إذا كانت مناطق عديدة من مختلف جهات الوطن تشكو قلة أو انعدام الاستثمار الصناعي، فإنها اليوم أمام فرصة ثمينة لتدارك مؤشر التنمية من بوابة الاقتصاد البيئي الذي يقود حتما إلى التنمية المستدامة. بالمقابل، هناك مناطق استقطبت مشاريع صناعية ضخمة في فترات معينة تشكو تداعياتها السلبية في ظل بروز معايير الحفاظ على البيئة والالتزام بشروط حماية المناخ التي اعتمدتها الجزائر ضمن تعهدات «كوب 21» بالأخص.
على امتداد جغرافيا الهضاب العليا التي يراهن عليها في إنجاز التحول الاقتصادي توجد العناصر الجوهرية للنمو بكل جوانبه الاقتصادية والاجتماعية التي ترتكز عليها التنمية المستدامة.
الفضاء الواسع إلى جانب الموارد الطبيعية (من غير المحروقات) والبشرية مرتكزة على بنية تحتية متكاملة (شبكة طرق، سكة حديدية، مطارات وسدود) تطلق الحرية لبلوغ التطلعات شريطة الحرص على تجسيد المشاريع وفقا للمعايير وفي الآجال وبالأخص بأقل كلفة ممكنة إذا ما أحيطت الخيارات بالواقعية والذكاء.
قادتني عطلة هذا الصيف إلى منطقة لطالما تعلق سكانها بالتوجهات الصناعية التي سادت في السبعينات (عهد المركبات الصناعية العملاقة بمحاسنها الظرقية ومتاعبها المالية والبيئية اليوم)، ويتعلق الأمر بناحية عين بوسيف (جنوبي شرق ولاية المدية) حيث لا تزال الأرض عذراء ونظيفة تؤهل المنطقة لمعانقة مسار التنمية المستدامة المطابقة للخصوصيات المحلية.
في ربوع هذه المنطقة وغيرها في كل جهات البلاد، لا يزال المناخ نقيا من أي شوائب صناعية والتربة صالحة لاحتضان مشاريع يطلقها العنصر البشري المتطلع لرفع التحدي في ظل اجتماع كل العناصر التي تضمن النجاح لتنمية محلية متبصرة مفتوحة على البعد الإقليمي والوطني.
من الخطأ الاكتفاء بالإحصائيات والبقاء في حيرة الأرقام (التي ترهق الخبراء وتزعج مركز القرار المنشغل بالنمو) بقدر ما ينبغي تنمية ثقافة تأسيس فلسفة الانطلاقة السليمة برد الاعتبار للمبادرة ومرافقتها بعقلانية وتأطيرها بفعالية.
يتمحض عن كل هذا ضرورة إعادة وضع العمل المنتج للثروة في صدارة مخطط التنمية المستدامة وتخليص المبادرة من مخالب البيروقراطية القاتلة للأمل، حيث لا يكفي إطلاق هياكل إدارية ضخمة دون أن يكون لها ثقل اقتصادي يقلل من اعتمادها على ميزانية الدولة، خاصة في هذا الظرف المالي الصعب.
مشروع الطريق السيّار الذي يربط بين الشمال من متيجة والجنوب مرورا بالهضاب العليا، وقد بلغ مرحلة معتبرة من الإنجاز (يتم تشغيله بمراحل فور إنجاز المقاطع وفقا للمعايير) أنهى هاجس بعد المسافات، وبذلك يعيد الأمل لتعزيز توجهات إعادة توزيع الساكنة على امتداد جغرافيا كل الوطن.
ما أن تجتاز المرتفعات الخلابة وتندفع بك السيارة حتى تتأكد من أن الحياة تدب في مناطق كانت إلى وقت قريب تعتقد أنها مهمشة، لتتحول اليوم بحكم معيار التنمية المستدامة إلى وجهة جديرة بالاهتمام من أصحاب الرأسمال الاستثماري المتشبع بجرأة المخاطرة.
فور انعطاف المركبة عند منعرج مدينة سغوان التي تخلص سكانها من حركة الشاحنات والحافلات المتجهة إلى الجنوب والقادمة منه، بفضل جسر اجتنابي، يرتسم مشهد لصورة مكبرة تعكس شساعة الأرض ورحابة صدور سكانها على ما هم فيه من بساطة العيش وتعلق مشروع بمستقبل اقتصادي واجتماعي يستجيب لتطلعات الشباب خاصة.
لاتزال المنطقة تتميز بالتمسك بخدمة الارض وتقليب باطنها، حيث سجل موسم الحصاد هذا العام نتائج محاصيل جيدة ومشجعة مما يدفع إلى الاعتقاد بأن الموسم الفلاحي القادم سيكون أكثر حيوية.
مؤشر الإقبال على خدمة الأرض أصبح أكثر بروزا واقتفاء آثار ملكية أو حيازة العقار الزراعي يزداد. أجيال جديدة تبحث عن ميراث الأجداد ونزاعات لا تتوقف عند باب المحكمة ليسترجع أصحاب الحق ثروتهم التي لا تنضب.
ولا يزال للقمح قيمته إلى جانب تربية المواشي في انتظار الدفع بمشاريع قوية وذات دلالات اقتصادية تتجاوز الرؤية المحلية الضيقة نحو آفاق أكبر تستوعب الاحتياجات الاجتماعية. وهما نشاطان في المتناول يؤسسان للانطلاقة وجذب استثمارات أخرى ذات صلة بطبيعة المنطقة.
ويوجد أمام الجماعات المحلية عمل كبير ينتظرها لتدارك الموقف وعدم تضييع مزيد من الوقت باغتمام الفرصة للتواجد في الساحة الاقتصادية وتغيير سلوكات المكوث بالمكاتب المكيفة وانتظار التعليمات الفوقية فقط. لقد انتهى الطابع التقليدي للمسؤولية المحلية وأصبح لزاما ملأ الفراغ وقيادة المبادرة على الأرض.
الأرض هنا وفي كل المناطق من الهضاب العليا تنتظر فقط من يجيد قراءة معطياتها وتفكيك خيوطها ليفهم قوة التحدي الذي لا مجال أمامه لمن يؤمن بالتردد أو يخشى التغيير.
الفرصة اليوم للمسؤول الذي يحسن تسويق منطقته وترويج عناصرها الاقتصادية لتنشيط الاستثمار المحلي المباشر أو جذب أصحاب المشاريع الكبيرة في مختلف القطاعات الواعدة.
هي قطاعات محدودة لكنها جديرة بالاستثمار ويتعلق الأمر بالفلاحة (زراعة الحبوب) والصناعة التحويلية خاصة في مجال مشتقات المواشي من لحوم وصوف وجلود، السياحة الاستكشافية والتاريخية والصحية حيث يوجد
خزان هائل.
تعتبر سلسلة جبال «كاف لخضر» الذي يحرس المنطقة ويرفع من شأنها ـ حيث كان واحدا من أبرز معاقل ثورة التحرير المجيدة ـ موقعا ملائما لبعث النشاط السياحي في كل الفصول من السنة ولا يزال هذا الخزان غير مستغل كما ينبغي، في انتظار مبادرات ذات جدوى تحترم البيئة وتراعي الخصوصيات المحلية بإدماج الجانب الثقافي المحلي الأصيل (صناعة تقليدية والمطبخ الريفي) في المشاريع السياحية صغيرة ومتوسطة الحجم.
لكن حتى تثمر لا مناص من أن يكون الرأسمال المحلي أول من يبادر لتغيير الصورة النمطية» للمنطقة.
بلا شك توجد ثروات نائمة لدى العديد من السكان، ومنهم من لا يزال أسير سلوكات سلبية، مثل اكتناز الأموال أو تحويلها للاستثمار في الشمال، بينما أمامهم المجال واسع لتجسيد مشاريع كبيرة حتى لا يدينهم التاريخ ويضعهم في مكان غير لائق في ذاكرة سكان المنطقة المتعلقين بخيوط التحول الاقتصادي.
إنها خيوط رفيعة بلا شك لكنها يمكن أن تتحول إلى حبال متينة إذا ما أدرك المتعاملون والمنتحبون المحليون خاصة أبعاد التنمية المستدامة التي تعتبر طوق النجاة من الأزمة وشح الميزانية. وقد تكون الانتخابات المحلية المرتقبة في نوفمبر القادم «بارومتر» قياس درجة الوعي والشعور بالمسؤولية في تحمل العبء الاقتصادي لمواجهة متطلبات السكان وتلبية مطالبهم المشروعة التي تتطور باستمرار.
الشباب، المرأة والكفاءات التي تتخرج من المؤسسات التعليمية يراقبون المشهد الانتخابي ويحذوهم الأمل في أن يحمل رؤية جديدة ينتشل المنطقة من وضعية سئموا منها إلى أخرى أكثر رحابة. ويستدعي هذا بالضرورة إعادة صياغة قواعد اختيار ممثلي السكان في المجالس المحلية بتصحيح المعادلة حتى يستقيم الوضع ببروز إرادة جديدة وينسجم مع معيار التنمية المستدامة التي تستمد طاقتها من كل مورد مادي ومعنوي. لقد ضخت المصالحة الوطنية في هذه المنطقة على غرار كافة مناطق البلاد نفسا جديدا في عجلة التنمية وطوت مرحلة سوداء عانى منها السكان الذين وقفوا مبكرا في خندق الدفاع عن السلم والاستقرار غير متخلفين قيد أنملة عن نداء الوطن. اليوم اختفت تلك المظاهر المشينة مثل النزوح الريفي وقطف السكان في المشاتي والدواوير ثمار التعلق بالأمل.
لقد حققت برامج السكن الريفي، الذي سجل مؤشر نجاح مشهود له، أهدافه الاجتماعية والاقتصادية وغيرت وجه الريف، حيث تحسن معدل رجوع العائلات إلى مناطقهم في انسجام وتعايش وتطلع للمستقبل الذي يؤسس من اليوم بتوسيع صرح التنمية القائم على الموارد المحلية الظاهرة والخفية التي تنتظر فقط سواعد الرجال وعزيمة الشباب لاستثمارها في مشاريع إنتاجية مهما كانت صغيرة وبسيطة تحكمها تنافسية العمل المنتج للثروة الدائمة.