طقوس إفريقية..من عمق التّاريخ
٫انتشرت في السّنوات الأخيرة أنواع مختلفة من الموسيقى، بل أصبحت تفرض نفسها خاصة مع نهاية القرن الـ 20، وأضحى كل طابع أو لون من الموسيقى له خصوصياته، وظاهرة اجتماعية وصلت إلى مختلف أصقاع العالم. ومن هذه الموسيقى نجد موسيقى ڤناوة أو الديوان، هذه الموسيقى التي ارتبط اسمها بالصحراء الجزائرية وبالقارة السمراء وجب الوقوف على عدة جوانب منها كيف انتشرت؟ ما هي الطقوس التي تستعمل فيها؟ وماذا تعني؟ ما الفكرة الراسخة عند البعض عن هذه الموسيقى وربطها بتجارة العبيد في القارة السمراء؟ ما الالات المستعملة فيها؟ هذه الأسئلة وغيرها نحاول الإجابة عليها من خلال هذه السطور.
الديوان أو موسيقى ڤناوة موسيقى جزائرية عربية افريقية، وغالباً ما يستخدم لفظ موسيقى الديواني للدلالة على الموسيقى القناوية ويوجد هذا النوع من الموسيقى إلى جانب الجزائر، في كل تونس، المغرب، مصر وليبيا وذلك تحت اسم خاص يعرف به في بلد أو آخر. ولموسيقى الديوان الجزائرية ما يشبهها في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وقد بدأت هذه الموسيقى تنتشر في الجزائر من منطقة لأخرى بالرغم من أن بدايتها كانت بالجنوب، حيث تجدها في كل ولاية وتحظى بشعبية كبيرة في الجنوب بصفة خاصة، ونجد فرقا محليّة تختص في هذا المجال وتقوم بالعديد من الأعمال الموسيقيّة في أغلب المناسبات والمهرجانات الدوليّة والأعياد عبر فرق محلية تدعى بالمحلة، وهي من تسهر على تنظيم المناسبات والأعياد الدينية مثل عاشوراء، موسم شعبانة (وهو آخر أسبوع من شهر شعبان يعلن من خلاله اختتام الأنشطة الى غاية نهاية شهر رمضان)، إلى جانب إحياء المواسم أو ما يعرف بالوعدة بالجزائر أو الطعم، ونجد «وعدة مولاي الطيب» التي تقام بمعظم الولايات كالمشرية والعين الصفراء بالنعامة، بشار، عين تموشنت، البيض وغيرها، وتعرف في تونس بـ «دخلة الأولياء الصالحين» مثل دخلة الولي «سيدي مرزوق» بنفطة، وهي عبارة عن استعراض يتشارك فيه كافة فرق الڤناوة ليشكّل فريقا واحد متكاملا يطرب مسامع الحضور، وينطلق هذا العرض من أول البلدة حتى الوصول إلى المقام الذي يبعد ما يقارب خمسة كلم على مسافة الانطلاق.
وفي عام 2006 أعلن مسؤولو الثقافة بالجزائر عمّا يمكن تسميته بـ «جزأرة» هذا النوع من الموسيقى ضمن مشروع بناء الأمة، أي منحه صبغة وطنية جزائرية خالصة، وهذا بعدما قطعت موسيقى الديوان رحلة طويلة عبر الصحراء لتعزيز وجودها على الساحة الفنية وإبراز خصوصياتها، وهو نمط تقليدي للتعبير الموسيقي بجنوب الجزائر، بل هو من الموسيقى القديمة المستوردة منإفريقيا جنوب الصحراء.
وقد ذكر الأستاذ نصر الدين حديد في بحث له بمجلة «العربي الجديد» بتاريخ 15 أفريل 2018 تحت عنوان: «الديوان الجزائري...موسيقى مسكونة بالأرواح»، إن موسيقى الديوان انتقلت مع أسواق تجارة البشر والملح والذهب لتحطّ رحالها بالجزائر، وأصبحت تعرف بموسيقى الڤناوة (أو الكناوة نسبة إلى غينيا) بالمغرب أو السطمبالي في تونس وليبيا، وإن العبيد الذين قادموا من إفريقيا جنوب الصحراء لم يتحملوا أوزار الأعمال الشاقة فقط، ولكنّهم حملوا معهم أيضًا موسيقاهم في جيوبهم وحناجرهم وحركات أجسادهم، وغنّوا للحريّة والانعتاق والمعاناة أينما قذفتهم السفن، فبقيت أهازيجهم شاهدة على أنّهم مرّوا منذ قرون من هنا أو هناك، وهكذا سافرت موسيقى الريغي من كينيا إلى جاميكا، وأبحرت موسيقى الجاز من حقول الكونغو إلى ضفاف المسيسيبي، وهو اعتراف بالثقافة الإفريقية، وظاهرة الرق التي حدثت في الماضي مع جميع ما تحيط به من أمور تعتبر من المحرمات التي لا يمكن الخوض فيها.
مساهمة القوافل التّجارية
أما الكاتب الجزائري عبد الله بن عمارة، فقد أكّد في بحثه ضمن موقع «ميادين»، أن التجارة بين المغرب العربي والسودان الغربي (السنغال والنيجر) قد لعبت دوراً كبيراً لبلاد المغرب العربي في إحداث تحوّلاتٍ كبرى في التاريخ السياسي، الاقتصادي والاجتماعي (وغيرها من الجوانب الديموغرافية والعمرانية التي لا يمكن حصرها) للمنطقة.
وقد ساهمت القوافل التجارية في تشكيل «حواضر» في قلب الصحراء وفي ازدهار أخرى، فساهمت في ربط دول المغرب العربي ببعضها البعض من جهة، ومع السودان الغربي (السنغال والنيجر) من جهة أخرى، كان أهمها في المغرب الأقصى تلك التي كانت تربط بين مدينة سِجْلمَاسَة (قبل خرابها في نهاية القرن الـ 14 م)، وغانا وأُودَغْسْت (تقع في موريتانيا الحالية)، وبين مدينتي فاس ومكناس وتُمْبُكْتُو (مالي)، أو بين مراكش وذات المدينة المالية. وفي الجزائر ربطت مسالك تجارية طويلة بين مدن تِلمْسَان، تيارت ووهران، ومدن ڤاوْ وتُمْبُكْتُو في السودان الغربي مُرُوراً بوادي ميزاب (غرداية) ثم ورڤلة أو بإقليم تْوات في جنوب غرب الجزائر (خصوصاً تِمْنْطِيط )، فيما كانت الطريق الرابطة بين واحات الجَرِيدْ (الجنوب التونسي) والسودان الغربي مُرُوراً بغرداية وورقلة من أهم طرق المغرب الأدنى. وتحوّلت محطات التقاء القوافل إلى مدنٍ مزدهرة لعبت دوراً مركزياً في مراحل تاريخية مهمة من تاريخ المغرب.
وكانت مدن المغرب تُصدِّر المنسوجات والجلود ومحاصيل زراعية مختلفة، وتستورد من ممالك السودان الغربي، الذهب والملح، ولم يبق من ثقافة الذين قدموا من «العصر الوسيط» إلى القرن الخامس والسادس عشر سوى أهازيج وعبارات لم تعد مفهومة عند أحفادهم في مختلف المدن بالمغرب العربي التي نزلوا بها (تْوات ووادي السّاورة وورڤلة في الجزائر، كما في الصّويرة ومرّاكش في المغرب أو في واحات الجنوب التونسي. لعلّها من بقايا لغات قبائل الهاوسا والبامبارا، تحكي حجم البؤس الذي عاناه أسلافهم في رحلة «تصديرهم» من ممالك السودان الغربي إلى مدن المغرب العربي، فتشكَّل نمط موسيقي يعتمد على إيقاعات آلة معدنية تُسمّى في الجزائر «القَرْقَابُو»، وفي المغرب الأقصى «القْرَاقْب»، وهي آلة تُمْسَك باليد لتُحَاكي قبضات الأغلال وقعقعة السلاسل التي قيَّدت أيادي أجدادهم طيلة رحلة القافلة الشّاقة.
موسيقى الديوان التي فرضت نفسها على الساحة العالمية ليست ظاهرة موسيقية فحسب، وإنما اجتماعية أيضاً، تحمل نفس الحمولة التاريخية والسوسيولوجية في كل دول المغرب العربي، فأصبحت هي التعبير الثقافي الوحيد الذي يُمَيِّز هذه الفئة الاجتماعية في هذه المنطقة، فهي موسيقى لها خصوصياتها ووسائلها، ولعل من أهمها الآلات الموسيقية ومنها الة القمبري.
آلة «القمبري»
حينما نتحدّث عن موسيقى الديوان فلابد من التحدث عن خصوصيات هذا النوع من الموسيقى والآلات التي تستعمل فيها، ومن أهمها آلة القمبري وهي آلة وتَرية ذات ألحان مُمَيّزة، حيث تشكّل هذه الالة الجزء الأهمّ في موسيقى الديوان؛ فهي على خلاف كل الآلات الموسيقية تُعتبر آلة وترية وإيقاعية في الوقت نفسه؛ إذ تستخدم للعزف والقرع معًا بتناغم كبير استجابة للحاجة الطقوسية التي تُستخدم لها، فيمزج بين الإيقاع والوتر فهي آلة يرتبط عزفها بطقوس روحانية تستجيب للارتجال والانتقال إلى حالات ميتافيزيقية تعتمد على مهارة العازف، وفي كثير من الأحيان تستخدم للعلاج الروحي حسب بعض المعتقدات المتداولة.
تُصنع آلة القمبري من صندوق خشبي مجوّف مستطيل الشكل بأبعاد محسوبة، ويغطّى بجلد الجمل أو البقر، بينما تُصنع أوتارها (ثلاثة أوتار فقط) من أمعاء الماعز، فيصدر عنها إيقاع رنّان ومدّوي، ويتمّ العزف على وسطها بأصابع اليد من دون الحاجة إلى أيّة أداة أخرى، حيث يخصّص إصبع الإبهام للضرب على الوتر الأعلى في المجموعة، أما بقية الأصابع فتستخدم للعزف على الوترين الآخرين، أما اليد الأخرى فتكون على مقبض الآلة حيث يُمكن توزيع النغمات وتُقسّم أوتار القمبري بالترتيب من الأعلى إلى الأسفل تباعًا؛ يُسمّى الوتر الأعلى بـ «الذكر» والوتر الأوسط «الماية»، ويسمّى الوتر السفلي «الأنثى». يُضبط وتر «الذكر» دائمًا على النغمة الأعلى في السلّم الموسيقي؛ فإذا كان مثلًا الذكر مضبوطًا على نغمة صول الكبير، يكون وتر «الماية» مضبوطًا على نغمة صول المنخفض، أما وتر «الأنثى» فيضبط على نغمة دو. ويرتكز العزف على القمبري بالضرب على الوتر الأعلى (الذكر) بالإبهام، ويأتي الردّ مباشرة بعرك النغمة المنخفضة على وتري «الماية» و»الأنثى»، ويسمّى «الجواب».
وعلى خلاف الآلات الموسيقية الوترية، تُضبط آلة القمبري على صوت صاحبها، إذ يجب أن تتقارب نغمة صوت العازف مع عزفه. هنا، يقول المعلّم مجبر، صاحب أشهر الفرق الموسيقية في مدينة بشار (الجنوب الغربي الجزائري) لمجلة «العربي الجديد»، إنّ «آلة القمبري لا يجب أن يعلو صوتها على صوت عازفها، فهو أدرى بنبرته الصوتية وعليه أن يضبطه وفقها». يستحضر المعلم مجبر، ولقب «المعلم» يطلق على شيوخ موسيقا الديوان، صناعة آلة القمبري، حيث يعتبر أنها شهدت تطوّرات كثيرة، مؤكّدًا أن آلة القمبري في السابق كانت آلة ضخمة، ولا تتماشى مع عزفها وقوفًا على الخشبة، وإنما تستجيب لوضعية الجلوس على الأرض؛ إذ كان يعتبر المكان الذي تقام فيه ليلة القمبري مقدّسًا ولا يجوز الدخول إليه بالأحذية. وأضاف المعلم مجبر أنّ آلة القمبري اليوم، لم تعد تُصنع بالطريقة التي كانت تُصنع بها في السابق ، فقط أصبح حجمها أصغر ممّا كانت عليه استجابة للعزف على المسرح ، رغم أن كثيرًا من الروّاد في هذه الأغنية يرفضون أن تكون موسيقى الديوان موجّهة للفرجة باعتبار أنّها موسيقا طقوسية ولها شيء من القداسة. و يعترف مجبر أن الآلة تعرّضت للكثير من التغييرات، منها أن الأوتار أصبحت تُصنع من خيوط الصيد، وقدّمت هذه الفكرة لحنًا موسيقيًا رنّانًا ونتائج إيجابية موسيقيًا، أما مقبض الآلة فأصبح الفنانون يعمدون إلى إضافة
«الطومبور» إليه، أو ميكانيزمات ضبط الإيقاع على حدّ قوله، وهي طريقة سهّلت كثيرًا من التحكم بعزف آلة القمبري بشكل جيّد.
الطريقة الكلاسيكية للعزف
يضيف المتحدّث، إلى كل هذا، بعض التفاصيل الصغيرة التي عرفت تغييرًا هي الأخرى في آلة القمبري، منها الخشبة التي تحمل أوتاره الثلاثة. هنا يوضّح مجبر أن هذه القطعة مسؤولة عن الصوت القوّي والمدّوي لآلة القمبري، وكانت في السابق تصنع بحجم كبير، وتسمّى عند أهل الديوان بـ «الكرسي» أو «الحمّار»، أما اليوم بحسب مجبر، فقد تمّ الاستغناء عنها تقريبًا وأصبحت صغيرة جدًا وبالكاد تظهر على آلة القمبري.
الطريقة الكلاسيكية للعزف على آلة القمبري، كانت مرفوقة في السابق بوسائل تقليدية، أهمّها الطبل أو «البانغا» وآلة «القرقابو»، هذه الأخيرة تشبه الأصداف المعدنية وتُمسك بواسطة الأصابع، وتكون مرافقة لنغمات الطبل بالإضافة إلى جوقة التصفيق التي تتوافق أيضًا مع ضربات الطبل وتكون بشكل سريع ومسترسل ولها مسافات زمانية ثابتة تعلو وتنزل حسب «الريتم» الذي تفرضه الأغنية، حيث يبدأ بطيئًا وينتهي بإيقاع سريع، أما في حفلات الديوان اليوم، فقد تمّ إدراج عدّة آلات موسيقية حديثة منها البيانو والغيتار الإلكتروني والناي، وهو ما يصفه البعض بأن روح موسيقى الديوان بدأت بالتلاشي. كما أن هناك عناصر موسيقية أساسية تؤثث «الليلة الكناوية»، فإلى جانب القمبري، تدخل أيضًا القراقب، يضاف إليها أيضًا الطبول التي تُقرع بواسطة القضبان.
يصعب الفصل بين الجانب الموسيقي والطقوسي عند الحديث عن الديوان؛ فهناك مزيج مدروس بين الحركة واللفظ والصوت والرقص، يرافق هذا كله تنويعات نغمية خماسية المقام ، يسندها الإيقاع بين التقسيمات الثنائية والثلاثية.
من جهته، يفصّل رشيد عيقون، أحد أعضاء فرقة « أولاد بامبرا « في حديث إلى «العربي الجديد»، في الميزان الموسيقي لأغنية (القناوي - الديوان)، ويقسّم مقاماتها إلى ثلاثة، وهي «المربّع» و»المرساوي»
والـ «6 - 8 « أو كما يطلق عليه بالفرنسية «سيس ويت»، مؤكّدًا أن القمبري آلة روحية ولا تجد آلة تشبه الأخرى مهما تطابقت قياسات صناعته، على حدّ تعبيره.
أحسن تكريم لأسلافنا..تدوين الدّيوان
أما الأستاذ رحماني محمد أحد مؤسسي الثقافة الشفهية لأهل الديوان بالعين الصفراء ولاية النعامة، فيرى أن الديوان هو ثقافة شفهية تعد مزيجا أو اختلاطا حتى يكون هناك لم شمل وتلاحم بين الناس، وهذه الثقافة الشفهية هي النية النوبة والحرمة، فالثّقافة الشفهية لأهل الديوان هي منذ القديم كان فيه 7 قبائل ونحن منهم الذين يمارسون هذه الثقافة الشفهية او الفلكلور الشعبي الذي خرجت منه هذه الثقافة وهي عندها موزع الذي يعمل به كل شيء خاصة ثلاثة أشياء وهي النية، النوبة والهوصة، لماذا الهوصة؟ لأن الهوصة هي الحرمة والكلام الذي كانوا يتكلمون به هو «الهوصة» أو «بالبمبرا» أو «بالميلكا» أو «بالفوللان» او «بالصوقو» أو بـ «البوصو»...ونحن أهل الديوان اليوم بمدينة العين الصفراء نطالب بتدوين الثقافة الشفهية للديوان لماذا؟ لأنّنا نحن اليوم الجيل الخامس ومازال لحد اليوم لم ندوّن كلمات هذا الديوان نعرف كلماته ، نعرف فلكلوره، نعرف ثقافته، ولكن ليست مدونة، مضيفا لقد حاولت تدوينه حيث دونت ما يقارب 100 برج بثلاث لغات العربية والفرنسية وباللهجة البمبراوية أو الهوصية، والثقافة الشفهية هذه ليست سهلة لان فيها طقوس وهي تستعمل او تعمل طوال السنة او في ليالي الديوان كل خميس، وهذه الطقوس تلعب مثل الفلكلور ولكن فيها الوان، ونحن يوجد لدينا سبعة الوان نعمل بها وهذه الالوان هي التي تعطينا الرقصات التي ندخل بها، ولذا وجب التدوين لان فيه جيل جديد يحب السرعة او جيل السرعة والخفة ولكن التدوين او المحافظة او حفظ الديوان - ذاكرة الديوان - وجب تدوينه، ووجب ان ينتهج على أسس أهل الديوان مثلما يقول شيوخه الذين اكدوا انهم ينتمون الى اهل النية وأهل النوبة وأهل الحرمة.
وأضاف رحماني لحوار خص به «الشعب ويكاند»: «أقول لجيل اليوم أن هناك ثقافة شعبية التي استخلصت منها الثقافة الشفهية، والتي كانت فيما مضى ثقافة شفهية وشفاهية لان الديوان كان يعالج عدة أمور..ولكن اليوم هناك تفرقة بين البعض، وفيه موسيقى جديدة جلبها الشباب، ولذا وجب علينا اليوم ان نحافظ على هذه الثقافة الشفهية لأنه ما دام أسلافنا وأجدادنا على قيد الحياة وجب تكريمهم، وأحسن تكريم هو تدوين الديوان وحتى يتعرف الجميع على ان طقوس الرقص موجودة ضمن طقوس أهل الديوان، فحينما ترى شخصا يلعب «البولالات» فذلك له دلالة خاصة،
فـ «البولالات» عندما يضرب نفسه لماذا؟ لأنّهم يعتقدون بان معاناتهم كان يتم تفريغها بهذه الطقوس او الرقصات والمتمثلة في البولالات، ولكن رغم أنّها تابعة لهذه الطقوس إلا أنه ليس لها اي معنى فهذه مجرد طقوس عادية، نحن نقوم بـ «كوريغرافيا» لأهل الديوان، فهي مجرّد خيال أو لوحات هي التي كانت تدفع بهم الى استعمال هذه الطقوس ولشرحها يتطلّب وقتا كبيرا حتى يتم تعريفها للعامة، وماذا تعبر وهذه الطقوس لا تترك أي أثر، فهذا الراقص يقوم بحركات لن يتأذى، ضف الى ذلك هذه اللوحات مثلا آلة القمبري لماذا لأن القمبري طبيعي مصنوع من اللوح، الجلد والوترة المصنوعة من الأمعاء، وهي كذلك لها دلالات ومعنى كبير، فآلة القمبري تستعمل بمفاتيح خاصة وهذه المفاتيح هي التي تتحدث مع ذلك الإنسان الذي يبقى في مكانه ويتحرك بدون شعور، فذلك الراقص يتساءل والقمبري يعطيه الإجابة، مؤكدا انه وكمحب لأهل الديوان يطلب الاحترام ثم الاحترام حتى نعطي لهذه الصورة الخاصة والصورة الجميلة لهذا الطرح.
ونحن اليوم ومن هذا المنبر لا نترك أيا كان يتكلم عن الديوان، فالبعض يحاول البحث عن الديوان وإنشاء مؤسسة خاصة به، وختم رحماني محمد كلمته بنداء بضرورة تنظيم ندوات كبيرة عن الديوان وأهل الديوان لان هناك بعض الأسئلة ومواضيع أو عناوين أكاديمية التي نحن نعمل بها، نحن هم الذين يبحثون في هذا التراث..ولكن اليوم هناك علامة استفهام، فنحن اليوم وبعد كل الظروف القاسية التي مر بها أسلافنا وأجدادنا نطالب بحماية تراث الديوان، فلولا هذا التراث لما كانت هذه المحلات او الفرق الخاصة بالديوان على المستوى الوطني. نطالب بحماية التراث والديوان التقليدي، لأنه لو يتم تدوينه لأصبح حكاية، فهناك 12 جولة او طبعة لمهرجان الديوان وطنيا و10 دوليا، هل يعقل ان كل هذه المناسبات او التظاهرات ولا نجد كتيبا صغيرا جدا عن الديوان حتى يطلع عليه الجميع.
لموسيقى الديوان عدّة عناصر أساسية
«الديوان»..موسيقى شعبية انتشرت بشمال إفريقيا يطلق على أغانيها بتسمية «الأبراج»، وهي قصائد متداولة شفهيًا بين الفرق الموسيقية. كما ان في موسيقى الديوان، لا تسمّى المقطوعات الموسيقية بالأغاني، حيث تسمى في المغرب بـ «الطرح»، وتعتبر كلمات هذه الأغاني مزيجًا من اللغات الإفريقية، منها البامبرا والهاوصة المتداولة في شمال مالي، وتحمل كلماتها دلالات طقوسية وحركات كوريغرافية لا يكتمل العزف إلا بها، تشمل صيد الحيوانات وأكل لحومها وإحداث جروح في الجسد وارتداء ألوان معيّنة، ففي السابق كانت هذه الطقوس تمارس فعليًا، أما اليوم فأصبحت تُمسرح فقط عن طريق تجسيد الشخصيات التي وردت في كلمات «الأبراج»، حسب بحث الأستاذ نصر الدين حديد كما يطلق لقب «المعلم» على شيوخ موسيقى الديوان.
ولموسيقى الديوان عدّة عناصر أساسية والمتمثلة في الالات. فإلى جانب الة القمبري نجد أيضًا القراقب او القرقابو، وهو صنوج حديدية توضع في الأصابع وتُدقّ ببعضها بعضًا. يضاف إليها أيضًا الطبول التي تُقرع بواسطة القضبان، يصعب الفصل بين الجانب الموسيقي والطقوسي عند الحديث عن الديوان؛ فهناك مزيج مدروس بين الحركة واللفظ والصوت والرقص.
ويرافق هذا كله تنويعات نغمية خماسية المقام، يسندها الإيقاع بين التقسيمات الثنائية والثلاثية، كما ان ليلة الديوان او الغيوان او قناوة تختلف من دولة لأخرى، حيث تنطلق بمقدمة طويلة تُسمّى «العادة» أو «الدخلة»، وهي مسيرة موسيقية تجوب شوارع المدينة قبل أن تدخل المنزل الذي ستقام فيه الليلة، وتتميز بطابعها الإيقاعي ثم هناك الفترة الثانية المسماة «اولاد بامبارا»، وهي سلسلة أغاني خفيفة يطبعها اللهو ويتخللها استذكار الأسلاف وحصص راقصة فردية وجماعيةثم تليها فترة «الملوك»، وهي الافتتاح الجدي لفضاء «الليلة»، ما يعني أن «الليلة الغناوية» دخلت في مرحلة الطقوسية والموسيقى العلاجية. تتطلب هذه المرحلة توفير معدات ومستلزمات مثل المناديل الملونة والأبخرة، أي البخور وخصوصًا «الجاوي»، وهو أهم أنواع البخور في الليلة او السهرة، له ثلاثة ألوان: الأبيض، الأسود والأحمر وتدوم هذه الليلة او السهرة الى ساعات متأخرة من الليل.
ولتسليط الضوء أكثر عن هذا الفن، تقربنا من بعض شيوخ الديوان من مدينة وهران خلال مشاركتهم بليالي الديوان بالعين الصفراء للحديث عن عن واقع موسيقى الديوان، آفاقها ومستقبلها.
أمل في توثيق الدّيوان
أكّد المعلم قويدر من ولاية وهران أنّ موسيقى الديوان معروف منذ القدم وهو تراث من تراث الجزائر بل موروث قديم تم اكتسابه من الأجداد، وقد تم الاحتفال به دوليا، حيث تم تنظيم اول مهرجان سنة 1979 والأخير سنة 2009 بالجزائر، وقد شاركنا فيه نحن كجمعيات القناوة وهو منتشر عبر الوطن..ولكن لم يحظ بالاهتمام الكافي ونحن نطمح ان يكون منشورا ويهتم به، يحتوي على كلام ديني صوفي، كلامه نظيف وهو منتشر داخل الوطن وخارجه وهو ديوان روحاني، البعض يرجع اصله لغانا والبعض لمالي وكل شخص يرجعه لدولة ما هل هذه الدول الإفريقية لديها قرقابو….؟ فالقرقابو أو القراقيب أصلها من الجزائر ولا توجد بهذه الدول الإفريقية فهم عندهم البنقا والكريكتو طقوس أفريقية..ونحن نغني الهوصة والبوصو.
تهميش أهل الديوان أدّى إلى تراجعه
فيما يرى المعلم حجري من وهران أنّ سبب تدهور الديوان راجع إلى أن أي شخص يتكلم عن الديوان، وأصبح يتم استدعاء أشخاص لا علاقة لهم بالديوان، ولا يعرفون خصوصياته للمشاركة في المهرجانات ويهمش أهل الديوان، فكل حرفة وأهلها فالديوان لم يبق مثلما كان بل أصبح يتراجع ويتدهور، وإن لم نحافظ عليه فسيندثر ويتلاشى لأن الديوان له خصوصيات فهو ليس آلة القمبري فقط هو الطبل، قرقابو….إلخ، بالأمس كان قنقا عندما يضرب على الطبل له نفس ريتم القمبري حتى انك لا تستطيع التفرقة بين هاتين الآلتين، مشيرا إلى أنه لا يتم استدعاء أهل الاختصاص بل أشخاص لا علاقة لهم بالديوان، وحينما تريد تقييم الديوان يجب أن يشرف عليه أهل الاختصاص، فحينما يكون هذا المشرف لا يعرف أصول الديوان وخصوصياته، كيف يمكن له ان يقيمني وهو لا يعرف ما أقول، فعندما اغني مبيريكا هل يعرف معناها؟ فهو لا يعرف هل انا امدحه او اشتمه، لذلك وجب إحضار اهل الاختصاص وشيوخ الديوان، فعندما أقول جومبيطو يعرف ما معناها.
ديوان الأمس كان طبيعيا واليوم أصبح آلاتيا
أما المقدم حسين من ارزيو وهو من اكبر شيوخ الديوان، فيرى أن هذا الفن أصبح في تراجع كبير، فالديوان كان له طابع خاص ولكن اليوم نحن نوجه هذا الجيل ان هو تتبع اثر الأسلاف، الديوان كان خاصا بالنية والإخلاص وكان طبيعيا ولكن اليوم بالعكس أصبح آلاتيا، فشيوخ الديوان الأصليين ابتعدوا عنه لأنهم همشوا، كان يتجه له الشباب والمهتمون بحماسة ولكن اليوم أصبح يتراجع لا من ناحية الكلام او الجديب او البراكة يجب على شباب اليوم انتهاج سيرة الشيوخ والاستماع لهم.
وما يمكن قوله في الأخير، أن موسيقى الديوان موسيقى إفريقية انتشرت بالجزائر وفرضت نفسها، وجدت من يحتضنها لأنها جزء من الثقافة الجزائرية لها أهلها وآلاتها وطقوسها، ولكن وجب تدوينها مثلما ذهب اليه الاستاذ رحماني، ووجب البحث والتنقيب في خصوصياتها وتاريخها، وشرح بعض طقوسها للجيل الجديد لأنها تراث شفهي يضاف إلى كنوز الجزائر.