- الحلقة الأولى- تقنيــــة عـــين الطائـــر في الرؤية الاستشرافية للإمــــام المغيلـــي

أستاذ دكتور أحمد.حمد حميدي النعيمي جامعة البلقاء - الأردن

 

اختلف الباحثون والمؤرخون حول تاريخ ميلاد الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي وإن كانت جمهرتهم قد مالت إلى أنه ولد عام 831 للهجرة الموافق لعام 1427 للميلاد، غير أنهم جميعاً اتفقوا على أنّ وفاته كانت في عام 909 للهجرة الموافق لعام 1503 للميلاد، فهذا باحث يقول: ولد المغيلي في مدينة مغيلة التابعة لبلدية ودائرة مغيلة، ولاية تيارت حالياً سنة 831 هـ الموافق لسنة 1427م، وهذا آخر يقول: يرجح أن يكون مولده سنة 820 هجرية، ومن الباحثين من وثق سنة ولادة المغيلي وسنة وفاته في عنوان دراسته مفترضاً أنّ سنة الولادة لا خلاف عليها، أو متفقاً مع أغلب الباحثين؛ لذلك نجد إحدى الباحثات تعنون دراستها على هذا النحو : الشيخ المصلح عبد الكريم المغيلي 831-909هـ / 1427 - 1503م.



وهذا باحث آخر يذهب إلى أن الشيخ المغيلي ولد في مدينة مغيلة بتلمسان عام 831هـ، أما عن سنة الوفاة، فيتفق عليها جمهرة الباحثين، فعلى سبيل المثال هذا الأستاذ الدكتور أحمد جعفري يقول: يعتبر الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم المغيلي (909هـ) واحداً من أبرز الشخصيات خلال القرن العاشر الهجري؛ وذلك لما عُرف عنه من ثورة فكرية، وإصلاحية امتد صداها على طول الساحل الإفريقي ليصل أدغال إفريقيا، مروراً بمنطقة توات التاريخية محل إقامته النهائية، ومثواه الأخير، ولم أعثر على أي مصدر أو مرجع يخالف سنة الوفاة هذه، ممّا يؤكد على أنّ ثمّة إجماع بين الباحثين على أنّ الإمام المغيلي توفي سنة 909هـ.
مــــا هــــي عــــين الــــطــــائــــر ؟
ولمـــــاذا عـــــين الــــطــــائـــــر ؟
العين هي مجرى البصر، وكلما نظرت للأشياء من علو وارتفاع كان مدى الرؤية أوسع، وأعمق، وأكثر شمولاً واستكشافاً للأشياء المرئية، والأشياء المتوقع رؤيتها؛ وربما لهذا السبب قلد الإنسان الطائر، فاخترع الطائرة، والمركبة الفضائية، وغزا الكون مستكشفاً، وباحثاً عن اليقين.
وربما ليس صدفة أن يسمي الخليل بن أحمد الفراهيدي معجمه “العين” نسبة لأول حرف فيه، فالعين حرف وبصر، وربما ليس صدفة أيضاً أن يكون “العين” أول معجم شامل وصل إلينا، وقد يكون من الجدير بالذكر أن الفراهيدي رأى في بعض الحروف أصواتاً محاكية للطبيعة”.
أما عين الطائر، فتلك التي ترصد الأشياء من علو شاهق، وتعاين المكان ومدى ملاءمته لها ولحاجاتها، وأما لماذا عين الطائر؛ فلأنها يقظةً، لَمَاحَةً، قادرة على الانتقاء والاصطفاء؛ والطيور أنواع، فما بالك إذا كانت العين عين نسر أو صقر، كما هو حال الإمام المغيلي رحمه الله ؟! لا شك ساعتئذ أنها عين ترصد وترى فتحلل ما تراه وترجي النصائح، وتمنح المعارف.
عــــــين الــــطــــائــــر في مــــنــــطـــق الإمــــام المــــغــــيــــلـــــي
نظر الإمام المغيلي إلى المعارف بعين الطائر المحلق عالياً، رائياً تفاصيل المكان، وحاجات زمانه، مدركاً أن العالم الحق بحاجة إلى شيء من كل شيء حتى وإن تخصص؛ لذلك نجده يبرع في علوم شتى، فهو الفقيه، ورجل الدين والسياسة، وهو العارف بالتاريخ والمنتمي إلى الجغرافيا الإسلامية على اتساعها، وهو الفطن العارف بما أحاق بأمته من مخاطر ماضية، ومخاطر حاضرة في زمانه ومخاطر متوقعة، وهو الأديب والشاعر والمنطقي، والمتمكن من علوم اللغة العربية بصرفها ونحوها وبلاغتها، وسائر تفرعاتها.
ولعلّ هذا ما دفع أحد الباحثين للقول: “برع الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي في علوم ذلك الزمان، فهو أصولي، وفقيه ومحدث، ومفسر، ومنطقي، ولغوي، وأديب وشاعر موهوب، وليس أفضل من تجسيد رؤية المغيلي في هذا الجانب سوى المغيلي نفسه، إذ يقول في رسالته إلى سلطان كانو:
مقام عقاب الطير في الجو والفلا
وأنشَطُ دِيْك في البيوتِ يَجُولُ
وما المُلْكُ إلا للعقابِ بِعَزْمِهِ
وللديك صوت في الدجاج يصول.
هكذا نجد المغيلي مهتماً بصورة العقاب والعقاب ليس سوى طائر كبير الجناحين استهوى الشعراء منذ القدم، نظراً لتحليقه المتميز، ووقفته التي تتسم بالكبرياء ونظرته الثاقبة؛ ولأنه يمتلك جناحين يفوقان حجم جسده بكثير، فقد استخدمه المتنبي كرمز للشموخ وشبه سيف الدولة به، من خلال استعارة تمثيلية متقنة الصياغة، وبناء فريد للصورة الشعرية، وفي ذلك يقول المتنبي واصفاً سيف الدولة الحمداني:
يهز الجيش حولك جانبيه *** كما نفضت جناحيها العقاب
هنا يستخدم المتنبي صورة طيور العقاب (وتجمع على عقبان) لوصف سيف الدولة وهو واقف في قلب جيشه يستعد لبدء المعركة، بحيث يبدو سيف الدولة كما لو كان جسداً صغيراً محاطاً بجناحين كبيرين، يقصد بهما المتنبي ميمنة الجيش وميسرته. إنه مشهد مهيب مناسب لفيلم سينمائي مؤثر، فيما لو التقط مخرج بارع صورة لعقاب يفرد جناحيه معتلياً جبلاً أو محلقاً في السماء، ثم ينتقل بالكاميرا فوراً لسيف الدولة وهو يتوسط جيشه.
غير أن الإمام المغيلي استخدم العقاب الصورة مغايرة عن تلك التي استخدمها المتنبي، على الرغم من أنهما التقيا في الهدف، فنقيض العقاب عند المغيلي، هو الديك؛ ذلك الطائر الذي لا يملك القدرة على الطيران، فالديك مجرد طائر بالاسم فقط ومجرد ظاهرة صوتية لا قيمة لها أيضاً، حاله كحال الإنسان العاجز، أو حال السلطان الفاشل في أن يسوس رعيته كما يجب للرعية أن تساس.
لقد أبدع المغيلي في رسالته إلى سلطان كانو إبداعاً قل نظيره، فلا مجاملة في هذه الرسالة، ولا هي برسالة مديح أو ذم، وليس فيها أي مطلب شخصي، بل هي بمثابة برنامج نهضة، وبرنامج عمل يتوجب على السلطان الناجح اتباعه، والسير على هديه، ابتداء من مظهر السلطان واتزانه وهيبته، مروراً بأوامره ونواهيه، ومراقبته لوزرائه وعماله، وعدم احتجابه عن رعيته وهو ما يفسر رأي المغيلي الواضح بأن أساس كل بلية احتجاب السلطان عن الرعية، وهي الجملة التي أعادها مراراً وتكراراً في رسالته القوية والمؤثرة.
المـــغـــيـــلـــي والمـــســـألـــة الـــيـــهـــــــــوديــــة
لم ينطلق المغيلي في اختلافه مع اليهود من باب عنصري، أو تعصب ديني، ففي الحقيقة هو اختلاف تطور إلى خصومة، وخصومة تطورت إلى عداوة، وعداوة تطورت إلى حرب بين الطرفين، فأوجعهم وأوجعوه أوجعهم في حربه الضروس معهم، وإصراره على أن يرتدعوا، وأوجعوه حين اغتالوا ابنه أثناء سفره حاجاً إلى بيت الله الحرام.
ولقد كان للصدام بين المغيلي واليهود مسوغاته في ذلك الزمان على أنه يجب الانتباه إلى أن الإمام لم يحارب اليهودية بوصفها ديانة، ولم يحارب اليهود بهدف دفعهم ليتحولوا إلى الإسلام، ولكنه حارب طائفة أو رهطاً منهم؛ لأسباب اقتصادية واجتماعية رآها تلحق الضرر بشعبه وبلاده وأمته، ورأى بأنه لا يمكنه السكوت عن تجاوزاتهم الكثيرة والمتكررة.
والحقيقة أيضاً، أنه لم يكن ثمة إجماع بين العلماء المسلمين الذين عاصروا الإمام المغيلي على محاربة تلك المجموعة اليهودية بأسلوب يفضي إلى الصدام الذي لا يحتمل العودة عنه، فكان للإمام أسلوبه، وكان للآخرين أساليبهم، غير أنهم جميعاً اتفقوا على أن ثمة ضرراً لا يمكن السكوت عنه تسببت به تلك المجموعة من اليهود.
على أني في تتبعي سيرة ومسيرة الإمام المغيلي، وجدته إنساني الرؤية، إسلامي النزعة والمعتقد، ولم يحارب اليهود؛ لأنهم يهوداً، فهو عالم مسلم يُدرك أن الإسلام دين إنساني في السلم والحرب نستذكر هنا وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم للمقاتلين قبل توجههم للقاء أعدائهم، فهي وصايا سبقت ما يسمونه اليوم باحترام قواعد الاشتباك، ويدرك الإمام المغيلي أيضاً بأن اليهود أهل كتاب، ولأهل الكتاب في الإسلام قواعد خاصة في التعامل معهم، يعرفها الإمام المغيلي حق المعرفة.
وعلى الرغم من أن الإمام المغيلي وجد طائفة يهودية طاغية بمالها وثرائها الفاحش الذي اكتسبته بالطرق غير الشرعية كالربا والاحتيال، فإن عدداً لا يستهان به من علماء ذلك الزمان خالفوا الإمام المغيلي في موقفه من تلك المجموعة اليهودية، ومنهم الشيخ ابن زكري، والفقيه عبد الله العضوني قاضي توات واعتبروه عنصرية، وضرباً من ضروب الجاهلية نهى عنها الإسلام الذي دعا إلى التسامح والأمن وإن اختلفت الأديان، وقد خالف هؤلاء العلماء الإمام المغيلي على الرغم من دوره الكبير في ظهور الحركات الجهادية في غرب إفريقيا”.
ومثل هذا الخلاف والاختلاف في زوايا النظر إن دل على شيء، إنما يدل على أن العلماء المسلمين كانوا ينطلقون من قناعاتهم، وفهمهم لأمور دينهم ودنياهم، وكانوا يتفقون ويختلفون ويتحاورون وينتقدون بعضهم في سياق حركة علمية ومعرفية واجتهادية، تستحق التأمل والدرس.
الحــــاكــــم والـــعـــالم هـــرم بـــرأســــــين
بات معلوماً بأن الإمام المغيلي نشأ بين أحضان عائلته المعروفة بالعلم والتقوى والتصوف، وبفضل الاتصال والاحتكاك الذي وقع للإمام المغيلي مع مُجْمَل من التقى بهم من ملوك وأمراء إفريقيا توسعت رقعة الإسلام، وصححت الكثير من المفاهيم، والأفكار المغلوطة التي ظلت معششة لفترة طويلة من الزمن في أذهان كثير من الأفارقة حكاماً ومحكومين.
لم ينظر الإمام المغيلي إلى العالم على أنه ظل للحاكم، أو تابع له، أو مجرد منفذ لأوامره ونواهيه، بل رأى في العالم الحق موجهاً وناصحاً للسلطان، وإذا كان دور السلطان أن يدير البلاد والعباد، فإن دور العالم أن يراقب هذه الإدارة، ويقدم النصيحة للسلطان كلما شعر أنه بحاجتها.
وعلى الرغم من أن للهرم رأساً واحداً، فإن المغيلى رأى هذا الهرم برأسين رأس يدير، ورأس يوجه، وبهذا لم يكن الإمام المغيلي ينظر لدور العلم والعلماء على أنه مجرد تنظير، أو حبر على ورق، ولكنه رأى في هذا الدور دوراً فاعلاً يؤدي وظيفة لا تقل أهمية عن وظيفة السلطان نفسه، ولسان حاله يقول: صحيح أن الحاكم القوي الصارم ضرورة حاسمة للدولة، لكن النواحي المعرفية والمعنوية بيد العلماء، وهي ضرورة لا تقل أهمية عن ضرورة وظيفة الحاكم.
وقد كانت رسالة الإمام المغيلى السلطان كانو أو (كنو) خير تجسيد لتلك العلاقة بين الحاكم والعالم كما رآها المغيلي؛ ذلك أنها رسالة عميقة في مغزاها ومحتواها، عبقرية في مضامينها، وصياغتها، وأسلوبها، وتسلسلها المنطقي.
ويَحْسُنُ بنا أن نقف عند هذه الرسالة نظراً لأهميتها المعرفية من جهة، وأهميتها التاريخية من جهة أخرى، حيث تقع هذه الرسالة في مقدمة مختصرة، وثمانية أبواب، جاء الباب الأول منها بعنوان: فيما يجب على الأمير من حسن النية، وفي هذا الباب يقول الإمام المغيلي للسلطان: ما ولاك الله عليهم لتكون سيدهم ومولاهم، وإنما ولاك عليهم لتصلح لهم دينهم ودنياهم.
أما الباب الثاني، فجاء تحت عنوان فيما يجب على الأمير من حسن النية، وفيه يطلب الإمام المغيلي من السلطان عدم التزين بذهب ولا فضة ولا حرير، إذ لا ينبغي للسلطان أو الأمير أن يجعل من نفسه عبد ثوب، ولا حصان، ولا عبد فسطاط ولا مكان، بينما يأتي الباب الثالث تحت عنوان: فيما يجب على الأمير من ترتيب مملكته، وفيه يرى المغيلي بأن الإمارة سياسة في ثوب رياسة، فعلى كل أمير أن يرتب نظام مملكته لسكونه وحركته، ويشرح المغيلي بعض هذه الترتيبات في الباب الرابع الذي جاء بعنوان: فيما يجب على الأمير من الحذر في الحضر والسفر، حيث يقول للسلطان: “وليس وقت الخوف كوقت الأمان، واكتم سرك عن غيرك حتى تتمكن من أمرك”.
ويأتي الباب الخامس بعنوان: فيما يجب على الأمير من كشف الأمور، وفيه يطلب الإمام المغيلي من السلطان أن ينتبه لرجاله، ويحرص على عدم وقوعهم بالرشوة حتى لو كانت تحت مسمى هدية، فكم حولت الهدية من ناسك لليهودية والنصرانية، أما الباب السادس فيأتي بعنوان: فيما يجب على الحكام من العدل في الأحكام السلطانية، وفي هذا الباب يرى الإمام المغيلي بأن السلطنة رجلان: العدل والإحسان.
أما الباب السابع، فجاء بعنوان في مجبي الأموال من وجوه الحلال، وفيه يُحذر الإمام المغيلي السلطان من إرهاق الناس بالمكوس، فيقول له : ومن الظلم أيضاً : المكس، وهو حرام بإجماع، بينما يأتي الباب الثامن - وهو الباب الأخير في هذه الرسالة - بعنوان في مصارف أموال الله، وفيه يرى الإمام المغيلي بأن الكرم دوام الملك، والبخل والتبذير خرابه، وقد حرص الإمام المغيلي أن يقول في نهاية كل باب من الأبواب ورأس كل بلية احتجاب السلطان عن الرعية، وقد استثنى الباب الثامن من هذه المقولة، حيث ختمه، وختم الرسالة بالصلاة على النبي.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19745

العدد 19745

الجمعة 11 أفريل 2025
العدد 19744

العدد 19744

الخميس 10 أفريل 2025
العدد 19743

العدد 19743

الثلاثاء 08 أفريل 2025
العدد 19742

العدد 19742

الإثنين 07 أفريل 2025