مراجعات..

النقد والناقد.. صيانة الإبداع واستمراريته

بقلم: د.أ حبيب مونسي

من الأصداء التي تلتقط خلف حفيف لفظ “النقد” صدى الحكم والمعيار، وكأنّ المتصدّي لهذه الغاية يقف في منطقة وسطى بين طرفين، فلا يمرّ صنيع هؤلاء إلى هؤلاء إلاّ عبره وبمباركته، فهو بذلك يمثل صورة فريدة متميزة، يطمئن إلى عدلها، ونزاهتها، واقتدارها، ورهافتها ذوقها الطرفان. وهي وظيفة تضارع وظيفة الى الشاعر في الأزمنة المتقدمة، أو وظيفة الكاهن في الأخرى قبلها. بيد أنّنا مازلنا اليوم نستشعر فيه هذه الميزة، فنقبل على ما خطت يداه، نستحسن ما يستحسن، ونستهجن ما يستهجن، وقد نتّهم أذواقنا لنقدم ذوقه ونعتدّ به.
إلاّ أن ظهور “المنهج” و«المرجعية” و«الانتماء الأيديولوجي” و«الموقف الجمالي” عكرّ ذلك الصفاء، ولطّخ نصاعة ذلك التّوب، وتحوّل الناقد ببطء خادم طيّع في يد هذه الفلسفة أو تلك. والتي صاغته بحسب هواها وقيمها. وسواء أعلن الناقد انتماءه، أو تركه للقارئ يكتشفه عبر المقولات والمفاهيم، فإنّ عملية النقد في جميع أحوالها لا تخرج عن كونها: تحليلا وتفكيكا للأثر الذي يصوّر الحياة عبر الاتصال الجمالي الذي يتخذ الأداة اللغوية منطلقا له من أجل التّواصل والتأثير. ويستهدف تحليل العناصر المشكّلة للمستويات المتعدّدة التي تصنع بنيته الكلّية..
لقد غدت الوظيفة الجديدة للنقد، لا تنطلق في استثمار النص قبل تحديد الأثر الإبداعي مرّة أخرى، فهي - السّاعة - تركّز على التّشكيل الهيكلي تحت توجيه اللّسانيات والبنيوية، وتوقف لغتها عند الوصف الذي يفكّك المكوّنات البنائية للأثر، وكأنّ غاية النقد قد تحوّلت هي الأخرى من قول المعنى وتعيينه إلى الحديث عن كيفية إنتاجه. إنّ الناقد - وهو يتخلى تدريجيا عن الحكم - يحوّل  مسؤولياته فيما يخصّ المعنى: “إلى العناية لا بالناتج بل النظام الذي أنتجه: لا بالدّلالة، بل بطريقة الدلالة، فهو يريدنا أن نفهم “كيف” تعني النصوص، قبل البحث في “ماذا” تعني” (14) هذه النصوص.
إنّ ذلك يعيّن مرحلة كان فيها الاهتمام الشكلي، والانشغال اللساني سيّد الموقف، فانعكس المطلب النقدي على اللغة الإبداعية وحركيتها داخل البنيات، وفي النسيج الأسلوبي ضمن العبارة. وقد كان من الضروري التمييز بين البنية والأسلوب في إطار اللغة الإبداعية ذات الصّبغة الجمالية البارزة، لأنّ البنية تتصّل بتركيب النّص، بينما يمسّ الأسلوب النسيج اللّغوي المكتوب به فحسب. ويظل المعنى مرهونا بالعلاقة التبادلية بين البنيات والأساليب، لا يخرجه من ذلك الطّوق المغلق إلا فاعلية التأويل، الذي يتوقف أساسا على شخصية الناقد، وعلى عصره، وانتمائه الأيديولوجي.لأنّه لا يتم تأويل عنصر ما من عناصر الأثر إلاّ من خلال دمجه داخل نظام - ليس نظام العمل الأدبي الذي ينتمي إليه - ولكن نظام الناقد القائم عليه.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19524

العدد 19524

الإثنين 22 جويلية 2024
العدد 19523

العدد 19523

الأحد 21 جويلية 2024
العدد 19522

العدد 19522

السبت 20 جويلية 2024
العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024