بشطارزي..نقل الفعل المسرحي إلى أعماق الجزائر
قامة في مجال الكتابة، التّمثيل والإبداع
من منّا لا يتذكّر الكاتب والمخرج والمقرئ للقرآن الكريم، إنّه محي الدين بشطارزي الذي أسّس المسرح الوطني الجزائري وكان من قاماته في الطّرب والتّمثيل المسرحي.
كما يعتبر هذا الرّجل من القامات الفنية العالية المستوى، حيث عرف في بداية حياته كيف يوظّف طاقاته الإبداعية علـى ركح المسرح الوطني، وقد قال عنه الكثيرون سواء الذين تعاملوا معه فنيا أو الذين عايشوا أعماله بأنّه شخصية نادرة في مجال الكتابة والأداء المسرحي، وكان يعمل في حدود الأصالة غير المتمرّدة على العصرنة.
مسيرته الفنيّة
عندما أسّس المسرح الوطني الجزائري دخل مجال الفن من بوّابة الاخراج والتّأليف المسرحي، كما زوّد نفسه بقراءة القرآن الكريم عبر مساجد العاصمة إلى صقل موهبته التي تفجّرت بالإبداع المسرحي على ركح المسرح الوطني ليخرج بهذا الزاد إلى العلن.
ويقولون من عرفوا هذا العملاق في مجال الفن المسرحي، بأنّه كان ذكيّا ومبدعا وهذا ما أهّله ليشارك مع طلبة المدارس الاسلامية في تمثيل عدّة مسرحيات مع فرقة «علالو» على شكل سكاتشات قصيرة، لكنّها مؤثّرة من حيث التّوظيف الدرامي لها من طرف بشطارزي ومن معه في الفرقة.
بعدما أبدع مع الفرقة المذكورة أعلاه، أبدع محي الدين بشطارزي مع مجموعة من الشباب المولوعين بالمسرح في ذلك الزّمان، حيث قدّم أعمالا مسرحية ممزوجة بالغناء والرّقص، وهذا كلّه جاء على إثر تأثّره بالفرق العربية على غرار فرقة «جورج أبيض ونجيب الريحاني»، التي كانت تزور الجزائر من حين لآخر، وهذا ما أهّله ليكون أحد رموز التّمثيل والغناء المسرحي في الجزائر، ونال إعجاب محبّي المسرح على المستوى الوطني لأنّ محي الدين كان يبعث برسالة هادفة إلى الشّعب الجزائري عبر ركح المسرح الوطني.
ولد في 15 / 09 / 1897 بالقصبة بالعاصمة، بدأ حياته كمقرئ للقرآن الكريم عبر الحلقات اليومية التي تقام في مساجد العاصمة، وعمره لا يتعدّى 15 سنة، وتؤكّد المعلومات من هنا وهناك أن محي الدين بشطارزي له صوت مميّز في قراءة القرآن حتى أصبح «حزاب» أي رئيس قارئ للقرآن، وبعد تألّقه في الحلقات وتلاوة القرآن ومعده 21 سنة أصبح مؤذّنا بمسجد الجامع الجديد بالعاصمة، بعدها انخرط في جمعية المطربية التي أصبح رئيسها الفعلي سنة 1932.
أول مؤذّن في مسجد باريس
بعد مشواره الثري والمتنوّع بالعاصمة، اختير سنة 1962 كأوّل مؤذّن في جامع باريس، لكن محي الدين لم يتخلّى عن النشاط الفني والمسرحي هنا وهناك مع إقامة الحفلات الفنية.
بعد كل هذه المحطّات، فإنّ بشطارزي كان يحب المسرح حتى النّخاع، إلى أن التحق به عام 1922، وكانت أول مسرحية لهذا الرجل «العلماء المزيّفون»، كما شغل منصب مدير القناة الموسيقية العربية لسنوات عديدة، لكن الظّروف لم تسمح له بمواصلة هذا الإنجاز فتوقّف.
إنشاء فرقته المسرحية
بعدما توقّف عن المسرح مؤقّتا، جال في خاطره أمر مهم وهو إنشاء فرقته الخاصة (بالمسرح)، سنة ١٩٣٠ قام بجولة عبر التراب الوطني، فنالت إعجاب الجماهير الجزائرية في ذلك الزّمان.
بعدما برز بفنّه الرّاقي قبل الاستقلال وكان تمثيله لهذا الشعب عالي المستوى، فكان من الواجب أن يستحق مسؤولية مهمّة بعد الاستقلال، فأسندت إليه مهمّة مدير معهد الفنون الجميلة بالعاصمة خلال الفترة الممتدّة ما بين ١٩٥٦ إلى ١٩٧٤، وكان بحق رجلا كفءا يستحق أن يكون مثالا في بعث الحركة المسرحية في بلادنا.
وفاته
توفي محي الدين بشطارزي في ٠٦ / ٠٢ / ١٩٨٦ بالعاصمة، عن عمر يناهز ٨٨ سنة تاركا وراءه إرثا كبيرا ومسارا ثريّا لا يقوم به إلاّ الكبار، حيث وظّف هذا الرّجل حياته الفنية وعمره لا يتعدّى 15 سنة إلى أن وافته المنيّة بين الطّرب والتّمثيل والكتابة، كما يعتبر بشطارزي الوحيد في هذا المجال الذي نقل الفعل المسرحي إلى أنحاء الجزائر.
لم يكتفي الأب الرّوحي للمسرح الوطني بقيامه بأكبر الأعمال الفنية، بل كان له فضل كبير على العديد من الفنّانين الذي ظهروا على الواجهة من بعده، حيث تتلمذ هؤلاء على مدرسة بشطارزي إلى أن تخرّجوا كممثّلين كبار على غرار بعض الأسماء النّسائية على خشبة المسرح، أمثال كلثوم، لطيفة، نورة، نورية والمطربة الكبيرة فضيلة الدزيرية وأخريات.
كما يعود الفضل الكبير لهذا العبقري الذي بعث بجيل جديد من الممثلين الشباب، الذين أرسوا عالم المسرح الوطني والفن الدرامي الجزائري، أمثال محمد التوري، رويشد، بن يوسف حطاب، سيد علي كويرات، حبيب رضا، فريدة صابونجي، سيد علي فرندال، مريم فكاي، والقائمة طويلة..كل هؤلاء مرّوا على مدرسة العملاق محي الدين بشطارزي التي تبقى خالدة جيل بعد جيل وإلى الأبد.
قدراته في زرع الثّقافة
يقولون من عرفوا بشطارزي أنّ الفضل يعود إليه في بعث المقاومة الثّقافية للحفاظ على الشّخصية الجزائرية في كل ما له علاقة بالثّقافة والهوية الجزائرية، وهذا كله بضرب الاستعمار الفرنسي الذي كان يحاصر الجزائريّين ويبعدهم عن هويتهم الوطنية رغم كل هذه الصّعوبات التي واجهها بشطارزي فرمى بكل ثقله وما يحمله من هموم ثقافية.
تمكّن من التّرويج للفن الأندلسي والحوزي، وحسب الذين عرفوه وتابعوا مشواره الدّرامي والغنائي بأنّه منع من تسويق أغانيه التي بلغت سنة 1937 أكثر من 17 أغنية، أغلبها في مكتبات خارجية، رغم الحصار الذي عاشه الفنان محي الدين بشطارزي أثناء الحقبة الاستعمارية، إلاّ أنّه تمكّن من كتابة أغانيه ومسرحياته القصيرة باللّغة العامية الجزائرية، وهذا قصد بعثه برسالة إلى الجماهير الجزائرية عبر التراب الوطني، لكن حنكة هذا الفنان وما تركه من ثروة فنية وإرث درامي وغنائي يبقى منقوشا من حروف من ذهب إلى الأبد.