مليار م3 سنويا من المياه المستعملة ترمى في شبكات التّطهير
140 محطّـــة معالجــــة بـ 44 ولايــة يسيّرهـا الدّيـوان
من منّا لا يتذكّر مشاهد برك مياه الصرف الصحي التي شوّهت صورة الأحياء والمجمّعات السكنية، وعكّرت ونغّصت معيشة الجزائري لعدة سنوات بسبب تأثيرها السلبي على صحته وبيئته، إذ تعد الحاضن المصدر للأمراض والحشرات الضارة، ومصدرا لتلوث المياه الذي لم يسلم منه لا البحر ولا الأودية نظرا لاحتوائها على كميات هائلة من الميكروبات والجراثيم، إلى جانب المركبات العضوية والكيميائية بأنواعها.
الظاهرة كان لابد من التحكم فيها لضمان عدم ضياع المياه كونها تمثل مصدرا غير تقليدي لهذه الثروة الثمينة، وهو الخيار الصحي الذي أدركته الجزائر، من خلال تجنيد كل الموارد لتحقيق الأمن المائي حماية لقرارها السيادي وكذا لتأمين المحيط الصحي البيئي من مختلف أنواع التلوث، فكان إنشاء الديوان الوطني للتطهير في سنة 2001 السبيل لتحقيق هذا الهدف، والذهاب إلى أبعد من ذلك بجعله حجر الزاوية الذي يساهم في التخفيف من الاستنزاف المائي ببلادنا.
يقدّر حجم المياه المستعملة التي ترمى في الجزائر مليار م3 سنويا، الأمر الذي يفرض مضاعفة الجهود لاسترجاعها وإخضاعها لإعادة التدوير للاستفادة منها لاحقا، وهو ما يعكف عليه الديوان الوطني للتطهير “أونا” من خلال دورة الإنتاج التي تمر بعدة مراحل كون هذه العملية معقّدة، وتتطلب الكثير من الإمكانيات المادية والبشرية.
ويبدأ عمل ديوان التطهير حسب عمار شويخ المدير المركز للاستغلال والصيانة، بمرحلة جمع المياه التي تحتاج إلى قنوات تحت الأرض بلغت أكثر من ٠٢٩ . ٥٢ كلم2 من خلال الاستفادة من جاذبية الأرض، أو عن طريق محطات للرفع والضخ والبالغ عددها 455 محطة.
ويزداد العمل صعوبة في الصحراء، حيث يتم دوريا تنظيف محطات الضخ من الرمل والصيانة ما يجعل التطهير مهنة شاقة وخطيرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إذ يتسبّب تفاعل الحرارة مع التلوث المائي الموجود في إنتاج مادة كبريتيد الهيدروجين أو “سلفيد الهيدروجين” المتكون تحت الأرض الذي يطلق على رائحته تسمية “البيضة الفاسدة أو المتعفّنة”، وهو غاز أثقل من الهواء يختبئ تحت الماء يهاجم مباشرة الحواس بداية بالشم مرورا بالجهاز العصبي.
ولتفادي هذه الأخطار تمّ تبنّي برنامجا وقائيا من خلال العمل التدريجي إما يدويا أو آليا عبر شاحنات الشفط أي بتبييض القنوات ما يسمح بتنظيف الشبكات لتبقى المياه فقط تجري فيها، هذه الأخيرة منها غير المفتوحة ومنها ما هو مفتوح أي قنوات ذات أقطار كبيرة تصل لأربعة أمتار يمكن للأشخاص السير فيها على غرار قناة بن عكنون، حيث أن منها ما يعود إلى الدولة العثمانية، فالجزائر العاصمة لوحدها تمتلك 220 كلم2 مفتوح.
أما مرحلة المعالجة فتكون عبر محطات خاصة تبدأ بالمعالجة الأولية الفيزيائية من خلال نزع المواد الصلبة، المواد الصناعية والزيوت وكذا الرمال، ثم المعالجة البيولوجية عن طريق ما يسمى بـ “البكتيريا الصديقة” التي تهدف الى حماية الوسط البيئي للمياه المستعملة من الركود، وضمان الحياة في أحواض المعالجة، إلى جانب الشروع في تجربة المعالجة الثلاثية لأغراض فلاحية.
الرّمي العشوائي للمياه الصّناعية يهدّد استدامة محطّات المعالجة
ولأنّ “شبكات التّطهير ليست مزابل”، ألزم القانون أصحاب المؤسسات الصناعية بعدم رمي المياه عشوائيا في الأودية أو المحيط قبل القيام بالمعالجة القبلية من خلال إنشاء محطة للمعالجة لا تكلف سوى 5 بالمائة فقط من حجم استثماراتهم، إلا أن 99 % من الصناعيين غير ملتزمين بذلك، حيث يلقون المياه الصناعية في تلك الأماكن ما بات يؤثر على حياة و استدامة محطات المعالجة.
ويسير الديوان حاليا 140 محطة معالجة عبر 44 ولاية من بين 177 محطة، باستثناء وهران، قسنطينة، الجزائر وتيبازة، حيث يتواجد بها من خلال الشركات ذات الأسهم لتسيير المياه والتطهير، ويبلغ عدد المحطات التي تحمي الساحل 49 محطة و13 لحماية البحر، 15 محطة لحماية السدود و96 لحماية الوديان.
إلى جانب قيامه بمهام لصالح الدولة تتعلق بإدارة المشاريع والأعمال المفوضة كمشاريع الدراسة، الانجازات، إعادة تأهيل وتشخيص محطات التطهير، الرفع شبكات التطهير وتجمّعات مياه الأمطار.
مطامير الصّرف الصحي التّقليدية للحفاظ على البيئة والمياه الجوفية
تمثّل مطامير الصرف الصحي التقليدية أسلوبا متاحا ومعمولا به في المناطق النائية ذات السكنات المتباعدة أو السكنات الجديدة غير المربوطة بشبكة التطهير، حيث تنجز في إطار مقاييس معترف بها حفاظا على البيئة والمياه الجوفية والعميقة، وهذا النوع من المطامير لا يتواجد في المناطق الحضرية المربوطة بشبكة صرف صحي جماعية بنسبة 10 بالمائة، ونفس الأمر بالنسبة للمناطق الريفية التي لا يقل عدد سكانها عن 2000 نسمة.
ويقوم ديوان التطهير حاليا بتفريغ هذه المطامير باستعمال شاحنات متخصصة، واضعا نصب أهدافه
القضاء عليها تدريجيا مستقبلا، مثلما قام به في ولاية الوادي التي كانت تعاني من ظاهرة صعود المياه إلى السطح واختلاطها بالمياه المستعملة بـ 5 بلديات، فتم تخصيص مشروع لمكافحة هذه الظاهرة بالموازاة مع تنظيم عملية التطهير الفردية على مستوى 20 تجمعا سكانيا من خلال إنشاء 542 مطمورة على مستوى التجمعات بكل من أميه ونسه، وادي العلنده، أورمس، الطريفاوي والرقيبة، حيث تم ربط ما يقارب 1059 مسكنا و38 تجهيزا عمومي بأنظمة التطهير الفردية.
استغلال 66 مليون م3 من المياه المعالجة في التّنظيف وإخماد الحرائق
تبرز إعادة استعمال المياه المستعملة المعالجة كخيار استراتيجي ملح للحفاظ على صحة المواطنين والتنمية الاقتصادية، يتماشى مع التسيير العقلاني للمياه لتخفيف العبء على المصادر التقليدية التي يجب أن تترك لتلبية الحاجيات الوطنية المتعلقة بالشرب فقط، وذلك من خلال إنتاج المحطات التي يسيرها لكميات إضافية من المياه لمختلف الاستعمالات، وهذا استجابة للإستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة في الجزائر بأبعادها الثلاث الاجتماعية الاقتصادية والبيئية.
ومن ثم فالمياه المعالجة تحمل العديد من الفرص في إعادة استعمالها مجددا في تنظيف الأرصفة والطرق وسقي المساحات الخضراء العمومية، في إطفاء الحرائق على غرار الاستعانة بها في السنة الفارطة لإخماد حرائق بتيبازة، وتمّ حتى نهاية أفريل 2017 استخدام حوالي 66 مليون م3 وحتى ماي الفارط تم استخدام ١ . ٦ م3 في الاستعمالات الزراعية باعتبارها الأكثر شيوعا من خلال سقي 11076 هكتار من المساحات المسقية أي ما نسبته 11 بالمائة.
إنتاج 6 آلاف طن من الحمأة...مصدر ثمين لمداخيل مستقبلية
أنتجت 140 محطة حتى نهاية أفريل ما يقارب 6 آلاف طن من المواد الجافة، يمكن استعمالها كسماد في الفلاحة من خلال استغلال المادة المخضبة الواردة في هذه المياه أو ما يعرف بـ “الحمأة”، والتخفيف من استعمال الأسمدة الكيمائية و تأثيراتها البيئية.
لكن تبقى الأمور المتعلقة بالاستغلال التجاري غير مقنّنة، لأن استغلالها مرهون بخضوعها لأمور تنظيمية في إطار قانوني واضح يتطلب التنسيق مع عدة قطاعات كالصحة البيئة و الفلاحة، وحاليا يتم العمل مع المعهد الجزائري للتقييس “لينور” لضمان خلوها من أي شوائب أو خطر على الصحة.
وينتظر أن يعرف إعادة استعمال المياه المعالجة تطورا بشكل ملحوظ، وذلك بوصول عدد المحطات المعنية بإعادة استعمال المياه المعالجة إلى 26 محطة في آفاق سنة 2019، خاصة وأنه هناك خطة عمل بين الديوان الوطني للتطهير و الديوان الوطني للسقي وصرف المياه في طور الدراسة لتحديد الفرص الحقيقة المحتملة في إعادة استعمال هذا المصدر غير التقليدي في ري المساحات الكبرى على مستوى خمس أحواض هيدروغرافية على المستوى الوطني، لاسيما وأن هناك نماذج تجريبية نجحت وبدأ في إعطاء نتائج مبشرة على غرار محيط حنايا بتلمسان، والمشروع الواعد بمحيط مليطة بوهران الممتد حتى معسكر.
التّمركز في النّقاط السّوداء، المراقبة وتأمين المحطّات لحماية المدن من الفيضانات
في موسم شتاء ومع أول التساقطات المطرية تفضح الأمطار سياسة الترقيع “البريكولاج” في الأشغال ويبدأ تقاذف التهم بين الإدارات والمصالح كل يلقي باللوم على الأخر، ويبرئ ساحته من التهم ومسؤوليات تحمل المخاطر، لذا حرص الديوان الوطني للتطهير على تحديد صلاحياته وتوضحيها حتى لا يتحول إلى شماعة تعلق عليه إخفاقات القطاعات الأخرى في تسيير الأزمات والأخطار الناتجة عن الكوارث الطبيعية.
في هذا الإطار، أشار شويخ إلى وجود تداخل في المهام فيما يتعلق بتنظيف البالوعات وصيانة الطرق التي هي من مهام مؤسسة “آسروت” بالجزائر العاصمة عبر 13 بلدية، ومديريات الأشغال العمومية والمصالح البلدية في الولايات الأخرى، وهذا الخلط ظهر جليا في ولاية معسكر التي عرفت فيضانات عارمة في الشتاء الفارط، وستبقى كذلك إذا لم تدرك السلطات المحلية أن صيانة الطرق وتنظيف البالوعات من اختصاصها وليس من اختصاص الديوان.
ورغم ذلك يساهم الديوان الوطني للتطهير في محاربة الفيضانات كما تساهم الحماية المدنية سواء بتسخيرة من الوالي أو تطوعيا، وذلك عبر ثلاث محاور فعلى الصعيد البنيوي من خلال الحماية المادية للمدن عبر جمع مياه الأمطار، أحواض الحفظ، تهيئة الأودية، إنشاء حواجز الحماية، أما المحور العملي فيكون عن طريق جهاز اليقظة والمراقبة والتدخل بناء على نشرية خاصة للأحوال الجوية، حيث يتم إنشاء خلية أزمة مناوبة عبر تمركز أعوان الديوان لاسيما في النقاط السوداء المحددة أصلا، وهذا الجهاز أيضا يركز على ثلاث محاور محددة تمس المراقبة المستمرة للنقاط السوداء،التنظيف المستمر للمناطق الحساسة خاصة عقب أي تساقط مطري وما يصحبه من أتربة وصخور ونفايات، ناهيك عن تأمين محطات الضخ، إلى جانب الاعتماد على المحور الوقائي من خلال تطوير ووضع أدوات الوقاية والإنذار عن طريق الخرائط ونظام الإنذار.
وتم إنجاز العديد من المشاريع في هذا الإطار بكل من سيدي بلعباس، تهيئة وادي ميزاب، بناء مجمع واد مكسل بباب الوادي وتهيئة واد الحراش، وقد رصدت الحكومة من أجل حماية المدن من الفيضانات خلال الخماسي 2010 - 2014 لهذا الغرض 60 مليار دج.
379 شاطئ مسموح للسباحة من بين 608 محصي
تبقى الشّواطئ الوجهة الأولى للجزائريين في كل موسم اصطياف لقضاء عطلة مريحة بعيدة عن ضغط العمل وحرارة الجو، لكن هذه الوجهة لم تسلم كغيرها من التلوث نتيجة صب المياه المستعملة فيها ما يجعل هدف “صفر صب في البحر” أمرا بعيد المنال في حال استمرار الأوضاع على ما هي عليها الآن.
ومع بداية كل موسم الاصطياف يطلق الديوان الوطني للتطهير مخططه المعتاد للتدخل والتنبيه لضمان السير العادي لأنظمة الصرف الصحي على مستوى المدن الساحلية التي يديرها، من خلال تصميم مخطط لحماية الشواطئ المسموح فيها السباحة من التلوث بمياه الصرف الصحي، ما يساعد على حسن سير أجهزة الصرف الصحي خاصة مراقبة و تنظيف النقاط السوداء، وإدارة الأعطال التي قد تطال هذه الأجهزة وتأمين محطات الضخ و محطات المعالجة.
وتحسّبا لهذا الفصل تخضع محطات الرفع والمعالجة لصيانة خاصة لاسيما ما تعلق بتوفير المولدات الكهربائية لضمان اشتغالها لأن توقفها سيؤدي الى توقف المحطات، وبالتالي كارثة بيئية حقيقة خاصة على طول الساحل والأودية، إلى جانب وضع فرق مداومة تسهر على ضمان الربط.
40 محطّة تطهير لتأمين 11 ولاية ساحلية
في هذا الإطار، قال صالح لحلال رئيس قسم شبكات التطهير، إن وزارة البيئة أحصت 379 شاطئا مسموحا للسباحة من بين 608 شاطئ، بحيث تستند الجهة المعنية في هذا التحديد على تحاليل قياس التلوث، وعورة التضاريس، وبناء عليه فالديوان الوطني للتطهير متواجد على مستوى 11 ولاية ساحلية من أصل 14 ولاية وتسير 40 محطة تطهير، وهذا عملا والتزاما باتفاقية برشلونة لحماية وتحسين نوعية مياه البحر.
ولضمان موسم اصطياف دون مشاكل يتوفر الديوان على جهاز التنبؤ و التدخل خلال الصيف، وهو منتشر على مستوى 11 ولاية يتم بموجبه تسخير كل الإمكانيات المادية والبشرية تسهر على ضمان سير منشآت التطهي، والمراقبة المستمرة للنقاط السوداء التي تعرف انسدادا نتيجة لرمي القاذورات أو المواد الصلبة،ناهيك عن تأمين تسيير المنشآت بتزويدهم بمولدات كهربائية احتياطية للحيلولة دون توقف المحطات، لأن الأولويات المسطّرة في إستراتيجية القطاع تركز على حماية السدود، وحماية الشريط الساحلي من التلوث.
وبناءً عليه يتم العمل على تحسيس وتوعية سكان المناطق الساحلية على أهمية القضاء على ظاهرة رمي القمامات في البحر والسهر على احترام الربط بنظام الصرف الصحي للحفاظ على مناطق السباحة تطبيقا للقانون 05 - 12 في الفصل المتضمن أحكام محددة للصرف الصحي لاسيما في المادتين 118 و121.
وعليه حاليا هناك 40 محطة قيد الاستغلال على طول الساحل وهناك محطات قيد الانجاز كبواسماعيل، وأخرى مبرمجة في كل من تنس، الغزوات، مرسى بن مهيدي، بني صاف، وهي مشاريع ستتدعم بها محطات الحظيرة الوطنية للمحطات التطهير، بهدف احترام اتفاقية برشلونة بالوصول إلى صفر صب في المياه في آفاق 2020.
التّكوين المستمر للتّوفيق بين المهارات ومتطلّبات مهن التّطهير
بما أنّ مهن التطهير معقّدة وشاقة يحتل التكوين المستمر مكانة بارزة في إستراتيجية الديوان الوطني للتطهير، حيث يتوفر على مركز للتكوين في مهن التطهير ببومرداس المخصص كليا لهذا الغرض بفرعية بقسنطينة والوادي، ومن أهم مهامه الرسكلة، التطوير وهذا بهدف تحقيق التوافق بين المهارات والمعارف المتوفرة لدى العمال مع متطلّبات عملهم ممّا يؤهلهم للتخصص أكثر في مهن التطهير.
كما يفتح هذا المركز أبوابه للمؤسسات الراغبة في تكوين عمالها في مجال الوقاية والصحة، الأمن في أنظمة التطهير، وضع نظام إدارة البيئة “النظام البيئي”، التقليل من تكلفة الطاقة الكهربائية، بالإضافة إلى تكوينات حسب الطلب.
ويهدف الديوان من خلال هذا المركز إلى تلبية جميع الاحتياجات التقنية في مجال التطهير والبيئة، ومرافقة الجهات الفاعلة في ميدان التطهير لتنمية سياسة القطاع واستدراك التطورات التكنولوجية في هذا المجال.
وإلى جانب التكوين المتخصّص في مهن التطهير، ينظّم الديوان الوطني للتطهير سنويا برامج تكوينية في ما يعرف بـ “مهن الدعم”، حيث تتكفّل بها هيئات التّكوين الخارجية وكذا المدرسة العليا لتسيير الموارد المائية المنشئة من طرف القطاع.