تعد رواية «البكاءة» رابع إصدار للكاتب جيلالي عمراني بعد الروايات الثلاث (المشاهد العارية، عيون الليل وأحلام الخريف)، الصادرة نهاية السنة الماضية بجمهورية مصر العربية، و الحائزة على المركز الأول في مسابقة صالون نجيب الثقافي عن دار شهرزاد للنشر والتوزيع.
العنوان: «البكاءة» هذا العنوان الذي يحيلك مباشرة إلى أجواء الرواية الحزينة..تؤكّده فيما بعد العناوين الفرعية الواردة فيها: متاهة..الكتاب الأسود..ربع ساعة الأخير. الطوفان....وأخيرا - الشبح - الذي شكلته الحيرة على مصير النص عموما.
الإهداء: كان إلى الرجل الشّهيد الذي أنقذ قوت الجزائريين من الاحتراق حين مدّ يده إلى جرس الإنذار..فكان جديرا بأن تهدى له عصارة احتراق الكاتب..بل يستحق أن يهدى له أكثر من كتاب، ثم إلى - سامية - التي أيقظت العديد من الأسئلة الساكنة في الكاتب لتكون مفتاح النص الأول..وتكون ترتيبا لفاصلة حاضرة من أجل تحديد إحداثيات الرواية التي بين أيدينا، وتساهم في رسمها بمعية الأبطال الآخرين، محفزة الكاتب على الكتابة بعدما تسلّل إليه الشك.
يحط بنا الكاتب بداية في المكان الذي أخذا حيّزا هاما في الرواية ألا وهو مدينة (البويرة)، هذه المدينة التي منحته لذّة القبض على النص وهو يتحدّث بلسان (هشام عبدي) ساردا يومياته مع مرضاه، والخطر الذي صار يهدده من أحد المرضى النفسانيين الذين يتردّدون على عيادته، في مطاردة تراجيدية تعكس الوضع النفسي الصعب للمجتمع خلال فترة زمنية سيطر فيها الرعب على يوميات الناس.
- (سفيان عبد الجليل) يكتب لطبيبه هشام..ليبوح الكاتب من خلاله أن الكتابة فعل ضروري للحياة بقوله..(الكتابة في النهاية وسيلة للشّفاء)،متحديا اليأس الذي لازمه في البداية.
- رصد يوميات الناس من خلال العيادة التي تطل على وسط المدينة، وما خلّفته سنوات الجمر على نفسياتهم ومستواهم المعيشي بدقة، خاصة وأن الراصد طبيب نفساني يستقرئ المشهد من الأعلى.
- بعدها يقرّر الكاتب ليكون مرمّما للصّدع الذي حلّ بنفسيات الناس المنهارة من خلال رصد آلامهم وجنونهم باستعمال ضمائر مختلفة على رأسهم (باي البكاءة) راس الكيلو..
والقاتل المحتمل لطبيبه (الرينقو) السجان سابقا..كل ذلك يجمع في الكتاب الأسود الذي يؤرّخ لفترة بل لفترات مؤلمة..وفي تواضع له يقول..(حتى الآن لم أقل إنّي كنت كاتبا) ملمّحا أنه يكتب هذه المرة بوعي أكثر فالكتابة عنده أصبحت (فعل مسؤولية صادر عن سابق تصميم وتصور) كما قيل..وهذا بعد تراكم التجربة الإبداعية لديه.
- تقاسم السرد بطلان رئيسيان (سفيان عبد الجليل وهشام عبدي) إذ جاء أغلبه على لسانيهما الطبيب النفسي من جهة والكاتب المريض من جهة أخرى، فشكّلا معا ثنائية رائعة للسرد بالتناوب...
- هشام عبدي الطبيب يقرأ نفسه من خلال سفيان الكاتب الذي مسّه الإحباط واليأس ثم الإصرار على الكتابة لأنها وحدها العلاج.
- النقد الذاتي للرواية الأولى في مساره الإبداعي ربما (المشاهد العارية) التي أبدى الكاتب عدم رضاه عنها..وهذه ميزة الكاتب الجاد الذي يصبو إلى النص الحلم والذي لا يدرك..رغم أنّنا نعتقد بأن هذه الرواية شكلت لبنة مهمة في المسار الإبداعي للكاتب.
- سرد يوميات كاتب وصراعه مع أبطاله وملازمتهم له في كل مكان لتتحول من كائنات ورقية إلى كائنات حيّة، مذكّرا إيّانا بالكاتب الكبير الذي كان يبكي حين يفقد أحد أبطال نصه.
- بعد ثورة الشك حول مصير المخطوط الأول (حرائر)، والحيرة التي سببها هذا الضياع للكاتب جاء لحظة الاعتراف من راس الكيلو بسرقته أوراق الكاتب، بل بسرقة حلمه، بل بمصادرة بعض من التاريخ..من خلال تحريف العنوان من (حرائر) إلى (جزائر)...(سرقت حياتين حياتك وحياة الرواية)، هكذا قال في جملة مؤلمة يشعر بها القارئ وقد شارك الكاتب في حيرته على نصه.
- ثم جاء لاستعراض بداية حرائر أو ما كان يجب أن يكون في بداية الرواية كتصحيح بعد التحريف الذي حدث لرواية تؤرخ لمدينة (ب) ولبلدة (أفتيس) بل للوطن.
- اعتمد الكاتب الانتقال من الكل الى الجزء مقدما الملخص ثم الشروع في التفاصيل.
باختصار أقول..الرّواية توقّفت عند مواقف انسانية واجتماعية وسياسية تدفّقت فيها اللغة في سرد سرمدي جميل..كما حملت العديد من الأسئلة التي استفزّت الكاتب فيما تعلق بمحيطه أو بالمحيط العام لتكون سببا مباشرا في نسج هذا النص. كل ذلك قدّم لنا في مشاهد أبدع الكاتب في تصويرها، فكان أينما حل إلا وفكّك المشهد الى تفاصيل تجعلك تقرأ وترى في نفس الآن..ثم تسأل عن مصير الأبطال في نهاية مفتوحة على كل الاحتمالات لتركب أنت الآخر مجموعة من الأسئلة.