دُور النشــر «المتساهلــة» وراء كـــثرة النصــوص الروائيـــة
الدور الحقيقي للناشر هو اكتشاف النصوص الجيدة وتوزيعها
«الغسّال».. هو عنوان جديد الكاتب جيلالي عمراني.. تحاول هذه الرواية، الصادرة عن «دار ميم للنشر»، ترصّد اعترافات مسؤول فاسد، يعيش أيامه الأخيرة، وتأكل الصور المرعبة مخيّلته المريضة. اقتربنا من المؤلف، وسألناه عن بعض خبايا روايته، والشخصيات التي سايرته وعاندته، وانفجار كتابة الرواية في الفترة الأخيرة، فكان هذا الحوار.
«الشعب»: في عجالة.. هلّا حدّثتنا عن روايتك الجديدة «الغسّال»؟
جيلالي عمراني: رواية «الغسَال» ترصد السنوات الأخيرة من حياة البلد، حيث استشرى الفساد وعمّم بشكل خطير، وكيف استطاع «الخونة» أن يجدوا طريقهم نحو السلطة، بطل الرواية هو وزير سابق عمَّر طويلا، وتبوّأ مناصب عديدة، إلى أن طرد من الوزارة بفضيحة كبيرة، فتعرّض لوعكة صحية بعدما تخلى عنه الأصدقاء والعائلة التي تعيش خارج البلد، فلجأ إلى قصر جبلي استولى عليه في فترة سابقة، كان رفقة حارسه وسكرتيرته. في أول ليلة من عزلته الإجبارية يتخيّل الدود يلتهم جسده فيجبر مرافقيه أن يسهروا معه، عندما تعبوا من هبله جيء بشخصية «علي الغسَال» فقط من أجل ترويعه وبث المزيد من الرعب فيه، رواية يسردها كلَ من الكاتب العمومي وعلي الغسَال والوزير والسكرتيرة، من زوايا مختلفة.
- في البداية كان عنوان روايتك «كنت وزيرا»، لكنك غيرته في آخر لحظة ليكون «الغسّال».. لماذا هذا الاختيار؟ ثمّ من يكون «علي الغسّال» الذي استلهمت منه التسمية؟
نعم صحيح، في البداية عنوانها « كنت وزيرا»، لكن بعد إنهائها تماما وقراءتها من طرف أصدقائي، قررت أن أغيّر العنوان، أولا لأن العنوان الأول يبدو لي شعبويا وتجاريا وعاديا، أما الغسَال فيحمل رمزية ما ودلالات ولن يفصح عن مضمون الرواية قبل قراءتها. أتمنى أني وفقتُ في هذا الاختيار.
واستلهمت الاسم من تاريخ الجزائر وما عاشته في فترة حرجة من فترة الحكم العثماني، وعرفت عدَة حكام تقريبا كلهم اغتيلوا، في خضم تلك الأزمة وهي عدم وجود حاكم نظرا للتسيب والفساد المستشري في البلد توصلوا إلى فكرة عبثية وسريالية هي أن يقبلوا بأول شخص يمرَ من حيث اجتمعوا، فجاء في تلك اللحظة «علي الغسال» فحكمهم لفترة قصيرة. طبعا الرواية لم تهتم بهذا التاريخ بل هي ترصد هذا التشابه المحير بين الفترتين، من تسيب ومؤامرات وفساد وحكم الزمر والعصب واغتيال حلم الثورة والثوار الحقيقيين. في النهاية الوزير يرمز إلى ه\ه السلطة الفاسدة التي استعملت طرقا عبثية ودموية للوصول إلى سدَة الحكم.
- مضمون روايتك فيه إسقاطات تتوازى كثيرا مع راهن البلاد السياسي.. هل كان ذلك متعمّدا أم أنها ضربة حظ؟ بعبارة أخرى هل كتبت روايتك قبل الحَراك الشعبي أم بعده؟
للأمانة الرواية لا علاقة لها بالحراك الشَعبي لا من قريب أو من بعيد، بدأت في كتابتها في أفريل 2017، حينما رأيت أثناء الانتخابات التشريعية السَابقة ذاك الإنزال الحكومي على القرى والبوادي، بطريقة استعراضية وخبيثة، كانوا في رحلة بحث عن التأييد وبيع الوهم والريح، إذ يدشنون محلات ودكاكين ويعيدون التدشين مرات ومرات، كانوا يخاطبون الشعب من أبراجهم بلغة سمجة ركيكة مليئة بالأكاذيب والتفاهة والسخف أيضا، حقيقة، آلمني الوضع الذي آلت إليه الجزائر، آلمني كثيرا سماجة أولئك المسؤولين، أتوجع كثيرا من الوضعية المزرية التي يعيشها الشَعب المغلوب على أمره. كنت أكتب الرواية بألم كبير تلك الأيام الفظيعة والعصيبة، إذن تستطيع القول أن رواية «الغسَال» هي قراءة ورصد لواقع مرير ومرتبك وهشَ، تتحكم فيه السَلطة الهجينة من وزراء ومدراء ورجال المال، كان همها الأكبر البقاء في أبراجها ونهب كل مقدرات الأمة.
فكرة الرواية ولدت بالضَبط من لحظة تسابق مفسدين لسرقة أصوات الشعب وشراء ذممهم بثمن زهيد، وأنا كنت حينها على متن حافلة رأيت موكبا وزاريا وشلة من مرافقين يشبهون إلى حد ما مرتزقة. تلك اللحظة البديعة ولدت الرواية كاملة، عليَ فقط كتابتها ببطء وبألم.
- من هي شخصيتك المفضّلة في «الغسّال»؟ ومن هي الشخصية التي «أتعبتك» أكثر؟
الشخصية المفضلة في الرواية هي الكاتب العمومي، المنحوس، غير المحظوظ على طول الخط، هذه الشخصية عايشت معي لسنوات طويلة، ربما من نهاية التسعينيات، مع كل مطبَات الحياة ومصاعبها لكنه بقي وفيا للكتابة والمغامرة، أما الشخصية التي أتعبتني في الرواية هي علي الغسال، وهو الشاب الذي امتهن هذه الهواية بمحبة، رغم المتاعب التي سببته له. كان يأمل دخول القصر كما حدث تماما لعلي الغسَال التاريخي.
- كيف ترى الإقبال الكبير على الرواية في السنوات الأخيرة؟ هل هي مجرّد «موضة» وحالة عابرة أم أنها نتاج سيرورة طبيعية لتطور النص السردي الجزائري؟
فعلا فيه إقبال كبير على الرواية في السنوات الأخيرة، من القراء أولا بما تحققه من متعة أيضا فيه إقبال منقطع النظير لكتابة الرواية من كل الأعمار والتخصصات، وهذا لا يخصَ فقط الجزائر، أعتقد هي ظاهرة عالمية، فيه انفجار كبير لنشر الرواية، أعتقد أن السبب وراء هذه الظاهرة يعود لسببين أساسيين وهما: انتشار دور النشر الكثيرة، الكثيرة جدا في بلداننا النامية ومنها الجزائر على وجه التحديد، فهذه الدُور لم تعد تقوم بدورها الأساسي في اكتشاف النصوص الجيدة من خلال لجنة قراءة محترفة ونشرها وتوزيعها، بل يهمّها جمع المال، فبالتالي أي نصَ يصلها عبر البريد الالكتروني يجد طريقه للنشر بسهولة كبيرة، طبعا فيه استثناءات قليلة ونادرة لتلك الدور الوفية لتقاليد النشر الاحترافي، هذا عكس السنوات الماضية التي يعاني منها الكاتب الشَاب في إيجاد دار نشر تتكفل بنصه، والسبب الثاني يعود إلى تلك الجوائز العالمية المهمة التي ساهمت في هذا الزخم غير العادي لفن العصر كما يسمى، جوائز تسيل لعاب النَاشرين أولا والكتاب ثانيا والواهمين ثالثا، يتسابق الجميع لنيل شرف الجائزة وما تحقّقه تلك الروائع من المبيعات والربح السريع لكثير من دور النشر، فانتشرت في دولنا الجنوبية أيضا هذه المسابقات الكثيرة وتعد بالعشرات، تستقطب الكتاب الكبار والصغار على حدَ سواء، هذا يعود بالضرر الكبير على الفن الروائي، فصار الكل يكتبها، والكل يستهدف النَشر والكل يستهدف هذه المسابقة أو تلك، هناك من يكتب فقط من أجل المشاركة، فاختلط الحابل بالنابل، يخال لي أحيانا أن الرواية بهذا الريتم السريع نحو انتشارها يعني موتها قريبا لأسباب ذكرتها سابقا، نعم أكتب منذ أيام مقالا بهذا العنوان نفسه «موت الرواية قريبا» وهو الإحساس الذي راود الكثيرين من قبل وربما في كل وقت يداهمنا هذا الإحساس المخيف، نعم لم تعد الرواية كما كتب البيرتو مورافيا وحنا مينا وفيكتور هيغو ونجيب محفوظ.
- من عادة الكتّاب أن تبدأ فكرة نص جديد في التخمّر بمجرّد انتهائهم من كتابة النصّ السابق.. هل هي حال جيلالي عمراني؟ وهل سنراك مجدّدا في الرواية أم أنك قد تجرّب جنسا أدبيا آخر؟
يحدث هذا بالفعل، وقع لي بالضبط ما أشرت إليه، بينما كنت حزينا لمغادرة شخوص الرواية البيت، في الفقرات الأخيرة، شعرت بفداحة الواقع الذي عدت إليه، تسللت فكرة مباغتة، وجميلة، الآن اجمع تفاصيلها ومشاهدها، قد يطول الموضوع لكن هي رواية بالتأكيد. في الأخير أتقدم بالشكر لكم، ولمديرة دار «ميم» للنشر، السيدة آسيا علي موسى، على تبنيها لروايتي وإخراجها بشكل جميل أسعدني كثير.