سفن حربية، تفرض أشرعتها وأعلامها للرياح وتبقي على مدافعها موجهة إلى الأمام في وجه الخطر وكأنها في معركة بحرية في قلب المحيط، لكن البحر الذي تقف عليه ما هو سوى طاولة عرض، لأنها في الأصل مجسّمات طبق الأصل عن البوارج الحربية العثمانية والتي تنحتها أنامل الفنان الحرفي لعيايدة عبد الرزاق في مشغله الصغير بأعالي القصبة.
من بين الحرف التي تحاول الصمود من أجل البقاء، وإعادة النشاط السياحي والاقتصادي إلى قصبة الجزائر، حرفة النجارة الفنية، من خلال حرفي فنان شاب، شغوف بالسفن الحربية التي صنعت مجد الأسطول الجزائري بين القرنين السادس والتاسع عشر، وبدأ منذ عشرية في بناء مجسّمات لها حملها أدق وأصغر التفاصيل وجعل منها سفنا راسية فوق منصات العرض.
خشب وقماش منسوج من الصوف أو الكتان ومسامير ومجسّمات، مدافع صغيرة وحبال رفع هي المواد الأولية التي يستعين بها الحرفي لعيايدة عبد الرزاق في نحت وبناء المجسّمات بورشته الصغيرة بأعالي القصبة والتي تضم أيضا مكانا لعرض وبيع التحف.
بدأ لعيايدة ممارسة الحرف الفنية وخاصة صناعة مجسمات السفن البحرية القديمة التي كانت موجودة في الجزائر بين القرنين 16 و19، مند أكثر من عشر سنوات، أربعة منها كانت ببلجيكا، وأين عرف نجاحا كبيرا وتشجيعا من محبي هذا الفن الرفيع.
عند عودته إلى أرض الوطن سنة 2013 أنشأ مشروعه الحرفي الصغير بأعالي القصبة، ووقع اختياره على المحل الصغير في أسفل دويرة قديمة، والذي لا يتعدى 6 أمتار مربعة، لأن القصبة كانت فيما مضى تضم بين أزقتها جل الحرف والمهن القديمة، التي كانت وراء ازدهار الحياة الاجتماعية والاقتصادية أيام العصر الذهبي للمحروسة.
وبدأت قصة عبد الرزاق مع بناء مجسّمات السفن، حين وقعت تحت يده مذكرة تخرج ماستر لطلبة من جامعة الجزائر، أين وجد الكثير من المعلومات حول البوارج البحرية الجزائرية، الأمر الذي حفزه على توسيع البحث إلى مؤلفات الكتاب الأوروبيين والأمريكيين الذين كتبوا على ازدهار الأسطول البحري الجزائري خلال الحقبة العثمانية.
ويحمل الحرفي الشاب مشروع «استرجاع تاريخ الملاحة البحرية وبناء مجسمات «13 فرقادة»، التي كانت مشهورة في الفترة الممتدة من القرن 16 إلى القرن 19 في البحر الأبيض المتوسط، مستندا فيه إلى الأرشيف الأمريكي أين وجد مخططات البعض منها. المشروع موجه إلى متحف البحر الذي أسس مند سنوات بالقصبة السفلى، ربما يجد صدى ودعما لتجسيده ميدانيا.
للإشارة عرفت منتوجات لعيايدة إقبالا كبيرا خاصة قبل تفشي فيروس كورونا وساهم توافد السياح على قصبة الجزائر في التعريف به وبفنه، في حين تبقى مجسمات «الفرقادة» بعيدة عن متناول السائح العادي لأنها غالية جدا وتتطلب أكثر من سنه من العمل الدقيق وهي في الغالب موجهة للمتاحف.
إلى جانب بناء المجسّمات يتقن عبد الرزاق أيضا فنّ الإضاءة مستعملا القرع الجاف، حيث يتم نحتها وتحويلها إلى مصابيح للزينة يبيعها إلى السياح ما بين 3500 إلى 12000 دج.
ويوجه لعيايدة عبد الرزاق، اليوم نداء إلى السلطات العمومية لمساعدة الحرفيين على التعريف بالحرف وتشجيعها فقبل فيروس الكوفيد، كان هنا انفتاح في مجال السياحة خلق سوقا للحرف والمهن القليلة التي بقيت تقاوم من أجل البقاء