يُعد كتاب “الرواية التجريبية” (Le Roman expérimental) لإميل زولا، الصادر عام 1880، بيانًا تأسيسيًا لا غنى عنه لفهم المدرسة الطبيعية في الأدب. فهو ليس مجرد مقال نظري، بل هو مخطط تفصيلي يهدف إلى الارتقاء بالرواية ويمنحها القدرة على الكشف عن قوانين السلوك البشري والمجتمع.. ولعلنا يمكن أن نصف الكتاب بأنه “دستور أدبي” يحدد منهجًا صارمًا للرواية.. إنه طموح زولا الجريء لإعادة تشكيل مفهوم الرواية من مجرد سرد قصصي إلى أداة تحليل علمي، تهدف إلى الكشف عن “القوانين” التي تحكم السلوك البشري وديناميات المجتمع، ذلك أن هذا العمل العميق يعكس رؤية زولا لـ«الأدب” الذي أراد له امتدادًا للمختبر العلمي، ومساحة لدراسة الإنسان ككائن يخضع لقوى حتمية..
يمثل كتاب إميل زولا نقطة تحول مفصلية، حيث يدعو الروائي إلى أن يكون ملاحظاً ومُجرِّباً في آن واحد، مستلهماً في ذلك المنهج التجريبي من العلوم الطبيعية، وتحديداً من أعمال الفيزيولوجي كلود برنارد.
الأسس الفلسفية والعلمية
تتجلى عبقرية زولا في قدرته على استيعاب المنهج العلمي وتطويعه لخدمة الفن الروائي. فهو ينطلق من رؤية كلود برنارد التي تفترض أن الملاحظة، مهما كانت دقيقة، لا تكفي وحدها للوصول إلى الحقيقة؛ بل يجب أن تتبعها “التجربة” التي تُمكننا من التحقق من الفرضيات وصياغة القوانين. لهذا ينقل المفهوم إلى الساحة الأدبية بوضوح لا لبس فيه، معلنًا أن: “الهدف هو أن نكون ملاحظين ومُجرّبين في آن واحد. فالملاحظ يضع الحقائق كما يراها، والمُجرّب يُحدثها ويُعدِّلها ليُبيّن كيف تتفاعل الكائنات الحية تحت تأثير الظروف”.. هذا المبدأ هو حجر الزاوية الذي تبنى عليه نظرية زولا. فالروائي عند الطبيعيين لا يعد مجرد ناسخ للواقع، بل هو مهندس لموقف يُفترض أن يكشف عن القوانين الكامنة وراء السلوك البشري، تمامًا كما يكشف العالم عن القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية.
وفي بنائه النظري، يُركز زولا على متغيرين أساسيين يراهما حاسمين في تشكيل الفرد وسلوكه، ويُعاملهما كعناصر أساسية في “تجربته” الروائية:
الوراثة (L’hérédité): يؤمن زولا بأن الشخصيات تحمل معها ميولًا وراثية كامنة، سواء كانت إيجابية أو سلبية، تتناقل عبر الأجيال. هذه الميول ليست قدرًا محتومًا بالضرورة، لكنها تُشكل نقطة الانطلاق لسلوك الفرد. يتأثر زولا بالنظريات العلمية المعاصرة حول الوراثة، حيث يرى أن سمات مثل الإدمان، العنف، أو حتى الموهبة، يمكن أن تكون متجذرة في التركيب البيولوجي للفرد.
البيئة (Le milieu): يُشدد زولا بشكل خاص على الدور الحاسم للبيئة في تحديد مصائر الشخصيات، فالبيئة، بكل مكوناتها المتنوّعة (الاجتماعية مثل الطبقة والتعليم، الاقتصادية مثل المهنة والفقر، والجغرافية مثل المدينة أو الريف)، ليست مجرد خلفية للأحداث، بل هي قوة فاعلة تُؤثر على الميول الوراثية وتُشكِّلها. وهي قادرة على إبراز هذه الميول أو قمعها، وتوجيه سلوك الأفراد في اتجاهات محدّدة. ولهذا يقول إن “البيئة تحدّد، في جزء كبير منها، تصرفات الفرد ومصيره”.
وعلى هذا، يقوم الروائي، بوضع شخصياته ذات الميول الوراثية المحددة، في “بيئات” مختلفة. ثم يُراقب “التجربة”، ويرى كيف تتفاعل الميول مع الظروف المحيطة بها، وكيف تتغير الشخصيات وتتطور استجابة لهذه التفاعلات.. طبعا، لا يكون الهدف إصدار أحكام أخلاقية، بل الغاية المثلى هي الفهم العلمي.. الغاية هي الـ«لماذا”؟.. وانطلاقا من معرفة أسباب تصرف الأفراد بالطريقة التي يتصرفون بها، إضافة إلى استيعاب تأثير العوامل البيولوجية والاجتماعية في تحديد المصائر. تنتهي “الرواية” إلى “تشريح” المجتمع، للكشف عن علله وأمراضه، على أمل أن يؤدي هذا التشريح إلى العلاج أو الإصلاح.
أداة التحليل الاجتماعي
لم يكن إميل زولا مجرد مُنظّر أدبي، بل كان ناشطًا اجتماعيًا وسياسيًا يسعى إلى استخدام الأدب كأداة للنهوض بالمجتمع. رؤيته للرواية التجريبية لم تكن تهدف فقط إلى الارتقاء بالفن، بل أيضًا إلى خدمة المجتمع من خلال تقديم “دراسات حالة” دقيقة ومفصّلة عن تأثير الوراثة والبيئة.
اعتقد زولا أن الرواية يمكن أن تُسهم في فهم المشكلات الاجتماعية المعقدة مثل الفقر، الجريمة، والإدمان، وبالتالي، ينبغي لها المساعدة في إيجاد حلول لها.. يقول زولا بوضوح: “نحن نهدف إلى أن نكون علماء الطبيعة في البشر”.
تتحوّل الرواية في منظور زولا إلى “تشريح” للمجتمع، تهدف إلى الكشف عن “القوانين” التي تحكم ظواهره. هذا المنظور يُبرّر لغة زولا الصريحة والمباشرة، وتناوله لمواضيع قد تُعتبر “تابوهات” في عصره. علما أن هدفه ليس الصدمة، بل الكشف عن الحقيقة المؤلمة لغرض الفهم والتحليل العميق، لا من باب اليأس، بل من باب القناعة بأن المعرفة هي الخطوة الأولى نحو التغيير.
المنهج العلمي.. بوصلة السرد..
يكمن جوهر فكرة زولا في استعارة المنهج التجريبي من العلوم الطبيعية، وخاصة من عمل الفيزيولوجي الرائد كلود برنارد في كتابه “مقدمة لدراسة الطب التجريبي”. ويرى زولا أن الروائي، مثله مثل العالم، يمر في أثناء عملية السّرد بسلسلة من الخطوات المنهجية الصارمة:
الملاحظة المنهجية (L’Observation méthodique): لا يكتفي زولا بمجرد الرؤية السطحية للعالم. بل يدعو الروائي إلى الغوص في الواقع، وجمع كم هائل من التفاصيل الدقيقة والموثوقة. هذه الملاحظة تتجاوز المظهر الخارجي لتصل إلى أعماق الظواهر الاجتماعية، العادات اليومية، التفاعلات البشرية، وحتى أدق تعابير الوجوه وحركات الأجساد.. إنها عملية تشبه جمع “البيانات” في البحث العلمي، حيث يُسجل الروائي، بموضوعية تامة، الحقائق كما هي، دون تحيز أو تدخل ذاتي. إنها الأساس الصلب الذي تُبنى عليه الفرضيات اللاحقة. ويصر زولا على أن: “الملاحظ هو الذي يثبت الحقائق كما هي، والذي يقدمها لنا عارية، دون أي تعديل أو ترتيب”.
الفرضية المفسرة (L’Hypothèse explicative): بعد جمع الملاحظات، يُشكل الروائي فرضية تفسيرية تربط بين الظواهر الملاحظة وسببها المحتمل. هذه الفرضية لا تكون مجرد تخمين، بل هي استنتاج مبني على أدلة الملاحظة. على سبيل المثال، قد يُلاحظ زولا نمطًا من السلوكيات العدوانية في بيئة معينة، ويُشكل فرضية حول علاقة ذلك بالفقر المدقع واليأس. هذه الفرضية هي الشرارة التي تُطلق العملية التجريبية.
التجربة الروائية (L’Expérience romanesque): هذه هي المرحلة الأكثر ابتكارًا وجرأة في نظرية زولا.. بعد صياغة الفرضية، يتحوّل الروائي إلى “مُجرِّب”. هو لا يكتفي بوصف ما يحدث، بل “يُحدِث” ما سيَحدث.
يُنشئ الروائي ظروفًا معينة داخل عالمه الروائي، ويُدخل شخصياته (التي تُعد بمثابة “كائنات حية” تُخضع للتجربة) في هذه الظروف، ويُغير المتغيرات ليُراقب النتائج. يقول زولا: “المُجرِّب هو الذي يتدخل، ويُحدث ويُعدِّل الظروف، لكي يُبين لنا كيف تتغير الظواهر.”، وهنا إنه يُسقط زولا شخصياته ذات السمات الوراثية المحددة في بيئات اجتماعية معينة (كأنها “أنبوب اختبار”)، ثم يُشاهد كيف تتفاعل هذه الشخصيات وتتطوّر، أو تنهار، تحت تأثير تلك الظروف. هذه التجربة الروائية تهدف إلى إثبات أو دحض الفرضية الأولية.
الاستنتاج وقوانين السلوك (La Conclusion et les lois du comportement): بعد أن “تُدار” التجربة الروائية من خلال السرد وتطور الأحداث، يصل الروائي إلى استنتاجات لا تكون أحكامًا أخلاقية أو رؤى ذاتية، بل هي محاولة للكشف عن “القوانين” التي تحكم العلاقة بين الوراثة، البيئة، والسلوك البشري. على سبيل المثال، قد تُظهر الرواية “قانونًا” يُفيد بأن تفاعل الفقر المدقع مع الميل الوراثي للإدمان، يُفضي حتمًا إلى دمار الفرد والمجتمع المحيط به. هذا الكشف عن “القوانين” هو ما يرفع الرواية إلى مستوى البحث العلمي في نظر زولا.
القوى المحرّكة للشخصيات:
يرتبط مفهوم “الرواية التجريبية” ارتباطًا وثيقًا بالنزعة “الحتمية” أو “الظرفية” التي كانت سائدة في الفكر العلمي والفلسفي في القرن التاسع عشر. ويرى زولا أن الإنسان ليس كائنًا يتمتع بحرية إرادة مطلقة، بل هو نتاج لشبكة معقدة من القوى التي تعمل عليه وتُحدد مصيره، ومثال ذلك السلسلة الروائية الضخمة “روغون ماكار: التاريخ الطبيعي والاجتماعي لعائلة تحت الإمبراطورية الثانية”.
تتكون هذه السلسلة من عشرين رواية، كل واحدة منها تُركز على فرع أو فرد من هذه العائلة الممتدة، لتُقدم كل رواية “تجربة” مستقلة ضمن مشروع أكبر. ويُشير زولا نفسه في مقدمة السلسلة إلى هدفه: “دراسة تاريخ طبيعي واجتماعي لعائلة... بيان آثار الوراثة والبيئة.” فكل رواية تُعد بمثابة “تجربة” تُظهر كيف تتجلى السمات الوراثية المشتركة (مثل الشغف، الجشع، الضعف الأخلاقي، أو حتى الموهبة) في أفراد مختلفين من العائلة. ولكن الأهم، هو كيف تتخذ هذه الميول أشكالًا متنوعة وتؤدي إلى نتائج متباينة بناءً على البيئة الاجتماعية والاقتصادية التي يجد فيها كل فرد نفسه.
في رواية “لا سوموار” (L’Assommoir)، يُجري زولا “تجربة” على تأثير الفقر المدقع، الإدمان، والبيئة الحضرية القاسية على حياة الطبقة العاملة. الشخصيات التي تحمل ميولًا وراثية معينة، تُدفع نحو الهاوية بفعل هذه الظروف. إنه ليس حكمًا أخلاقيًا، بل تحليل حتمي لظواهر اجتماعية.
في رواية “نانّا” (Nana)، يُسلط الضوء على الفساد الأخلاقي في الطبقات العليا وتأثير بيئة البغاء المسرحي على شخصية وريثة الضعف الأخلاقي. هنا، تُصبح شخصية نانّا محور “تجربة” تُظهر كيف تُفسد البيئة الثرية والفاسدة الفرد وتُسهم في انهياره.
في رواية “جيرمينال” (Germinal) التي تُعد أيقونة الأدب الطبيعي، يُقدم زولا “تجربة” اجتماعية واسعة النطاق. يضع عمال المناجم، بميولهم الوراثية وظروفهم المعيشية المزرية، تحت ضغط الاستغلال الشديد.. “التجربة” الكبرى هنا هي الإضراب العمالي. يراقب زولا كيف تتفاعل هذه الشخصيات مع ظروف القمع، وكيف تتجلى فيها الغرائز الأساسية من نجاة، غضب، تضامن، وعنف.. الهدف هو الكشف عن “قوانين” الصراع الطبقي ودوافع الثورة، وليس مجرد سرد الأحداث.
إرث “الرواية التجريبية”
إن “الرواية التجريبية” لإميل زولا ليست مجرد وثيقة أدبية؛ إنها نص تأسيسي للفكر النقدي الذي يرى في الأدب أداة للتحليل العميق للواقع. لقد سعى زولا إلى ترسيخ مكانة الرواية كشكل فني يمكنه أن يقدم معرفة حقيقية وملموسة عن الإنسان والمجتمع، مدفوعًا بأسس علمية صارمة.
إن إصرار زولا على أن الروائي يجب أن يكون “مشرِّحًا” للمجتمع و«مُجرِّبًا” للسلوك الإنساني، هو ما جعل أعماله ونظريته تحتفظ بأهميتها حتى يومنا هذا في دراسة تطور الرواية الحديثة وفهم طبيعة العلاقة المعقدة بين الأدب والعلم والواقع.
لقد أثر زولا بعمق على مسار الأدب العالمي، مؤكدًا أن الفن يمكن أن لا يقل أهمية عن العلم في سعي البشرية لفهم ذاتها والعالم من حولها.