أعترف أن هذا المقال هو أحد أصعب ما كتبت في حياتي المهنية.. كيف لا وهو يتحدث عن الذكرى الأولى لرحيل سهام بوكساني، واحدة من أخلص المكتبّيين للكتاب.. جمعتنا علاقة عمل وصداقة، وفي حالات الفقد، كلما كان الشخص الذي فقدناه أقرب، كلما كان الألم أكبر.. رحيل سهام يوم الخميس 21 من فبراير من العام الماضي، ومواراتها الثرى يوم انطلاق الحراك الشعبي، خلّف حالة رهيبة من الحزن، طالت الأقرباء والأحباء والأصدقاء.. ولكنني أكاد أجزم بأن أحزن هؤلاء.. هو الكتاب..
عام كامل يمرّ على رحيل سهام بوكساني.. عام كامل قضاه الكتاب يتيما.. سهام المكتبيّة المتفانية، الصديقة الصدوقة، البشوشة ذات الابتسامة النضِرة الدائمة، سهام التي نذرت حياتها لخدمة الكتاب ومحبّيه، سهام المخلصة لعملها، ولمحيطها، ولأهلها، ولكلّ ما هو جميل.
قضت العادة أن نستعرض في المقال بعضا من مسيرة من فقدناه: سهام بوكساني، من مواليد 1973، خريجة تخصص العلوم الاقتصادية بالجامعة، تألقت في عملها بمكتبة العائلة، مكتبة «دار الصحافة» قُبالة البريد المركزي في قلب العاصمة، مكتبة تأسست سنة 1963، وعملت فيها سهام إلى جانب والدها عمّي براهم، رحمهما الله.
بلى، هكذا قضت العادة.. ولكننا هنا نتحدّث عن شخص لم تحاصره العادة بجدرانها الهلامية الزائفة.. سهام بوكساني لم تكن ككلّ المكتبيين.. مذْ عرفتُها (بمعنى منذ بداية عهدي بمهنة/رسالة الصحافة) وهي تعيش مهنتها قلبا وقالبا، تجد سعادتها في خدمة الآخرين، في مساعدتهم، تطالع ما استطاعت من كتب، تقدّم النصح، كانت كلها أذن صاغية، تحرص على أن تتعرّف على ما يحتاجه الزبون، وإن لم يتوفّر كتاب ما، فهي إمّا تبحث له عن بديل شبيه، أو ترشد الزبون إلى مكتبة أخرى قد يجد فيها ضالته، ففي عالم الكتاب لا توجد منافسة بمعناها الصرف الجافّ.. وفي أحيان تبحث عن مصدر الكتاب، وفي حال ما إذا كان باستطاعتها توفيره، تضرب موعدا للزبون/القارئ، وتفي بوعدها في الآجال المحدّدة.
سهام المثقفة، كانت تحبّ كلّ تجليات الجمال حولها: لا تتحدث عن كاتب أو مؤلّف إلا وقد قرأت له، عرفتُها سمّيعة للألحان الجميلة، وكانت تفضّل موسيقى السبعينيات والثمانينيات. سهام المتفتحة، لم تكن تعترف بالحدود الجغرافية أو الإثنية، فالثقافة تعبير عن ألوان الطيف، والطيف لا يعترف، في تكوينه، بالأحادية.
لم تخلُ المكتبة «دار الصحافة براهم» من عمّال من خارج العائلة، ولكن الداخل إليها لن يحسّ سوى بروح الأسرة وحميميتها، التي تغمر الجميع من باعة وزبائن، كتّاب وقرّاء.. ما زلت ألجُ المكتبة فأجد فيها الأمّ لويزة، والابن هشام، والصديق مدني.. وما زلت أحسّ بروحيْ الأب براهم، والابنة سهام، يحومان في المكان، ويبعثان في الزائرين طمأنينة غريبة، وطاقة إيجابية قوية.
ما زلتُ، حينما ألجُ المكتبة، أسمع صدى ضحكات سهام يتردّد في أرجائها، كأن شيئا لم يتغيّر، فالمرءُ ليس بحضوره الجسدي، بل بحضوره في قلوب الناس وذكرياتهم.. كم من حيّ يمشي على قدمين، ولا يفيد محيطه ولا يستفيد، فلا يكاد يأتي أحد على ذكره، ولا يناله من الحياة سوى الاسم.. وكم من ميت يحيا في مخيلة الناس، في أحاديثهم، في أقوالهم وأفعالهم.. وبالاستئناس برؤية النظر هذه، فإن سهام حية، ويدقّ قلبها حبّا وفرحا، بل هي أكثر حياة من عديد ممّن يتنفسون وتنبض قلوبهم الشاغرة.. سهام حيّة، وهي تدعو لكم جميعا..