في صميم الفلسفة الحديثة، يبرز اسم إيمانويل كانط كواحدٍ من أعظم المفكرين، ليس لتقديمه نظامًا فلسفيًا متكاملًا فحسب، بل لتأسيسه منهجًا جديدًا في الفكر يُعرف بـ«الفلسفة النقدية”. ففكرة “النقد” عند كانط لا تُفهم بالمعنى الشائع لـ«التوبيخ” أو “التقويم السلبي”، بل هي مشروع طموح للعقل يهدف إلى فحص قدراته وحدوده الجوهرية، بغية تأسيس المعرفة الإنسانية على أسسٍ صلبة ومبرهنة.
قبل كانط، كانت الميتافيزيقا تهيمن على الفكر الفلسفي، مدعيةً القدرة على بلوغ معرفة مطلقة بالواقع في ذاته (الشيء في ذاته)، متجاوزةً بذلك حدود التجربة الحسية. لكن كانط، في مواجهة الشكوكية الهيومية (Humean skepticism) التي زعزعت أسس المعرفة الميتافيزيقية، أدرك أن الميتافيزيقا قد أصبحت “ساحة معارك لا نهاية لها”، لا تفضي إلى أي تقدم حقيقي. من هنا، نشأت الحاجة الملحة إلى “نقد العقل الخالص”، وهو عمل تأسيسي لم يُعنَ بتقديم معرفة جديدة عن الوجود، بل بـتحديد الشروط الإمكانية للمعرفة نفسها.
إنَّ النقد الكانطي هو بمثابة محكمةٍ للعقل ينصبها العقل لنفسه. فالعقل هنا ليس المدعى عليه، بل هو القاضي الذي يشرّع ويحاكم في آنٍ واحد. وهدفه ليس هدم المعرفة الميتافيزيقية بالكامل، بل تنقيتها من الادعاءات غير المبررة، وتوضيح المجال الشرعي لعمل العقل. وبالتالي، هو مشروع يتجاوز التجريبية التي تركز على الحس وحده، والعقلانية التي تبالغ في قدرة العقل على إدراك الواقع بشكل مباشر، ليقدم منهجًا جديدًا هو الفلسفة الترنسندنتالية (Transcendental Philosophy).
الفلسفة الترنسندنتالية، في جوهرها، لا تسأل “ماذا نعرف؟” بل “كيف نعرف؟” أو “ما هي الشروط التي تجعل المعرفة ممكنة؟”. إنها تستقصي المبادئ القبلية الكامنة في العقل، والتي تسبق أي تجربة حسية وتجعل من التجربة نفسها ممكنة.
شـروط المعرفـــة
يقسم كانط ملكات المعرفة الإنسانية إلى ثلاث رئيسية، لكل منها دورها النقدي:
الحساسية، وهي ملكة استقبال الانطباعات الحسية. حيث يرى كانط أن المكان والزمان ليسا خصائص موضوعية للواقع في ذاته، بل هما صورتان قبليتان للحساسية، أي إطاران ذهنيان ذاتيان يفرضهما العقل على أي تجربة حسية. ولا يمكننا إدراك أي شيء إلا من خلال هاتين الصورتين. هذا يعني أننا لا ندرك الأشياء كما هي في ذاتها (الشيء في ذاته أو النومن - Noumenon)، بل ندركها كما تبدو لنا (الظاهر أو الفينومينون - Phenomenon) بعد أن تُنظم حسيا في المكان والزمان.
الملكة الثانية هي “الفهم”، وهذه ملكة التفكير، أو ملكة تكوين الأحكام والمفاهيم. بعد أن تستقبل الحساسية الانطباعات الحسية، يأتي دور الفهم لتنظيمها وإضفاء معنى عليها. ويتم ذلك عبر مقـولات الفهم، وهي مفاهيم قبلية خالصة (مثل السببية، الوحدة، الكثرة، الوجود، الضرورة، الإمكان، إلخ) ولا تُشتق من التجربة، بل هي مبادئ تنظيمية أساسية للعقل تجعل من التجربة المنظمة والمعرفة الموضوعية ممكنة. فمثلًا، لا يمكننا فهم حدث ما إلا من خلال مقولة السببية، حتى لو لم نرَ العلاقة السببية بشكل مباشر.. هذه المقولات هي شروط ضرورية لموضوعية المعرفة، لأنها تسمح للعقل بتوحيد المعطيات الحسية المتفرقة في مفاهيم ذات معنى.
أما الملكة الثالثة، فهي “العقل” وهو يختص بالاستدلال وتكوين الأفكار الميتافيزيقية، ودوره تنظيم أحكام الفهم وتجاوزها نحو الكليات المطلقة. ومع ذلك، يشدد كانط على أن أفكار العقل هذه (Ideals of Reason) لا يمكن أن تتلقى أي محتوى من التجربة الحسية، وبالتالي لا يمكن استخدامها لتكوين معرفة موضوعية عن الأشياء في ذاتها. فالعقل، عندما يحاول تطبيق مقولاته خارج حدود التجربة الممكنة، يقع في تناقضات منطقية (Antinomies) لا يمكن حلها. هذا هو تحديد كانط الحاسم لحدود المعرفة الإنسانية: يمكننا معرفة الظواهر (الفينومينا) التي تظهر لنا من خلال هياكل عقلنا، لكن لا يمكننا معرفة الأشياء في ذاتها (النومينا).
إرسـاء الحرّيـــة الأخلاقيـة
لم يقتصر النقد الكانطي على مجال المعرفة النظرية فحسب، بل امتد ليشمل مجال الأخلاق والجمال. ففي “نقد العقل العملي”، يؤسس كانط للأخلاق على أساس الواجب، وليس على أساس النتائج أو الميول، فالفعل الأخلاقي الحقيقي هو الذي يصدر عن احترام القانون الأخلاقي في ذاته، وهو ما يسميه الأمر المطلق (Categorical Imperative). هذا الأمر ليس مشروطًا بأي غاية خارجية، بل هو واجبٌ يفرضه العقل العملي على نفسه، ويشكل مبدأً كونيًا يجب أن ينطبق على الجميع في كل الظروف.
النقد هنا ضروري لتحرير الإرادة من كل المؤثرات التجريبية (مثل الرغبات والميول) التي قد تشوه الأخلاق، وإرساء الحرية الأخلاقية كشرط ضروري للفعل الأخلاقي. فالفعل لا يكون حرًا إلا إذا صدر عن الإرادة الخاضعة لقانون العقل الذاتي.
إرث النقد الكانطي
إنَّ فكرة النقد عند كانط هي، في جوهرها، دعوة إلى التواضع الفكري وإلى الوعي بحدود العقل البشري، ولقد أحدثت هذه الفلسفة ثورة “كوبرنيكية” في الفكر، حيث لم تعد المعرفة تدور حول الموضوع في ذاته، بل حول الذات العارفة وهياكلها القبلية. وفتح هذا المنظور آفاقًا جديدة للفلسفة، وأثر بعمق في مجالات المعرفة والأخلاق والجمال، وما زالت أفكار كانط تشكل حجر الزاوية في فهمنا للعقل الإنساني وقدرته على تشكيل عالمه. ومن هنا يمكننا القول إن النقد الكانطي، بصرامته المنهجية وعمقه الفلسفي، يبقى دليلًا للعقل في رحلته الأبدية لاستكشاف ذاته وحدوده.