قراءة في مسرحية عمواس للقاص محمد الكامل بن زيد

«الغراب الذي سرق ظل الشار ع..»

بقلم الأستاذ: نورالدين بن بوبكر

عمواس (الغراب الذي سرق ظل الشارع) نص مسرحي ذهني للأديب محمد الكامل بن زيد أبطاله شخصان : « ذات 1 « التي تركّز نظرها على الشارع وتردد دائما «أنّي أرى ما لا ترى « و» ذات 2 « الذي يجلس على الأريكة ويكتفي باسْتقاء الأخبار من الكتاب الذي يتصفّحه أو من التّلفاز أو ممّا تنقله له «ذات 1 « ولم يكلّف نفسه عناء الوقوف والنّظر عبر النافذة والتثبّت في المعلومات التي تنقلها له رفيقته في نفس الشقّة. أولى عتبات النّص عنوانه الذي ينقسم إلى ثلاثة أجزاء : الجزء الأوّل « عمواس « الذي يحيل إلى طاعون عمواس الذي وقع في مدينةٍ بالشّام أيّام خلافة عمر بن الخطّاب، بعد فتح بيت المقدس (وسمّيت تلك السنة بـــ عام الرمادة ، لما حدث بها من مجاعة ويقال إنّ الطاعون قد أدّى إلى وفاة الآلاف من المسلمين في شهر واحد).
ويسمّى الطاعون أيضا بـــــــ عَمَواس ، لأنّه عمّ وآسى أي جعل بعض النّاس أسوة ببعض. أمّا الجزء الثاني من العنوان فهو «الغراب الذي سرق ظلّ الشارع» الذي ورد اِسما مركّبا نواته «الغراب» ، ذلك الطائر العدواني المشاكس الكالش .
لونه القاتم صوته المقرف يجعلان منه نذير شؤمٍ أينما حلّ يجلّ معه الحزن ، حتّى أنّ العرب يتشاءمون من رؤيته ويطلقون على من يأتي بالأخبار السّيئة اِسم «غراب البين» وأمّا الجزء الثالث من العنوان فهو رؤيا (والرؤيا ليست الرؤية التي هي مصدر من رأى وتعني أيضا «حالة أو درجة كون الشيء مرئيّا) .
الرؤيا هي ما يرى في المنام وفي هذا النصّ اِستدعى الكاتب نصوصا غائبة من الأدب والتاريخ والثقافة والأسطورة ، تكاملت وكانت وظيفيّة و جعلت للنص نصّا آخر يستحق الوقوف عليه . فنجد في المسرحيّة استدعاءً للميثولوجيا الإغريقية من خلال «سيزيف» أكثر الشخصيات خداعا ومكرا عند الإغريق لأنّه سرق إله الموت ثاناتوس وعاقبه زيوس بحمل الحجر الذي يسقط كلّما وصل إلى أعلى القمّة، ليصبح بذلك رمز العذاب الأبدي. سيزيف والغراب، كلاهما ماكران رغم أنّ الأوّل قد سرق إله الموت والثاني قد بشّر بالموت، وحيثما حلّ يحلّ معه الحزن.
كما نجد الإله الإغريقي أبولو ، إله الشّمس، إله الموسيقى، إله الرماية (وليس إله الحرب)، إله الشعر، إله الرسم، إله النبوءة، إله الوباء والشفاء، إله العناية بالحيوان، إله التألق، إله الحراثة.... وتقول الأسطورة كما ورد في إلياذة هوميروس، أنّ أبولو ضرب أسهم الطاعون إلى المعسكر اليوناني، وأنّه أيضا كان إله الشّفاء الدّيني. وهنا تظهر علاقة أبولو بالطاعون وأنّ اسمه لم يرد في المسرحيّة مجانا. وأمّا من الثقافة العربية الاسلاميّة فترد عبارة «شعرة معاوية» تلك الشعرة التي قال عنها معاوية « لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قيل: وكيف؟ قال: لأنهم إن مدوها خلّيتها وإن خلوا مددتها» ، تظهر هذه السياسة في الحوار الذي يدور بين شخصيتي «ذات 1 « و «ذات 2 «.
كلّما مدّ أحدهما خلّى الثاني وكلّما انفعل أحدهما ، هدأ الثاني. كما ترد في النص عبارة «الراية السوداء « أو ما يسمّى أيضا بـــــ «العُقاب « ، الطير الجارح قويّ البنية والذي يتميّز بمنقاره أقدامه ومخالبه وحدّة بصره ، وقد اتخذت التنظيمات المتشدّدة الراية السوداء رمزا لها .  لونها الأسود يذكرنا بالغراب الذي يجول في الفضاء لينشر الرعب في المدينة التي خلت شوارعها من المارّة .
ويبقى المعجم الديني طاغيا في النص من خلال الكثير من العبرات ويظهر ذلك جليّا في حكاية الغراب الذي علّم اِبن آدم كيف يواري سوأة أخيه ، إذ بفضله تعلّم الإنسان كيف يدفن الموتى. وهو أيضا الطائر الذي أرسله نوح لمّا غرقت الأرض في الطوفان فتأخّر عن العودة كما ورد في سفر التكوين.  التناص القرآني واضح وجلي من خلال عبارات كــــــ» إني أرى ما لا ترى « التي تحيلنا على قول يعقوب في سورة يوسف « إنّي أعلم من الله ما لا تعلمون « و عبارة «نور الله يتغلغل في ثنايا الغرفة» ، وعبارة « لا يسمن ولا يغن جوعك « ، «يلج الجمل في سمّ الخياط» ، «لا تضيع عنده الودائع « ، «الحياة البرزخيّة « ..... قد يرمز الغراب إلى الإرهاب الذي يحدّق بالإنسانية في كل أركانها ولا يخصّ دينا معيّنا ولا عرقا خاصّا وقد يكون ذلك الفيروس التاجي الذي جعل النّاس يقبعون في منازلهم ولا يخرجون خوفا من الإصابة بالوباء.
فكانت الحركة في النص مقتصرة على ما يدور داخل الغرفة ، أمّا خارجها فقد انتفت الحركة باستثناء تلك السّيارة القديمة التي أطلق عليها بطلا المسرحية اسم «الأرض الطيّبة» ولكن ما إن تحركت حتّى تبعها الغراب. لم تنقطع شعرة معاوية في النّص بين «ذات 1» و «ذات 2 « ليرسما معا ثنائيّة الذّات البشرية بخيرها وشرّها ، بأملها ويأسها ، بشجاعتها وخوفها ، بهدوئها وانطلاقتها، برصانتها واستهتارها ، بنظرتها الاستشرافيّة للمستقبل وعودتها إلى الماضي من خلال الموروث الثقافي والأدبي والديني . في النصّ سطور مقروءة وما بين السّطور نصوص أخرى تجعلك تعتصر الذاكرة من أجل الولوج إليها. وهذه ميزة تشد القارئ وتجعل منه كاتبا آخر لنفس النص.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024