عندما نقول قصبة الجزائر العاصمة يتبادر إلى ذهن كل من زار المكان تلك المنطقة التي تبدو من بعيد هرمية الشكل، تبدأ قاعدتها من «ساحة الشهداء» وتنتهي قمتها عند «دار السلطان»، وعندما نقترب أكثر من» الحومات» التي تتخللها» السلالم»، تلك السلالم العريضة وغير المرتفعة و»الدويرات»، تستوقفنا ينابيع ماء مجسدة على شكل صنابير تحمل أسماء لها دلالات معينة وذات رمزية حضارية تجبرك على الاستمرار في السير عبر أزقتها المميزة والمتشعبة الأطراف، مستذكرا في هذا المكان الخالد بطولات أسلافنا الشهداء والمجاهدين في تحديهم ومجابهتهم وانتصارهم الساحق على المستعمر الفرنسي الغاشم.
نحن على مقربة من الاحتفاء بيوم القصبة الذي يصاد ف 23 فيفري من كل عام، قامت «الشعب ويكاند» بجولة استكشافية في قصبة الجزائر العاصمة، التي كان لابد فيها من أخذ المعلومات والمصادر التاريخية التي تمثل رمزية المكان، الذي وجدناه من خلال رصد المعطيات أن بعض مناطق من ولايات الوطن تحمل نفس التسمية.
أصل تسمية القصبة
قالت مديرة مركز الفنون والثقافة بقصر رياس البحر «الحصن 23» بالعاصمة، فايزة رياش: « كلمة القصبة كلمة أطلقها الفرنسيون وكان إسمها قلعة الجزائر حسب الأستاذ محمد الطيب عرقاب الذي درس القصبات ودرس معالم القصبة يقول إن القصبة تسمية حديثة جدا وهي تسمية أطلقها الفرنسيون، فلم يكن اسمها القصبة كان اسمها الجزائر أو الجزائر المحروسة أو الجزائر بني مزغنة..والقصبة أطلق على هذه المدن الحضارية لأنه هناك من يقول إ نكلمة القصبة تعني القلعة، أو دار السلطان وهو المكان الذي كان يزاوله الحاكم العام للمدينة، ، واستمرت تسمية المكان بدار السلطان عبر مرور الزمن واشتهرت كتسمية تدل على رمزية المكان.
أضافت المتحدثة في هذا السياق : « من يلاحظ القصور المتواجدة بالجنوب الجزائري يرى بأنها تشبه القصبة، بحيث نرى القصر الذي يبدو كمجمع سكني، محصن أي محاط بسور، يضم عائلات، والقصر هو مجموعة من عدة مباني التي تكوِّن المجتمع، وعلى سبيل المثال أذكر قصر بوسمغون، قصر بريزينة، الموجود بولاية البيض والقصر القديم بالمنيعة إلى جانب «الدشرات»، التي تحمل هي الأخرى دلالات للتجمعات السكانية ومن بينها نذكر «الدشرة الحمراء»، التي هي أصلا عبارة عن قصور ومن بين تلك القصور قصر بن ترغست التي كان يسكنها العديد من البطون والقبائل.
قصبات الجزائر..مدن حضارية وموروث تاريخي
قالت فايزة رياش :»جميل جدا أن نحتفي بالقصبة، ونخصص لها يوما، بحيث يكون يوما رمزيا لهذه المعالم والمواقع الأثرية والتاريخية عرفانا لما قدمته كموروث حضاري وتاريخي فلقد كان لها دور كبير خلال الثورة التحريرية المجيدة سواء قصبة الجزائر أو قصبة وهران أو قصبة درب التبانة في مستغانم أوقصبة دلس، قصبة ميلة وقصبة قسنيطينة وقصبة عنابة ».
أضافت المتحدثة: « في الجزائر لا توجد قصبة الجزائر العاصمة فقط.. وإنما هناك قصبات عديدة، فهناك ما هو أقدم من قصبة الجزائر المتمثلة في « قصبة ميلة » وتعتبر من أقدم القصبات في الجزائر التي تحتوي على ثاني أقدم مسجد في شمال أفريقيا وهو مسجد الصحابي أبو المهاجر دينار المعروف بمسجد سيدي غانم، وهناك «قصبة دلس»، «قصبة درب التبانة» في مستغانم» هناك «قصبة وهران» التي تعاني الكثير والكثير، وقالت أيضا : « توجد الكثير من القصبات التي هي في الأصل مدن حضارية توجد في مناطق حضرية.. بالمقابل، هناك مناطق ريفية التي تسمى « الڤصور » وهي تقريبا في نفس الهندسة المعمارية، إذ نجد الصْحَن في الدويرات، الخيامة، ونجد الجْبَنْ، الكنيف، نجد الأمور التي تشيه القصبات وتشبه الهندسة المعمارية في المناطق الحضارية ولكن بعض مواد البناء تختلف.
يوم القصبة ليس يوما وطنيا ولا عالميا
قالت فايزة رياش :» يوم القصبة ليس يوما وطنيا ولا يوما عالميا، إنما هو يوم لاستحضار عبق القصبة بكل مقوماتها، ونتمنى لكل قصبة من الجزائر أن يكون لها يوم خاص بها «، وأضافت : «هنا في العاصمة أنصح الجميع أن يزور هذه المواقع الأثرية ناهيك عن المساجد فهناك مساجد قديمة ومباني أثرية ومواقع تاريخية هناك ما يعود إلى فترة ما قبل التاريخ وهناك آثار رومانية وآثار نوميدية وآثار فينيقية، أما بالنسبة للقصور نجد ما يدل على امتداد الحضارة الإسلامية في كثير ولايات الوطن، ففي بجاية معالم إسلامية رائعة جدا، وتلمسان أيضا لها بعض المعالم لا توجد في أي بلد في العالم، ناهيك عن هندسة قلعة المشور التاريخية إلى جانب المساجد التي تعتبر تحفة فنية منقطعة النظير بالإضافة إلى منطقة المنصورة الشهيرة.
معالم مرافقة للقصبة تستحق الزيارة
أشارت فايزة رياش إلى أن المرافق التي لها جانب مهم من المصادر الأثرية والتاريخية لا تقل قيمة من القصبة حيث قالت بهذا الخصوص: « في الجزائر العاصمة لا توجد فقط قصبة الجزائر، لدينا مغارة «سيرفانتس» بقلب العاصمة التي تعتبر قيمة تاريخية وأثرية ورمزية، ويوجد حصن موجود بجانب جامع الجزائر، بالمحمدية والذي تم الحفاظ عليه أثناء عملية البناء، بفضل الديوان الوطني للتسيير وللاستغلال الوطني للمفكرة الثقافية آنذاك وهناك أيضا أقدم جسر المتواجد بمنطقة الحراش، هناك أيضا « تامنفوست » أو« لابيروز »، وهناك مواقع كثيرة في الجزائر، فحتى في قصبة مدينة الجزائر عندما نبدأ الزيارة من « الحصن 23 »، فإننا نستهل بالترويج لزيارة المساجد بدون أن ننسى أقدم مسجدين في الجزائر، هما « الجامع الكبير» الذي يعود بناءه إلى الفترة المرابطية، و« مسجد سيدي رمضان.
وعليه تضيف المتحدثة : « في يوم القصبة هناك الكثير من المعالم تستحق الزيارة، إضافة إلى وجود سبعة متاحف في الجزائر العاصمة عدا المتحف البحري. متحف الباردو، متحف الفنون الجميلة بالحامة، متحف الآثار القديمة بالقرب من حديقة الحرية، ففي القصبة نجد متحف «خداوج العمية»، متحف الفنون والتقاليد الشعبية، بالإضافة إلى متحف المنمنمات والزخرفة وفن الخط، متحف الحديث والمعاصر المتواجد بشارع العربي بن مهيدي بالقرب من ساحة الأمير عبد القادر بالعاصمة.
قصة بولوغين ابن زيري وقصبة بني مزغنة
قالت المرشدة السياحية راضية طويل :إن قصبة مدينة الجزائر شيّدت منذ أكثر من 2000 سنة على الأطلال الرومانية «أيكزيوم» من طرف الأمير بولوغين بن زيري بن مناد الصنهاجي، وتقول الدراسات التاريخية بأن زيري بن مناد الصنهاجي، طلب من إبنه بولوغين أن ينتقل من قصبة المدية إلى الجزائر ليعيد بناء القصبة على الآثار الرومانية لإيكوزيوم ، كان ذلك في سنة 950 ميلادية أي في نصف القرن العاشر، وبعدما تم بناؤها أسماها « الجزائر بني مزغنة »، أما الوجود العثماني فقد تم على يده معالم إضافية ابتداء من دار السلطان تمثلت في خمسة أبواب وقصور بعضها مازال يقاوم الزمن، ومنها ماتم هدمه أثناء الاحتلال الفرنسي.
أسماء القصور..وخريطة تفصيلية عن أبواب القصبة
أضافت المتحدثة راضية طويل في هذا الصدد: «للقصبة خمسة أبواب أما أسماؤها فهي كالتالي: باب الواد، باب البحر، باب جديد، وباب الدزيرة، وباب عزون »، أضافت قائلة: »كان يسمى مكان تمثال بولوغين بن زيري المتواجد حاليا بباب جديد « بساحة الحرية » وهذا أثناء الاحتلال الفرنسي.
وعليه فإن حدود « باب جديد « كانت على مستواه، ومازالت المنطقة تعرف بتلك التسمية، أما «باب الواد» فرافده الذي يبدأ بالضبط من مقر الدرك الوطني لباب جديد حاليا ويتنهي إلى غاية الموقع الحالي للمديرية العامة للأمن الوطني ومن يقف عند نهاية حديقة «مارينقو»سيلاحظ سلالم تنتهي إلى ثانوية الأمير عبد القادر المطلة على المديرية العامة للأمن الوطني فتلك السلالم تمثل «باب الواد»، والرافد الآخر، الذي يمثل في نهايته «باب الدزيرة» بحيث تحد اتجاهه من أعالي المديرية العامة للأمن الوطني وصولا إلى «قاع الصور»، أما «باب البحر» فهو يمثل الرافد الذي يمتد من باب جديد إلى القصبة السفلى، أما «باب عزون» فهو يمتد من باب جديد إلى غاية المسرح الوطني الجزائري محي الدين بشطارزي.
وعن القصور التي اشتهرت بها القصبة قالت المتحدثة في ذات السياق: «للقصبة قصور جميلة جدا منها ما يزال بهندسته المعمارية المتميزة، منها ما اندثر بسبب أثار الاحتلال الفرنسي، وعليه فنجد دار مصطفى باشا، دار خداوج العمية، دار حسان باشا، دار عزيزة، دار القاضي.
«الصناعة التقلدية».. بين سندان المقاومة ومطرقة الإهمال
يقول الحرفي ابن القصبة بن ميرة الهاشمي بن بختة : «أمارس هذه الحرفة منذ 58 عاما، أين أشرفت على تكوين 27 شابا، جميعهم الآن يزاولون نفس «الصنعة» ألا وهي حرفة النحاس، وشاركت في معارض وطنية، وكنت أصر في كل مشاركة أن أحيي هذا الجانب الحيوي الذي يعتبر إرثا حضاريا قبل أن يكون مصدرا للعيش، لكن بتعاقب الزمن للأسف بات الاهتمام بـ «صنعة «الأجداد يبكي نفسه على نفسه، ناهيك عن انشغالاتنا التي مازلنا نناشد بها السلطات المعنية لتوفير المادة الأولية نحن كحرفيين في هذا المجال الذي لم يبق فيه إلا المتحدث وحرفي آخر يسكن بالمنطقة، التي قلما يزورنا السياح من داخل الوطن في حين نجد اهتمام السياح الأجانب بتعبنا الذي لا يقدر بثمن.
يقول النجار ابن القصبة هيروجة عاشور: «لقد تعلمت حرفة النجارة وصنع الأثاث على يد الأب والجد وبعد فترة حوالي خمسة وعشرون عاما بعد الاستقلال أشرفت على تكوين أكثر من سبعة شبان جزائريين ثم سافرت إلى مصر ونقلت هذه الحرفة إلى كل من تعلم على يدي، وعدت بعدها لأزاول نفس الحرفة وبنفس الشغف، وأنا مستعد رغم كبر سني أن أكون معلما لكل من يرغب في إتقان هذه الحرفة».
وعن العائلات التي مازالت على نهج أسلافها في امتهان «صنعة اليدين» نجد عائلة قارابانو الشهيرة بالنقش على الأبواب وتزيينها، التي مازالت تملك محلا يتوسط أزقة القصبة المنتهية بـ «عين سيدي محمد الشريف» إلى جانب عائلات لها تاريخ في الصناعة التقليدية والحرف اليدوية، وقفنا على محلاتها التي كانت مغلقة أثناء زيارتنا للمنطقة .
«معركة الجزائر».. نبض الذاكرة..وكل « زنقة» تتحدى الزمن
أكدت المصادر التاريخية أنه لم تكن «معركة الجزائر» هي الوحيدة التي احتضنها حي القصبة، بالرغم من أنها طغت على كل القصص الكفاحية الأخرى، التي جرت أطوارها في هذا المكان.
عند شارع «ديزابرام»، هناك منزل مميز عن باقي المنازل، علقت فوق بابه جدارية رخامية مكتوب عليها «في هذا المكان وبتاريخ 8-10-1957 سقط في ميدان الشرف الشهداء الأبطال»، ليس بعيد عن المكان استقبلنا جمال أحد شباب القصبة الذي يملك محلا متواضعا خصصه لجمع الصور التذكارية للشهداء والفنانين وبعض الرموز السياسية بدون أن ينسى نبض العروبة فلسطين التي كانت حاضرة في ذلك المكان المميز.
«عيون القصبة..»مياه شاهدة على التاريخ
وصل عدد عيون القصبة إلى 200 عين وهناك مصادر تقول بأنها كانت أكثر من ذلك بكثير، والتي لم يبقَ منها اليوم سوى 6 عيون، هي: عين مزوقة، وعين بئر جباح، وعين سيدي رمضان، وعين سيدي محمد الشريف، وعين بئر شبانة، وعين سيدي بن علي، وعلى ذكر عين بئر جباح نستذكر «حومة الفن والجهاد»، حيث قال فيها الفنان الراحل الحاج محمد العنقى في قصيدة سبحان الله يالطيف مستشهدا ببطولات أبناءها حيث قال:
زغلول لطيف يا عريف ^ نحكي لك وافهم ^ في سن الورد والزهر باهي الأوصاف
مغرور بريشه الظريف ^ ماجي متخاصم ^ سل سيفه قال لي عندي خلاف
أوقف إذا أنت شريف ^ من أهل الخاتم ^ وري لي وين وصلاتك قوة الأكتاف
جاوبت أنا وقلت كيف ^ ماجي تتكلم ^ بكلام الغيظ واش هذا الغضبة وزعاف
ما هيشي جابها النيف ^ كي جيت محزم ^ هذي غيرة مرزمة وحسودي بزاف
إلى أن وصل إلى بيت مازال يحفظه أهالي عين بئر جباح الذي يقول: «ولد باب تحديد بالوكيد بير جباح نحلف»
فنانو القصبة
من بين الفنانين الذين تركوا بصمات مميزة نذكر منهم الحاج محمد العنقى الذي مازلت آثار منزله موجودة لحد الآن، والفنان رويشد ابن بئر جباح، والممثل محمد زينات المشهور بكلمة «يابهجتي» والفنانة مريم فكاي وأيقونة الفن الشعبي عمر الزاهي.
يوم القصبة بكل ما يحمله من تاريخ كبير وموروث قيم وعتيق وعميق، وخفايا تعج برائحة الشخصيات التاريخية التي غادرت بجسدها وبقيت بصماتها المادية واللامادية، يبقى يستصرخ فينا الوفاء بزيارة متواضعة، نستكشف من خلالها العديد من الأشياء، وبالتفاتة طيبة من المعنيين بالأمر التي ينتظرها بفارغ الصبر من مازالوا صامدين أمام الموروث الغالي الذي لا ولم ولن يضيع من بين أيدي أهلها الذين يفتخرون بأنهم أبناء القصبة إلى الأبد.