتاب في خمس نقاط: «- على قدر عمق الذنب والجرم يكون علو الغفران والصفح، - عدم وصولنا إلى العلو المرجو من الصفح يدل على أزمتها في الحب، -الغفران حينما يُسيَّس فإننا ننسى مفارقة أن الضمير ليس جماعيا وتنسى قضية التمثيل كمعضلة، - أن التأكيد على فكرة الحب المطلق هي فكرة تخييلية يدعمها في الإنجيل ما جاء من كلام الإنجيل «أحبو أعداءكم»».
وأشار د/ وحيد بن بوعزيز أيضا إلى أن المخرج الآن في فكرة الصفح والغفران لا يكون إلا بفكرة الاعتراف، والاعتراف هنا ليس خطابيا وإنما هو عمل جماعي ثقافي سياسي وحضاري يقوم به الطرفان.
النصوص التي ناقشتها دراسات ما بعد الاستعمار؟
أوضح المتحدّث أن فكرة الذاكرة موجودة في النصوص الاستعمارية وما كتبه المستعمِر والمستعمَر وموجودة في النصوص ما بعد الاستعمارية، فبالعودة إلى النصوص الجزائرية نجد أن هناك الكثير من الكتاب الواعين بمسألة الذاكرة ولعلّ محمد ديب الكاتب المخضرم صاحب ثلاثية الجنوب الذي فضح من خلالها أساليب الاستعمار واحدا من هؤلاء الأدباء، مضيفا أنه بعد الاستقلال ذهب إلى شمال أوروبا وعاش هناك، وبدأ يطرح الأسئلة التي تطرحها دراسات ما بعد الاستعمار مثل مسألة الهجنة، مسألة الفضاء الثالث، مسألة هل يبقى المثقف المنفي مثقفا كما كان أم يصبح منخرطا مع الواقع الجديد أم يبقى بينهما..، كما أشار الدكتور إلى أن «محمد ديب» عاش هجنة لكنها ليست التي حذر منها «حميد داباشي» تلك الهجنة التي تجعل المثقف مُخبرا ثقافيا يخدم المصالح الإمبريالية.
وقال عن قصة عامرية والفرنسي التي اختارها من مجموعة محمد ديب القصصية «الليلة المتوحشة»، والتي طرحت مسألة يمكن أن تكون جديدة في الدراسات ما بعد الكولونيالية هي مسألة ماذا لو عاد المستعمر..، حيث قال بأنه عندما نقرأ القصة نكتشف أشياء كثيرة يمكن أن تدرس في الدراسات ما بعد الكولونيالية، مثل مسألة العودة المعكوسة وهي مسألة مطروحة كثيرا من طرف الأقدام السوداء، مسألة الضمير الشقي من خلال رفض موسيو جاك الظهور هل لأن ضميره يؤنبه - هل يمكن أن يكون الضمير بداية في مسلك الصفح؟..، مسألة استحالة العيش المشترك وسببها أن الجراح مازالت مفتوحة، مسألة الحنين..

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024