لستُ أدري كيف يمكننا أن نكتب شهادتنا في حق شخص، نشعر في أعماقنا أننا ندين له باعتذار كبير..
هذا ما أشعره كلما تذكرتُ وجه سهام الطفولي الذي يُشرع بشاشته على مصراعيها كلما ذرعتُ باب مكتبة دار الصحافة (كذلك كانت تفعل مع الجميع)، وأدرك أن الموت بكل قسوته قد اختطف منا في وقت باكر جدا، حضورها الدافئ في عالم باردٍ..
توارت سهام بهدوء، تسربت من بين أيدينا دون ضجيج.. انسحبت حين انقضّ المرض على جسدها دون أن تحمّل أحدا همّها.. ورحلت كما ترحل الملائكة في صمتٍ.. خفيفة، طاهرة، شامخة، مخلّفة لمن عرفها غصة ومحدثة في عالم الكتاب، فراغا لم يملأه بعدها أحد.
بالنسبة لي كناشرة (مهنة)، رافقت سهام الكثير من عثراتي وكانت من القلائل الذين مدّوا لي أيديهم، لاحتضان أول عناويني، حين كنت أصارع بمشقة وُعورة منطقة النشر التي دخلتها دون خبرة، جاهلة ما كانت تخبئ لي من قسوة في تلك البدايات. كانت سهام أقل مني سنا وأكبر مني تجربة مع الكتاب. بالنسبة لي كبشر، أحدث غياب سهام في حياتي، خلخلة أفسدت علاقتي بالعاصمة، وبالمكتبات. هذا الوجع الذي لم أبُح به لأحدٍ..لأنها كانت المحطة الدافئة التي أحطّ فيها.. تفسح لي مكتبتها وكأنها بيتي، ووقتها وتصغي لي كصديقة.. وهكذا يفعل الطيبون عادة.. نحبّهم ويغيبون..
يحزنني أن أقول اليوم إنها أحدثت ثقبا فادح العمق في قلب كلّ من كان قريبا من عالم الكتاب ويعرفها.. كانت سهام كلمة طيبة وقلبا كبيرا وابتسامة لا تغيب، تقطع كل احتمالات القلق.
تقابلني بوجه واسعٍ، وبابتسامةٍ تحضن قلقي وحزني وقلة حيلتي، تشدني من يدي وتأخذني إلى حيث تنحشر باحتشام أول عناويني: «انظري لقد بعتُ اليوم كتابين لك. وأمسِ جاءتني طالبة تسأل عن عنوان آخر.. لا تقلقي.. سيكون كل شيء على ما يرام.. كتبك رائعة وستنجحين. لا تيأسي..».
هكذا كانت علاقتي بسهام.. في مكتبة «دار الصحافة»، لمدة سنواتٍ.. منذ أول يوم قدمني لها فيه صديق.. تبنّت همّي وهمّ الكتب.. فكانت أكثر من مكتبية. كانت إنسانة بقلبٍ وعقل كبيرين... لذلك ما خلّفته بعدها، فراغ ضخم في عالم الكتاب.
سهام التي رحلت باكرا جرحٌ في جسد الكتاب، في جسد الصداقة، في جسد الصفاء... يراه ويتحمل وجعه من تعوّد دخول مكتبات العاصمة.
سهام التي تحرص على حقوق الناس، وتسعى لقضاء مصالحهم، توفّر النّصح والمعلومة والخدمة، تنصت للجميع، تردّ على الجميع، تسيّر مكتبةً برقّة امرأة، بعقل محترفٍ وقلبٍ نبيلٍ.. غياب شخصٍ، بكلّ ذلك الصّدق والمهنية من عالم الناس وعالم الكتاب.. أمرٌ جلل.
مثّلتْ سهام نموذج المكتبي الذي بإمكانه أن يصنع مع الناشر والقارئ والكتاب، سلسلة متينة متداخلة الحلقات، حتى يحقق كل طرفٍ نجاحه ملتزما بما للبقية من حق عليه.
تستحق سهام تكريما كبيرا، يليق بعمرها القصير وتجربتها الطويلة، هي التي لم تكن تسعى لشيء، يحرّكها فقط حبّ الناس وحبّ الكتاب وحبّ المكتبة التي ظلّت تحرس فيها روح أبيها المكتبي الراحل.
سلامٌ لها حيث ترفرف روحها الآن... وسلامٌ على الكتاب كلما غابَ من أهله شخصٌ نادر الحدوث.