التربية، التكوين والبحث العلمي

مخلـفـات الصـراع ورهـانات المستقبـل

بقلم: د. محمد العربي ولد خليفة

الحلقة 1

ليس في النية في هذه السطور تقييم حصيلة قطاع استراتيجي والجزائر تحتفي بخمسينية استعادة السيادة وانطلاق المشروع الوطني لبناء ما دمره الاحتلال خلال 132 سنة، ولكن قد يكون من المفيد التذكير بأن إحصاءات ديوان الحاكم العام الفرنسي سنة 1960 حسبما ذكره المؤرخ أجرون(ch. Ageron)، هي 87% من الأميين الذكور و93 %  من الأميات النساء ولمواجهة هذه الوضعية الكارثية وضع الساسة والمعنيون بالتخطيط والتدبير والتيسير منذ البداية قطاع التربية على رأس قائمة الأولويات الوطنية، فقد قررت الدولة مجانية التعليم والسعي لنشره في المدن والأرياف وتوسيع تعليم البنات في كل أنحاء القطر، وهو أمر سيكون له على المدى البعيد تأثير إيجابي على تطور المجتمع وتسريع حراكه الثقافي والسياسي، فالمرأة المتعلمة تمسك بأحد مفاتيح المواطنة الفاعلة.

إنجازات في ديمقراطية التعليم

ولا شك أن من أهم الإنجازات التي تحققت خلال نصف القرن الماضي هو ديموقراطية التربية والتعليم في كل أنحاء القطر، وقد بقي هذا التوجه ثابتا حتى أثناء شح موارد الدولة في بداية الستينيات من القرن الماضي وفي منتصف الثمانينيات، ولم تتخل عنه كل القيادات التي تولت مختلف المسؤوليات العليا في هرم الدولة، ولا ينفي ذلك وجود «رغبات» للانتقاء الطبقي لم تتمكن لحد الآن من تغيير التوجه العام لديمقراطية التعليم لعدة أسباب نذكر منها:
مرجعية البيان المؤسس لثورة نوفمبر 1954 الذي أعلن أن أحد الأهداف الكبرى للثورة هو بناء دولة ديموقراطية اجتماعية، والمطلب الأخير يعني تساوي الفرص بين جميع المواطنين، بل ومساعدة الأقل حظوظا من الفئات الفقيرة أو المعزولة جغرافيا على دخول السباق والاستفادة من التعليم والتكوين في كل المستويات من المدرسة إلى الجامعة.
بطء الظهور العلني للتمايز الطبقي بين فئات المجتمع لأسباب تاريخية وثقافية، فمن المعروف أن قسما من طبقة الأعيان القديمة كان رديفا طوعا أو كرها لإدارة الاحتلال، ولا ننسى أن البعض من تلك الطبقة قدم دعما بأشكال مختلفة لجيش وجبهة التحرير الوطني أثناء فترة الكفاح المسلّح، وقد تركت تلك الوضعية نظرة سلبية وخاصة لدى شرائح من الجيل الذي عانى من ويلات جيوش الاحتلال وأعوانه من الأعيان، فضلا عن المرتزقة من الحركة
    •    يقترن التمايز الطبقي بسياسات الدولة واختياراتها الايديولوجية وهو ما لم يكن ممكنا قبل 1962 حيث كان المجتمع الجزائري ينقسم من جهة إلى أقلية من المستوطنين الأوروبيين يتمتعون بحقوق المواطنة وبالسلطة والثروة على الرغم من وجود نفس الطبقية الممثلة من العمال والفقراء في مجتمعهم الأصلي (فرنسا)، وأغلبية من جهة أخرى معظمهم يعيش على الحد الأدنى من الكفاف ممن يسمون الأهالي قد يحصل بعضهم على مرتبة قريبة من الأقلية الأروبية بشروط منها الإقتراب من ثقافة وأسلوب حياة تلك الأقلية وخدمتها.
غير أن التصنيف الطبقي قد لا يعود إلى الثروة، فهناك النسب والانتماء إلى السلالة الشريفة (إمبراضن) أو شبكة الزوايا المنتشرة في كل أنحاء القطر ويحظى شيوخها والمنتسبون إلى هياكلها بالتقدير والاحترام لأسباب روحية دينية، ولما تقدمه من خدمات لمحيطها وخاصة الفقراء من الناس، باستثناء العميلة لإدارة الاحتلال، وذلك حتى نصف القرن الماضي، في مقابل زوايا أخرى كانت معاقل للمقاومة والثورة نذكر منها على سبيل المثال الطريقة الرحمانية.
يتساكن في مدن الجزائر منذ عدة عقود تجاور وتداخل بين الطبقات أشبه بما يسمى الخلطة في الولايات المتحدة Multing pot بغض النظر عن الدخل والمهنة، والملاحظ أن للتداخل أسباب تاريخية ترجع إلى الهجرة أثناء حرب التحرير وقد تزايدت تلك الخلطة أثناء تسعينات القرن الماضي وضاعفت من تجمع عائلات من نفس المنطقة حيث يتجاور في نفس العمارة السكنية سائق الحافلة مع مدير في إحدى الادارات وأستاذ في الجامعة إلخ.
غير أن بداية الترخيص بفتح المدارس الخاصة يؤذن ببداية محتشمة لظهور نمطين من التعليم أحدهما للخاصة والآخر للعامة، وقد يصل إلى الجامعات والمعاهد العليا في التعليم العالي عن طريق الشراكة أو على نمط الجامعات الأمريكية في مصر ولبنان والصربون في بعض بلدان الخليج.
قد تتخفى دوافع أخرى وراء نقد نظام التربية والتكوين وخاصة بعد اعتماد المدرسة الأساسية وإلزامية التعليم حتى 16 سنة من عمر الأطفال من بين تلك الدوافع:
6-1- تعلّق نسبة ضئيلة من المتعلمين في نظام المدرسة الكولونيالية الإقصائي للأندجين والحنين إلى مناهجها المتفوقة فعلا بحكم تراكم التجربة التربوية وخاصة بعد توجيهات ما يعرف بمدرسة جول فيري اللائكية المعتمدة منذ 1905، بينما بقي التعليم الأهلي على صورته القديمة في المساجد والزوايا حتى ثلاثينيات القرن الماضي عندما أدخلت عليه مدرسة جمعية العلماء وحزب الشعب بعض التحسينات على الرغم من التضييق السياسي والإداري.
6-2- رغبة فئات من الأجيال السابقة والتي خلفتها في تثمين الفرنسية لغة وثقافة، ومن المعروف أنه لا وجود للغة بدون ثقافة ولا لثقافة بدون لغة وإلا بقيت شفوية ومعرضة للإندثار، فهي تعكس تطورها في مختلف المراحل التاريخية، فقد بقيت في ذهن ووجدان الجزائريين صورة المتفوق والقوي وحداثته وفنّ الحياة عنده مقارنة بحال بلادهم التي ترزح تحت أثقال التخلف الموروث من عدة قرون، تخلف زاده الاحتلال عمقا وانتشارا بالتفقير والتجهيل وتدمير الهياكل التقليدية للجزائر بعد بضعة عقود من الاحتلال .
6 -3- انعكست تلك المقارنة على النظرة إلى المدرسة التي ابتعدت في مضامينها وبعض هياكلها عن النموذج الفرنسي وأخذ النقد أحيانا صبغة ايديولوجية يلتقي فيها اليسار الموصوف بالتقدمي واليمين في صورته الكمبرادورية والتكنوقراطية وأجنحة من التيارات الوطنية والإسلامية التي تنادي بالتأصيل أو مقاومة التغريب بدون مشروع يبتكر المستقبل ويتدارك الفجوة المهولة بإرادة مشتركة بين الساسة والنخبة لإعادة تأسيس الحداثة والتقدم.

عمق صراع في مقترحات الإصلاح
وقد تبين عمق الصراع بين تلك الأجنحة سواء في التوزيع السياسي الأيديولوجي لأعضاء ما عرف بلجنة بن زاغو في بداية العقد الماضي أو في مقترحات لإصلاح التعليم كما ظهرت في نهاية السبعينيات بعد أن عين المرحوم مصطفى الأشرف وزيرا للتربية وشرع في إعادة النظر في توجهات المدرسة الاساسية وإبعاد من يدعمها، وفي مقدمتهم السياسي والمثقف الأستاذ عبد الحميد مهري.
أضيف إلى عوامل الصراع السابقة وخاصة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي المطلب الأمازيغي في المدرسة وتعميم تدريسها في مدارس الجزائر في أسرع وقت وتوفير ما يساعد على العناية بتراثها وإحياء ثقافته، وهي كلها تدخل ضمن مطلب شرعي لا يخص منطقة بعينها، فالأمازيغية من تراث كل الجزائريين وليست عرقا أو سلالة أو عنصرا فارقا بين المواطنين، ويمكن بعد توحيد لهجاتها والاتفاق على الحروف التي تكتب بها وترقيتها في مختلف الفنون والعلوم وإثراء قاموسها اللساني الموحّد، أن تكون مثل العربية لغة وتراثا جامعا وليس حجة وسندا للغة أخرى مهمة بحكم تاريخ يمتد إلى 132 سنة أو مجرد ذريعة لإضعاف العربية والأمازيغية، وهو ما كان موضوع حوارات مع المرحوم محمد ايدير آيت عمران عندما كان على رأس المحافظة السامية للأمازيغية، ونعرف بحكم التجربة في مواقع مختلفة في الجامعة وفي الحكومة كمكلف بالتعليم الثانوي والتقني وفي المجلس الأعلى للغة العربية، نعرف ما تعانيه العربية لتكون لغة تواصل وعمل من مصاعب وما تتطلبه من جهود وعناية من الدولة للحاق بركب التقدم في العلوم والفنون والآداب، وهي تبقى على أي حال لغة جامعة وقطبا أساسيا في هوية الأغلبية من الجزائريين.
ويتساؤل الكثيرون بدوافع مختلفة المدرسة الجزائرية إلى أين؟ ماهي المعايير التي نقيّم بها أداءها؟ وكيف نبني حوارا مستمرا بين الشركاء في نظام التربية والتكوين العالي يضمن الحقوق ويؤكد الواجبات ويقلّل من الصراعات لأسباب مشروعة أو مفتعلة في مجتمع يشهد تحولات متسارعة بعد ما يزيد على نصف قرن من الاستقلال، يظهر الصراع خاصة في مسألة الهوية والبحث عن النموذج وغموض المعالم والمرجعيات والتباعد بين الأجيال؟ وما هي خريطة الطريق لتجديد منظورنا لنظام التربية والتكوين العالي، منظور يكون وفيا لتجربة شعبنا التاريخية ويساهم في نفس الوقت في تقدم المجتمع وبناء حداثته أي مستقبله.
«يتبــــع»

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024