مفتش تربية سابقا
من الوسائط التّربوية التي اعتاد أستاذ الجغرافيا اللجوء إليها كوسائط لتوضيح وترسيخ فكرة دوران الأرض للطلاب، هي عقارب الساعة، فقد ظل يرشد طلابه إلى أن الأرض تدور حول نفسها بعكس اتجاه عقارب الساعة، غير أنّ انقلاب المفاهيم في الوقت الراهن أصبح يهدّد الأستاذ وطلبته، معا، بالضلال والتيـه. ذلك أن الساعة الميكانيكية ذات العقارب التي تعامل معها البشر، عبر عصور من الزمان، وبثقة مطلقة إلى درجة أنهم اتخذوا منها وسيلة توضيح وتذليل صعوبات علمية، علاوة على دورها في معرفة الوقت.
إنّ ساعة اليوم لم تعد كذلك، فنتيجة للثورة الإلكتروتقنية، التي أنجبت الديمقراطية المعاصرة، فقد حلّت الساعة الإلكترونية محل الساعة الميكانيكية المتواضعة التي ألفها الناس واستأنسوا إليها بعكس الساعة الإلكترونية التي يتطلب التعامل معها مستوى ما من المعرفة الإلكترونية. إذن، لم يعد للسّاعة عقارب، وبذلك فقد أصبح تحديد الوقت وضبطه من اختصاص «الديمقراطيين» أو قل المبشّرين بالديمقراطية.
إنّ مثل تسويق الديمقراطية في الوقت الراهن كمثل تسويق «الحضارة» في القرنين التاسع عشر والعشرين. فقد تم تسويق «الحضارة» إلى الشعوب عبر طرود مقنبلات ٢٦B ومدافع 105 ملم وصهاريج النابالم، ويتم اليوم تسويق الديمقراطية بواسطة مقنبلات 52B والصواريخ الذكية، ذكاء المسوقين الذين يعتمدون أسلوب المقايضة، مقايضة إنجازات التقنية المعاصرة بأرواح بشرية، لا ذنب لأصحابها سوى أنهم في، صلواتهم، لا يولون وجوههم قبل قبلة الديمقراطيين المعاصرين...متباهين ومتبجّحين بإنجازاتهم العلمية المتطورة التي يوظفونها في إزهاق أرواح بشرية وتدمير منجزات حضارية. إنّها الساعة التي لا عقارب لها.
الغريب في الأمر أن تجار الأمس هم أنفسهم تجار اليوم وزبائن الأمس هم أنفسهم زبائن اليوم، أي أن كلا من «الحضارة» و»الديمقراطية» سوقتا وتسوقان في نفس المناطق من العالم، ومن طرف نفس هؤلاء أو من أبنائهم وأحفادهم، وكأنهم ورثوهم صفات تدمير المنجزات الحضارية وتقتيل البشر.
يا لهـؤلاء من مجرمـين ويا لأولئـك من بلهـاء.