أعماله ما تزال مصدر إلهام لفهم العلاقة العميقة بين الفكر والفن..

جورج لوكاتش.. جدلية الفكـر والثورة والواقعيــة

كتب: سليمان.ج

إن سبر أغوار فكر جورج لوكاتش، أحد أعمق وأكثر المفكرين الماركسيين إثارة للجدل في القرن العشرين، لا يمكن أن يتم بمعزل عن استيعاب مفهوم “الجدلية”. فالجدلية لديه ليست مجرد أداة تحليلية تطبق على الظواهر الخارجية، بل هي جوهر متأصل في بنية فكره، وقوة محركة لكل تحوّلاته وتطوراته النظرية.


يقدم نيكولا تيرتوليان “تطور فكر جورج لوكاتش”، في في مقال نقدي متميز نشره بمجلة “الإنسان والمجتمع”، وتوصل فيه إلى رؤية معمقة لهذه الجدلية، فـ«تيرتوليان” تجاوز السرد التاريخي لوقائع فكر لوكاتش إلى تحليل التناقضات الداخلية التي عاشها المفكر، والحوارات النقدية الجدلية التي خاضها مع معاصريه، والتفاعل المستمر بين النظرية والممارسة، وكلها عناصر صقلت فكر لوكاتش من بداياته المتجذرة في الماركسية الأرثوذكسية إلى صياغاته المعقدة والمؤثرة للواقعية الجمالية.

جدلية القطيعة الفكرية  والتأسيس النظري

تبدأ قصة جدلية لوكاتش الفكرية بوضوح في طرحه لمفهوم “الوعي الطبقي” ضمن تحفته الفكرية “تاريخ ووعي طبقي” (Histoire et conscience de classe) الصادر عام 1923، وتحديداً في مقاله الافتتاحي “ما هي الماركسية الأرثوذكسية؟”. هذه الأطروحة، التي يصفها تيرتوليان بأنها “مذكرة بعمق، وكاشفة بعمق لكل توجه المفكر الذي سيصبح الشخصية الأبرز في الثقافة الماركسية المعاصرة”، لم تكن مجرد رد أكاديمي هادئ على الجدل الدائر حول الماركسية.
بل كانت بمثابة قطيعة جدلية حاسمة مع التفسيرات الميكانيكية والاقتصادية الحتمية التي هيمنت على الأممية الثانية، محاولاً إعادة تأسيس الماركسية كمنهج ثوري يعتمد على جدلية الوعي والوجود، والذات والموضوع، وكشف “الكلية” الاجتماعية والتاريخية.
لقد سعى لوكاتش إلى إبراز الجوهر الثوري للماركسية من خلال مفهوم “الكلية” (Totalité)؛ فالعلاقات الاجتماعية ليست مجرد مجموع أجزاء منعزلة يمكن دراستها بمعزل عن بعضها، بل تتشابك وتتفاعل في كلية جدلية متغيرة وديناميكية. رفض لوكاتش القاطع للاختزالية الاقتصادية وتأكيده على الدور الأساسي للوعي الطبقي (الذي يدرك هذه الكلية ويساهم في تشكيلها) في الممارسة الثورية هو ما وضعه في موقع جدلي حاد مع التيار السائد حينها - على حد تعبير تيرتوليان - فقد “صاغ لوكاتش، في سياق جدالات حادة حول التحديد الحقيقي للماركسية الأرثوذكسية، نظرية الثورة ككلية في لحظة تاريخية محددة”، وهذا يشير إلى أن فكره لم يتشكل بمعزل عن الصراع النظري والسياسي، بل كان نتاجًا أصيلًا لهذه المواجهات الفكرية المحتدمة. ما يعني أن الجدلية هنا لا تنحصر في المفهوم النظري فحسب، بل تمتد إلى فهم أن النظرية لا تكتمل ولا تكتسب فعاليتها إلا بالممارسة، وأن الوعي ليس انعكاساً سلبياً بل قوّة فاعلة ومحركة في تحويل الواقع، وأن هذه العلاقة بين الوعي والممارسة هي ذاتها علاقة جدلية متطوّرة.

جدلية الجوهر والمظهر في مواجهة التجريد الفني

تتجلى الجدلية في فكر لوكاتش بأعمق صورها في معالجته لمفهوم “الواقعية”. لم تكن الواقعية بالنسبة له مجرد أسلوب فني بسيط أو تفضيل شخصي، بل كانت ضرورة فلسفية وجمالية تهدف إلى كشف الجوهر المتناقض للواقع الاجتماعي.
ويبرز تيرتوليان هذه الاستمرارية الجدلية في فكر لوكاتش، حتى في خضم خلافاته المعروفة التي قد تبدو ظاهريًا تفاصيل جانبية: “ليست هنا دقة، نسبية أو مطلقة، لموقف لوكاتش في خلافه مع بريشت هي المهمة. الأهم هو استمرارية وولاء لوكاتش لموقفه الأساسي بشأن مشكلة الواقعية، منذ كتاباته في العقد الثالث إلى العقد الرابع من القرن العشرين، وحتى جمالياته الكبرى”.. هذا يؤكد أن جوهر فكر لوكاتش يكمن في ثباته الجدلي على رؤية الواقعية كمنهج للكشف عن “الكلية” المتناقضة.
لم يكن الخلاف الشهير مع برتولت بريشت حول الواقعية مجرد تباين في الأذواق أو الأساليب الفنية، بل كان جدلاً جوهريًا حول كيفية تمثيل الواقع فنياً ودور الفن في المجتمع. فبينما مال بريشت نحو “اغتراب” الواقع وكسر الإيهام لتعزيز الوعي النقدي لدى المتلقي، أصرّ لوكاتش على أن الواقعية الحقيقية ليست مجرد تصوير فوتوغرافي سطحي للظواهر. بل هي القدرة على اختراق المظهر الخارجي والتقاط “الأنماط” (Types) الكلية التي تجسد جوهر العلاقات الاجتماعية والتاريخية المتناقضة، وتكشف عن القوى المحركة للتاريخ. هذه الأنماط، رغم فرديتها وتميزها، تحمل في طياتها الطابع الكلي للظواهر الاجتماعية.
يرى لوكاتش أن هذه المقدرة الفنية على تجسيد الجدلية الموضوعية للواقع هي ما يميز الأعمال الفنية العظيمة، والتي تثير وعي المتلقي وتحفزه على التفكير النقدي، بدلاً من تفتيت وعيه أو تغريبه عن الواقع كما يرى في بعض الأشكال الحداثية. الجدلية هنا ليست ثابتة، بل هي في فهم كيفية تشكل الجوهر من خلال التفاعل الدائم مع المظهر، وكيف يعكس الفن التناقضات الكامنة في البنية الاجتماعية ويعيد إنتاجها في شكل جمالي ديناميكي، مما يدفع المتلقي إلى التفكير والتغيير.

النقد الأدبي والتاريخ الفكري..

لقد طبق لوكاتش رؤيته الجدلية هذه في نقده الأدبي وتحليله لتاريخ الفكر، مظهرًا التفاعل المعقد بين الأشكال الفنية والبنى الفكرية للمجتمع. ويؤكد تيرتوليان أن “التحليل الأدبي وتحليل التيارات الفكرية الكبرى في العالم الحديث كانا دائمًا مترابطين بشكل وثيق لدى جورج لوكاتش”، وهذه ليست مجرد ملاحظة وصفية، بل هي إشارة إلى منهج جدلي عميق يقوم على رؤية الأدب والفلسفة كجزء لا يتجزأ من التطور الاجتماعي الأوسع، لا يمكن فهم أحدهما بمعزل عن الآخر، بل في تفاعلهما المستمر.
في أعمال لوكاتش مثل “بلزاك والواقعية الفرنسية” أو “الواقعية الروسية في الأدب العالمي”، لم يحلل لوكاتش النصوص الأدبية بمعزل عن سياقها التاريخي والاجتماعي. بل وضعها في سياقها التاريخي والفلسفي، مبرزًا كيف يعكس الأدب تناقضات عصره الكبرى وكيف يساهم في تشكيل الوعي الفردي والجماعي. فمثلاً، في كتابه “نقد تدمير العقل” (Destruction de la raison)، الذي يصفه تيرتوليان بأنه “دراسة نقدية واسعة” (Vaste Critique)، تتبع لوكاتش جدلية تدهور الفلسفة الألمانية من هيغل إلى نيتشه وهيدغر، رابطاً هذا التدهور بظهور الفاشية. هذا يبرز قدرته على رؤية الأفكار والظواهر الفنية لا ككيانات معزولة أو مجردة، بل كأجزاء من كلية جدلية أكبر تتفاعل وتتصارع وتؤثر في تشكيل الواقع التاريخي.. الجدلية هنا تكمن في فهم كيف تتطور الأفكار الفلسفية والأشكال الفنية عبر تناقضاتها الداخلية وتفاعلها مع الواقع المادي، وكيف يمكن لها أن تقود إلى التقدم أو إلى الانحطاط، مؤكداً أن الفن الأصيل هو الذي يستوعب هذه الجدلية ويجسدها بحس مرهف، ليصبح مرآة لجدلية الوعي البشري في مواجهة التطورات التاريخية.

الجماليات الكبرى.. تتويج جدلية الوعي الجمالي

تُوجت مسيرة لوكاتش الفكرية الطويلة بتأليفه “الجماليات الكبرى” (Aesthetik)، والتي تمثل محاولة طموحة لبناء نظرية جمالية ماركسية شاملة، تتجاوز حدود الجماليات التقليدية لتؤسس لجمالية جدلية. في هذا العمل، سبر لوكاتش أعماق الوجود الجمالي للفن، محاولاً فهمه ككلية جدلية، أي كشكل فريد من أشكال المعرفة البشرية التي تعكس الواقع بشكل مختلف عن المعرفة العلمية أو الفلسفية المجردة. تتجلى الجدلية هنا في محاولته التوفيق بين ذاتية التجربة الجمالية (المتلقي والفنان) وموضوعية الواقع الاجتماعي، وفي رؤيته للفن كعملية جدلية تتجاوز الممارسة اليومية لترتقي إلى مستوى “الوعي المسبق” (Vorform) الذي يعد الفرد لإدراك الواقع بوعي أعمق وأكثر شمولية، مما يمهد لفعالية ثورية.
لقد سعى لوكاتش في “الجماليات الكبرى” إلى تقديم نموذج جدلي للفن يتجاوز الجمود والتبسيط، ويربط بين التجربة الفردية والبنى الاجتماعية، وبين الإدراك الحسي والفهم المفاهيمي. هو بذلك لا يقدم مجرد وصف للفن، بل تحليلًا لآليات عمله الجدلية كشكل من أشكال الوعي البشري الذي يساهم في فهم وتحويل الواقع، مؤكداً أن الفن الأصيل هو الذي يستوعب هذه الجدلية ويجسدها. هذه الجماليات هي تتويج لمسيرة فكرية جدلية، تهدف إلى وضع الفن في قلب الوجود الإنساني كوعي جدلي للواقع، ووسيلة لتجسيد الصراع والتطور والتحول الجذري.

مفكر الجدلية الدائمـة والالتزام بالواقع

يؤكد تحليل نيكولا تيرتوليان أن جورج لوكاتش لم يكن مفكرًا يستقر على رأي جامد أو ثابت، بل كان فكره ديناميكيًا، يتطور باستمرار عبر الجدلية التي اعتنقها كمنهج حياة وفلسفة وجود.
لقد كانت الجدلية القوة الدافعة وراء نقده اللاذع للماركسية الأرثوذكسية الجامدة، وحواره العميق مع التيارات الفنية والفلسفية، وتحليله البصري للظواهر الأدبية والفكرية.. لوكاتش مفكر الكلية الذي رأى الواقع في تناقضاته الداخلية والخارجية المعقدة، ورأى الفن كمرآة عاكسة ومحركة لهذه التناقضات، وليس مجرد زينة له. كما يبرز تيرتوليان، فإن لوكاتش هو “الشخصية الأبرز في الثقافة الماركسية المعاصرة” ليس فقط لعمق أفكاره، بل لقدرته الفائقة على خوض الجدالات الفكرية الكبرى بشجاعة وثبات، وتطوير منهجه الجدلي في سعي دؤوب لفهم الواقع وتحويله.
إن أعمال لوكاتش، عبر منهجها الجدلي الثري، لا تزال تشكل مصدر إلهام لا غنى عنه لكل من يسعى إلى فهم العلاقة العميقة والمعقدة بين الفكر، الفن، والممارسة الثورية في أبعادها الأكثر تعقيدًا وإثارة، وتقديم قراءة جدلية للواقع في كل تجلياته.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19800

العدد 19800

الأربعاء 18 جوان 2025
العدد 19799

العدد 19799

الثلاثاء 17 جوان 2025
العدد 19798

العدد 19798

الإثنين 16 جوان 2025
العدد 19797

العدد 19797

الأحد 15 جوان 2025