لا يختلف اثنان على أنّ الأغنية الشّعبية تعتبر من أبرز الطّبوع التي اقترن اسمها بتقاليد الجزائر العتيقة، وقد عرفت انطلاقتها في التّراث الشّعبي الأصيل عبر مقاهي وقاعات القصبة وأحياء كثيرة عبر التّراب الوطني.
يقول العارفون بمذاق الأغنية الشّعبية التي أخذت فضاءً متميّزا لها بدءاً من عام ١٨٩٠، وذلك بعد نزوح النّخبة المدينة التي كانت تقيم في العاصمة باتجاه سوريا، تيطوان المغربية وتركيا، واستطاعت أن تفرض منطقها في المدينة العتيقة بفضل التّحوّلات الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزتها الأزمة الاقتصادية العالمية عام ١٩٢٩.
رحيل كبار العائلات
ما قاله أصحاب النّغمة الشّعبية المتتبّعين لمسار الأغنية الشّعبية، بأنّ العاصمة شهدت في ذلك الزّمان رحيل العائلات البرجوازية وأصحاب النّفوذ، تاركين منازلهم ومحلاّتهم في الحي العيتق (القصبة) تمتهن المهن الحرفية التّقليدية المعروفة في بلادنا، وكان التّمركز لهذه المهن كلّها في حي القصبة أو للأحياء القديمة في بعض الولايات على غرار قسنطينة، مستغانم ومدن أخرى وهي متواجدة الى غاية اليوم.
والد العنقا
كانت هذه المهن التّقليدية فنّ من فنون التّقاليد الجزائرية الأصيلة، وكانت أكثرها تصنع في الحي العتيد الذي كان يسكن والد الحاج محمد العنقا القادم من المداشر القبائلية، حيث مكث في هذا الحي الذي كان مزدهرا في ذلك الزّمان بالصّناعة التّقليدية الأصيلة، هذه لمحة وجيزة عن الصّناعة التّقليدية التي تعتبر لحنا شعبيا.
الأغنية الشّعبية حافظت على هويّتها وتقاليدها
تعتبر الأغنية الشّعبية لدى العاصميّين القلب النّابض في بيوتهم وفي محلاتهم التجارية، فبقيت محافظة على تقاليدها عبر أحياء القصبة وباب الوادي، وأماكن أخرى شعبية عبر ولايات الوطن، فكانت الأغنية الشّعبية عبارة عن بصمة، حيث تركت لمستها في قلوب الملايين من الجزائريّين، وهذا بفضل شيوخ ومبدعي هذه الأغنية وهذا التّراث الجزائري الأصيل.
الأب الرّوحي للأغنية الشّعبية
شيخ الأغنية الشّعبية والأب الرّوحي لها الحاج امحمد العنقا غيّر نمط الأغنية الشّعبية وطوّرها بتطوّر مؤدّيها لحنا وغناءً خلال الستينات، قبل أن تعوّض بثقافة الفلكور خلال التّسعينات، والتي كان يتزعّمها في ذلك الزّمان رابح درياسة أطال الله في عمره.
الجاز والأغنية الشّعبية
حسب العارفين لمسار الأغنية الشّعبية، فإنّ العنقا لقم الأغنية الشّعبية بالجاز، من هنا أحسّ المتتبّعون للأغنية الشّعبية بتراجعها حيث استخلف القصيد بأداء شاعو وبوجمعة العنقيس، وأدخلت بعض الآلات العصرية على الجوق الشّعبي كالساكسفون وغيرها مثلما فعل قروابي في أغانية الشّهيرة «الشّمس الباردة»، «حكمت» و»البارح» وغيرها..لكن الأغنية الشّعبية لم تفقد مذاقها الشّعبي.
برحيل عملاق الأغنية الشّعبية الحاج العنقا ظهر على السّطح مطربون كثيرون، وكانوا بحق عمالقة الفن الشّعبي في زمانهم على غرار قروابي، عمر الزاهي، شاعو، مراد جعفري وكلّهم كانوا يعشقون مدرسة الحاج العنقا وتذوّقوا من ألحانها وأداء الحاج العنقا، الذي يبقى رمز الأغنية الشّعبية إلى الأبد لحنا وأداءً وكلمة.
كبرت الأغنية
بعد وفاة عميدها، كبرت الأغنية الشّعبية وأصبح المئات من المطربين يردّدونها في التلفزيون والاذاعة والحفلات هنا وهناك، حيث تمكّن الكثير من المطربين تجديدها على غرار المطربين الذين ذكرناهم وأضفوا للأغنية الشّعبية لمسة متميّزة وبألحان مشفوقة بالأداء المتميّز لدى جيل التّسعينات والثمانينات، وحتى جيل اليوم قادر على تطوير الأغنية الشّعبية التي تبقى مرآة عاكسة للفن الجزائري.
مدرسة العنقا تبقى شاهدة على الأغنية الشّعبية
إنّ مدرسة الحاج امحمد العنقا في الفن الشّعبي تبقى رمزا لامعا في سماء الحي العتيد (القصبة)، حيث كانت انطلاقة هذه الأغنية من رحم هذا الحي، غير أنّ عشّاقها ومحبّيها وعلى رأسهم امحمد العنقا، الذي يعتبر الأب الرّوحي في هذا الفن بالذّات، حيث تمكّن من وضع كل الطّرق النّاجحة للظّهور بالأغنية الشّعبية، والخروج بها إلى برّ الأمان إلى أن جاء جيل آخر أحبّ الأغنية الشّعبية وطوّرها، فكانت الأغنية الأحلى لدى عاشقيها هنا وهناك.
ألحان العنقا في رأي عشّاق الفن الشّعبي
حسب من تحدّثوا لصفحة «الذكريات»، فإنّهم أجمعوا بأنّ الحاج أمحمد العنقا هو الأب الرّوحي لها بلا منازع، نظرا لقيمة الألحان وأدائها على غرار أغنية «لحمام اللّي ربّيتو مشى عليّا»، «ما بقاش الاستعمار في بلادنا» والعديد من الأغاني الشّعبية الخالدة، لذلك نقول لقرّاء صفحة «الذكريات» بأنّ العنقا هو قامة فنية شعبية من نوع خاص، وعليه فإنّ الحاج في هذا المجتمع كبير بشخصيته وفنّه، حتى وإن اختلفت الألحان والأداء من مطرب إلى آخر، فإن بصمة هذا العملاق الذي أبدع في الأغنية الشّعبية داخل الوطن وخارجه تبقى منقوشة في قلوب الملايين وعشّاق الفن الشعبي، الذي انطلق من قلب القصبة.
بحثنا هذا ليس على الحاج في حد ذاته، وإنما هو التعريف بهذا الفن الأصيل الذي واكبه الحاج إلى أن توفي لكن تلميذ الشيخ الناظور الحاج أمحمد العنقا تركّزت أعماله الفنية على الخلق والابداع والتّفتّح على موسيقى الآخر، وهذا ما فعله من بعده تلاميذته على غرار قروابي، شاعو وآخرين وكان كل ذلك بالنسبة لهذا العملاق هو توظيف هذا الفن في حدود الأصالة الشّعبية التي يتمتّع بها عشّاق الفن الشّعبي في بلادنا.