تمضي القرون والأعوام وتمر الشهور والأيام، ويدور الفلك دوراته على بني الإنسان، بين سعادة وشقاء، وغبطة وبلاء، ويأس ورجاء، وبؤس ورخاء، وذكرى مولد المصطفى سيد المرسلين وإمام الهداة والمتقين لا تبرح تتردد على الألسنة وتخفق لها القلوب والألسنة. في مثل هذا اليوم ومنذ أكثر من أربعة عشر قرنا، انبعثت معجزة للوجود وتمت حكمة الله بمولد أشرف مولود، فاستنارت بمولده الأكوان وأُرخ بمبعثه عصر العلم والعرفان، وتفتحت أبواب الحق والعدل والإحسان.
جاء رسول الله إلى دار الدنيا ليكون الوسيلة العظمى بين الخلق والخالق، والوصلة الكبرى بين البرية والبارئ، فكان المبشرَ من اتبع هداه بعظيم رضوان الله والمنذرَ من دان لهواه بأليم غضب الله، وكانت بعثته شاملة للناس عامة وأيده الله بقوله: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا}.
فإذا احتفل العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها بهذه الذكرى العزيزة، واتخذ أيامها له من غرر أيام مواسمه وأعياده، فإنما يحتفل بذكرى ميلاد من أنقذ الله على يديه الإنسانية الضالة، ورفع بيمن طالعه نير الاستعباد عنها، وفك بواسطته أغلال الاستبداد بها، وجعله سببا في استرداد خصائصها الصحيحة ومزاياها السليمة، وأنار للإنسان بشريعته الخالدة سبل السلام إلى سيادته وأوضح له مناهج الخير إلى سعادته.
تاريخ الإحتفال بالمولد النبوي الشريف
أول من قام بابتداع فكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف هم الفاطميون بعد انتقالهم إلى مصر سنة 362 هـ، حيث إن الحكّام الفاطميين حاولوا استمالة السكان إليها واستثارة العواطف لتألف سياسة الدولة الجديدة، فقام الحكام باحتفالات وأعياد دورية وثبت على أنهم كانوا يحتفلون بستة أعياد سنويا وهي: عيد مولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، مولد الإمام علي رضي الله عنه، مولد فاطمة، مولد الحسن والحسين ومولد الإمام الفاطمي الحاضر، ولما حكم الخليفة المستعلي بالله سنة 488 هـ / 1095م قام وزيره الأفضل شاهلشاه بإبطال أربعة احتفالات: المولد النبوي، مولد علي، مولد فاطمة ومولد الإمام الحاضر، لكن استمر الاحتفال بالمولد لدى عامة الناس كما في السابق حيث أصبحت عادة سنوية لهم.
بعدها انتشر الاحتفال في مكة المكرمة خلال القرن السادس الهجري، وبعد استيلاء الأيوبيين على مصر وإلغائهم لكل المظاهر الاحتفالية الفاطمية، بقي الاحتفال بالمولد النبوي ساريا وخير دليل هو احتفال وتعظيم هذا اليوم من طرف حاكم إربل مظفر الدين كوكبوري الذي كان يضرب المثل في عظمة احتفاله بهذا اليوم، وكان يحتفل بالمولد كل سنة في يوم مخالف (سنة في اليوم الثامن وسنة في اليوم الثاني عشر).
أما في بلاد المغرب والأندلس فقد تمّ الاحتفال لأول مرة ورسميا عن طريق حاكم سبتة أحمد بن القاضي محمد أبوالعباس العزفي اللخمي (توفي 633 هـ / 1235 م) وألف كتابا عنوانه: «الدر المنظم في مولد النبي المعظم»، وفي العهد المريني كان الاحتفال مقتصرا على مدينة فاس فقط خلال حكم يعقوب بن عبد الحق (656/685 هـ)، لكي يشمل كامل أرجاء الدولة المرينية في عهد يوسف بن يعقوب (685/706 هـ) الذي أصدر مرسوما يجعل المولد النبوي عيدا رسميا في الثاني عشر من ربيع الأول، أما الدولة الحفصية فقد تحوّل الاحتفال رسميا في عهد السلطان أبي فارس عبد العزيز (796 / 836هـ)، أما الدولة الزياني التي تأثرت بالحصار والحرب مع الدولة المرينية فقد عرفت الاحتفال بذكرى المولد النبوي في عهد أبي حمو موسى الثاني منذ توليه الحكم سنة 760هـ/1359 م، أما الدولة العثمانية فقد أحيت كامل الأعياد الدينية الإسلامة ومنها المولد النبوي الشريف.
الهدف من وراء الإحتفال بذكرة المولد النبوي:
يورد في هذا الصدد الأستاذ محمد قويسم عن الغرض من الإحتفال بهذا اليوم:
1 • مقاومة التقليد بالإحتفال بميلاد أهل الكتاب:
بعد هزيمة المسلمين في معركة حصن العقاب سنة 1212م، وسقوط مدن الأندلس واحدة تلو الأخرى أصبح المسلمون مغلوبين على أمرهم ويقلدون النصارى حتى في الاحتفال بيوم المسيح المصادف لـ25 ديسمبر من كل عام وعيد النبي يحيى (يحيى المعمداني) فخيف على المسلمين من نسيان وترك كل ما يتعلّق بنبيهم ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ، وهذا ما جعل العزفي أبوالقاسم ابن العباس حاكم سبتة يدعوللاحتفال بيوم المولد الشريف.
2 • التظاهر السياسي بالتقوى وحب الدين:
وهذا من خلال قيام السلطات الحاكمة في العالم الإسلامي سواء من الفاطميين أو الأيوبيين أو الزيانيين وغيرهم من سّن هاته العادة الاحتفالية، فالغرض منها جذب الرعية وتحبيبها بالحكّام عبر الدين ورعايته والغرض الآخر هو التذكير بسُنّة الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس تشبها بالمسيحيين رغم معارضة الفقهاء المالكية باعتباره بدعة لكن حسب مؤيدي الاحتفال من العلماء فاعتبروه بدعة حسنة مثل صلاة التراويح مثلا.
3 • محاولة استثارة عواطف السكان والتفافهم حول الدولة بكسبهم عن طريق الدين:
أهم الآراء القائلة بالاحتفال أو معارضته:
لهذا اليوم خاصية كبيرة في نفوس كل المسلمين، فهو اليوم الذي ولد فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن نجد اختلافا كبيرا في مشروعية الاحتفال بهذا اليوم فهناك من يقول بمشروعية هذا الاحتفال عملا بقول إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما سئل عن صيام يوم الاثنين قال: «ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل عليّ فيه»، لكن هذا أمر لم يرد به النبي ـ صلى الله عليهو سلم ـ تحديدا صيام يوم ميلاده بل أجر صيام يوم الاثنين تطوعا، ولم يثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته والتابعين من بعدهم قد احتفل بهذا اليوم.
آراء القائلين بالاحتفال:
• السيوطي: «عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسّر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف».
• ابن الجوزي: «من خواصه أنه أمان في ذلك العام
وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام».
• ابن حجر العسقلاني:
حيث قال الحافظ السيوطي: «وقد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل ابن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصّه: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كانت بدعة حسنة، وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قدِم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم، فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون، ونجى موسى، فنحن نصومه شكرا لله، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة، أو دفع نقمة.. إلى أن قال: وأي نعمة أعظم من نعمة بروز هذا النبي.. نبي الرحمة في ذلك اليوم، فهذا ما يتعلّق بأصل عمله، وأما ما يعمل فيه: فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة».
• السخاوي: «لم يفعله أحد من السلف في القرون الثلاثة، وإنما حدث بعدُ، ثم لا زال أهل الإسلام من سائر الأقطار والمدن يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم».
• الشيخ النووي: «ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل كل عام في اليوم الموافق لمولده ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من الصدقات، والمعروف، وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مشعرٌ بمحبته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وتعظيمه في قلب فاعل ذلك وشكراً لله تعالى على ما منّ به من إيجاد رسوله الذي أرسله رحمة للعالمين».
• محمد راتب النابلسي: حيث قال: «الاحتفال بعيد المولد ليس عبادة ولكنه يندرج تحت الدعوة إلى الله، ولك أن تحتفل بذكرى المولد على مدى العام في ربيع الأول وفي أي شهر آخر، في المساجد وفي البيوت».
• محمد سعيد رمضان البوطي: «الاحتفال بذكرى مولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نشاط اجتماعي يبتغي منه خير دينيّ، فهو كالمؤتمرات والندوات الدينية التي تعقد في هذا العصر، ولم تكن معروفة من قبل. ومن ثم لا ينطبق تعريف البدعة على الاحتفال بالمولد، كما لاينطبق على الندوات والمؤتمرات الدينية. ولكن ينبغي أن تكون هذه الاحتفالات خالية من المنكرات».
المعارضون:
• ابن تيمية: «اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال إنها ليلة المولد، أوبعض ليالي رجب أو ثامن عشر ذي الحجة أو أول جمعة من رجب أوثامن من شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها (...) فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه ولو كان خيرا محضا أوراجحا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله وتعظيما له منا وهم على الخير أحرص».
• الشاطبي: قال في معرض ذكره للبدع المنكرة «ومنها التزام الكيفيات والهيئات المعينة كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد واتخاذ يوم ولادة النبي عيدا وما أشبه ذلك».
•عبد العزيز بن باز: «الاحتفال بالمولد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم بدعة لا تجوز في أصح قولي العلماء؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يفعله، وهكذا خلفاؤه الراشدون، وصحابته جميعاً رضي الله عنهم، وهكذا العلماء وولاة الأمور في القرون الثلاثة المفضلة، وإنما حدث بعد ذلك بسبب الشيعة ومن قلدهم، فلا يجوز فعله ولا تقليد من فعله».
•محمد ناصر الدين الألباني: «هذا الاحتفال أمرٌ حادث، لم يكن ليس فقط في عهده؛ بل ولا في عهد القرون الثلاثة... ومن البديهي أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في حياته لم يكن ليحتفل بولادته؛ ذلك لأن الاحتفال بولادة إنسان ما إنما هي طريقة نصرانيَّة مسيحيَّة لا يعرفه الإسلام مطلقًا في القرون المذكورة آنفًا؛ فمن باب أولى ألاَّ يعرف ذلك رسول الله ـ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم ـ».
•محمد بن صالح العثيمين: «إذا كان كذلك فإن من تعظيمه وتوقيره والتأدب معه واتخاذه إماماً ومتبوعاً ألا نتجاوز ما شرعه لنا من العبادات لأن رسول الله توفى ولم يدع لأمته خيراً إلا دلهم عليه وأمرهم به ولا شراً إلا بينه وحذرهم منه وعلى هذا فليس من حقنا ونحن نؤمن به إماماً متبوعاً أن نتقدم بين يديه بالاحتفال بمولده أو بمبعثه، والاحتفال يعني الفرح والسرور وإظهار التعظيم وكل هذا من العبادات المقربة إلى الله، فلا يجوز أن نشرع من العبادات إلا ما شرعه الله ورسوله وعليه فالاحتفال به يعتبر من البدعة».