تعد الكمائن من بين الأساليب القتالية الناجحة التي اعتمد عليها مجاهدو جيش التحرير الوطني بناحية تبسة، خلال مواجهتهم لوحدات الجيش الاستعماري الفرنسي، حيث أتاحت لهم الفرصة لتحقيق نتائج ميدانية باهرة وإلحاق خسائر فادحة في صفوف القوات الفرنسية، وَيُعَدُّ كمين المعرقب بضواحي جبل الجرف الذي نصبه المجاهدون في يوم 04 أفريل 1956 لأفراد قافلة عسكرية فرنسية، واحدا من بين هذه الكمائن الناجحة، جاء كرد رد فعل من القيادة الثورية على الانتهاكات والاعتداء التي كان جنود الجيش الاستعماري الفرنسي يقومون بها في حق المدنيين من ساكنة الجهة، وقد أدّت النتائج التي حققها المجاهدون خلاله إلى نشوب معركة الجرف الثانية في الفترة ما بين 05 إلى 10 أفريل 1956.
وقع كمين المعرقب في ظل ظروف خاصة كانت تمر بها الثورة التحريرية بناحية تبسة، يمكن استعراضها، فقد تميزت هذه الفترة باشتداد شراسة المعارك بين أفواج جيش التحرير الوطني ووحدات الجيش الاستعماري الفرنسي، حيث خاض المجاهدون معركة الجرف الكبرى في الفترة الممتدة ما بين 22 إلى 29 سبتمبر 1955، وكبدوا فيها الجيش الاستعماري الفرنسي خسائر فادحة، وتمكّنوا من إجهاض عملية تيمقاد. وبعد نهاية المعركة، شرعت قيادة الجيش الاستعماري الفرنسي في بناء مركز عسكري فوق جبل الجرف لمنع المجاهدين من استخدامه كمقر للقيادة مجددا، وهذا ما دفع بالقيادة الثورية لناحية تبسة إلى التنقل نحو الجبل الأبيض، متخذة من دواميسه وكهوفه مقرا لإدارة وقيادة العمل الثوري بالناحية، ومواصلة وتكثيف عمليات استهداف وحدات الجيش الاستعماري الفرنسي، فقد خاض المجاهدون بناحية تبسة العديد من المعارك والاشتباكات الحربية ضد وحدات الجيش الاستعماري الفرنسي نذكر منها: معركة الزورة قرب كاف مباركة يوم 20 أكتوبر 1955، التي تولى قيادتها كل من القائدين الوردي قتال وعمر عون، اشتباك جبل الجرار يوم 26 أكتوبر 1955، معركة جبل تازربونت يوم 01 ديسمبر 1955 والتي قادها المجاهد صالح بن علي سماعلي، معركة عين الجيوش بقرب جبل أرقو يوم 20 ديسمبر 1955 والتي قادها الشهيد محمد البسكري. وقيام فوج من المجاهدين بمهاجمة فرقة من “الكوماندوس” التابعة للقوات الأمنية الفرنسية، والتي كانت عائدة من عملية قامت بها في منطقة فنتيس في يوم 20 ديسمبر 1955، وتمكنوا من القضاء على أحد عناصر الفرقة، وإصابة عناصر أخرى بجراح متفاوتة الخطورة، وأعقب هذا الهجوم قيام القائدين لزهر شريط ودعاس عمارة بقيادة معركة الزحيف بالرملية التي جرت وقائعها يوم 30 ديسمبر 1955.
وقد أدّى تزايد النشاط الثوري بناحية تبسة وفي باقي نواحي المنطقة الأولى أوراس النمامشة وغيرها من المناطق الجزائرية الأخرى، إلى تزايد الطلب على السلاح والذخيرة من طرف المجاهدين، ولتلبيتها قرر الوفد الخارجي للثورة الجزائرية إيفاد المجاهد علي مهساس إلى الأراضي الليبية لتأطير المكلفين بنقل السلاح من الأراضي الليبية إلى المجاهدين في الجزائر، ومضاعفة الجهود لإدخال أكبر كمية من الأسلحة وتأمين وصولها. واستحدث فرقا متخصصة على دراية بالمسالك المؤمنة لإيصال السلاح، لكن مهمة هذه الفرق لم تكن سهلة، فقد كان أفرادها عرضة لاعتداءات كانت تشنها مجموعات مجهولة، تستغل قلة حراسها ومرور القوافل بجبال الجنوب التونسي، حتى تستولي على حمولتها.
ولوضع حدّ لاستفحال هذه الظاهرة، قرر القادة ساعي فرحي، عباس لغرور وبشير ورتان، خلال أواخر سنة 1955 وبداية سنة 1956، أن يشكّلوا فوجا من مجاهدي ناحية تبسة كلف المجاهد القائد عبد الله سعودي بقيادته، وأسندت لهم مهمة التنقل إلى الأراضي التونسية والتمركز في جنوبها من أجل حراسة وتأمين هذه القوافل، فاختاروا سلسلة جبال بوهلال العربان عسكر والباردة كموقع لنشاطهم.
بالموازاة مع تكثيف أفواج جيش التحرير الوطني لأنشطتها الثورية بناحية تبسة، شهدت الناحية حدوث سلسلة من التغييرات مسّت قيادة القطاعات العسكرية بالناحية، ولعل أبزرها تلك التي مست قطاع الشريعة الذي تداول على قيادته عدد من القادة الميدانيين، يتقدمهم المجاهد القائد فرحي ساعي، ثم المجاهد القائد الزين عباد في شهر أوت 1955، وكلّف في شهر أكتوبر 1955 بقيادة قطاع جبل بني صالح بمنطقة سوق أهراس، فخلفه المجاهد القائد علي عفيف الذي واصل تأدية هذه المهمة إلى غاية استشهاده بداية شهر جانفي 1956 على إثر قيادته لمعركة البياض بالجبل الأبيض، وتفاديا للفراغ الناجم عن استشهاده، سارعت القيادة الثورية لناحية تبسة إلى تعيين نائبه المجاهد صالح بن علي سماعلي قائدا للقطاع.
في خضم هذه التطورات، صدرت أوامر للمجاهد عمار بن سعيد السنوسي بمغادرة الجبل الأبيض والاتجاه مع أفراد، فوجه إلى جبال قفصة بالأراضي التونسية للبحث عن الأسلحة والذخيرة، والقيام بعمليات تخريب تستهدف المنشآت التي أقامتها السلطات الاستعمارية الفرنسية هناك. وبعد تأديتهم لهذه المهمة، رجعوا إلى التراب الجزائري واتجهوا إلى جبل الزريقة في ليلة 16 جانفي 1956، أين خاضوا في يوم 17 جانفي 1956 معركة حامية الوطيس ضد وحدات عسكرية فرنسية تابعة لمراكز: قفصة، أم العرائس، فريانة، الرديف، تمغزة، بئر العاتر وسوكياس، كانت قد حاصرتهم في هذا الجبل، وانتهت هذه المعركة باستشهاد ثمانية مجاهدين يتقدمهم قائد الفصيلة عمار بن سعيد السنوسي، ونائبه يوسف العديلي وأسر تسعة آخرين تم نقلهم من الأراضي التونسية وسجنهم هناك، ومقتل ما يقرب من 60 جنديا فرنسيا وإصابة عدد آخر بجراح متفاوتة الخطورة، لتتواصل المعارك الحربية بين أفواج جيش التحرير الوطني ووحدات الجيش الاستعماري الفرنسي بناحية تبسة، حيث تولى القائد لزهر شريط قيادة معركة في الجبل الأبيض في شهر فيفري 1956، بعد قيام وحدات الجيش الاستعماري الفرنسي بتطويق الجبل ومحاصرة المواقع التي كان يتمركز بها المجاهدون بالاستعانة بأسراب من الطيران الحربي متكونة من حوالي 25 طائرة مقنبلة وكاشفة و06 طائرات هيلوكوبتر، وانتهت هذه المعركة التي استمرت ليوم كامل بمقتل حوالي 30 جنديا فرنسيا وإصابة 50 آخرين بجراح متفاوتة الخطورة، بينما أصيب مجاهد واحد في صفوف جيش التحرير الوطني.
تـغيير مـقر قيادة جيش الـتـّحريـر الـــوطني بـناحـية تـبسة
ساهمت التطورات التي شهدتها ناحية تبسة في بلورة فكرة لدى القيادة الثورية للناحية، تقضي بضرورة الإسراع في تغيير موقع مقر الإدارة والقيادة من الجبل الأبيض، واختيار موقع بديل عنه، وبعد تفكير معمق، وقع الاختيار على مغارة “شقافة اليهودي” التي تتوسط جبل أرفو، كموقع جديد لمقر الإدارة والقيادة، حيث دفعتها عدة عوامل لاتخاذ هذا القرار، أولها يتعلق بجغرافيته المناسبة والملائمة لقيادة العمل الثوري بالناحية، نظرا لتوفره على المياه الصالحة للشرب المساعدة على الاستقرار؛ لأن وادي اهلال يشقه، وهو واد دائم الجريان ينحدر من مصبه في أعالي دوار تازبنت، ثم بحيرة مشنتل، الشريعة، أم خالد، المزرعة، فج بوحريق، شقافة اليهودي، جبل أرفو وجبل الجرف..ومن هناك، يواصل الانحدار جنوبا حتى يلتقي بوادي مسحالة، ثم فم اهلال باتجاه الصحراء، إضافة إلى تضاريسه الصعبة التي دفعت كبار الضباط الفرنسيين الذين عملوا في المنطقة خلال الثورة التحريرية إلى وصفه بالقلعة الحصينة، وبالمكان الموحش والمخيف، ففي هذا الإطار كتب المقدم جان كالي في كتابه شتاء في تبسة ما يلي:
المنحدرات التي تشرف على وادي اهلال والمزرعة وأرقو ، مكان موحش ومخيف، الركض في أعماق الأودية التي تنزلق بين منحدرات وادي اهلال، تسلق التلال المتوسطة. القلعة الحصينة، كما يسميها المرتزقة، بجدرانها الجيرية القائمة ومظهرها الأسطوري.
وهو نفس الوصف الذي أورده الجنرال نويل شازارين في مقال له نشره في مجلة “مجموعة الأكاديمية”، يقول فيه: منطقة جنوب غرب تبسة بين تونس وجبال الأوراس، مقطوعة بأودية عميقة مثل تلك الموجودة في وادي اهلال، أو وادي الجديدة من الشمال إلى الجنوب لينتهي في الصحراء. المنطقة المسماة المزرعة، في كثير من الأحيان تتمركز في المنطقة فرقة قوية ومتمرسة للغاية. لا سيما في فوضى صخور وادي هلال. العديد من الوحدات حاولت التعامل معها دون نجاح للوصول إلى وادي اهلال من الضروري العمل إما عن طريق الوديان أو من خلال التلال التي تفصل بينها كلها مليئة بالصخور مع ممرات إلزامية، مواتية للدفاع. حتى الفوضى الصخرية تسمى القلعة المحصنة.
أما برنارد طوب، فقد أورد من جانبه وصف “شقافة اليهودي” التي اتخذت منها قيادة جيش التحرير الوطني مقرا للقيادة قائلا: “شقافة اليهودي..هذا الكهف هو عبارة عن مغارة تمتد تحت الأرض على طول 100 متر، حيث يمكنه إيواء كتيبة كاملة..”.
يتحدث المجاهد الطيب بن سلطان علوان قائلا: توجهت نحو أرفو ومكثت هناك عدة أيام، وبينما لا زلت هناك حل شريط لزهر بخمس مجموعات ثم سماعلي مع حراسته وبشير بولحية، بعد هذه التطورات كلفت القيادة الثورية لناحية تبسة في يوم 10 مارس 1956 المجاهد علي بن محمد بولعراس بقيادة هجوم يستهدف المركز العسكري الفرنسي بجبل الجرف، أين تنقل مع 30 مجاهدا من جبل أرفو إلى جبل الجرف، وقاموا بمهاجمة المركز على الساعة التاسعة ليلا ثم انسحبوا بعد ذلك.
وقد رافق استقرار القيادة الثورية لناحية تبسة قيام السلطات الاستعمارية الفرنسية بإصدار مجموعة من المراسيم الخاصة بوزارة دفاعها الوطني وقواتها المسلحة مؤرخ جميعها في 17 مارس 1956، من بينها المرسوم رقم 56-271 الذي يتعلق بتنظيم القيادة في الجزائر، لكن هذه المساعي لم تأخذ من طرف الجنرال الفرنسي فانكسيم بعين الرضى، الذي أدلى بتصريحات للصحافة الفرنسية برّر فيها تقليص تواجد الجيش الاستعماري الفرنسي في منطقة تبسة بسبب النقص المسجل في العنصر البشري، وهذا ما أدّى إلى إهمال مسائل التهدئة.
في خضم هذه التطورات، فقدت المنطقة الأولى أوراس النمامشة قائدها مصطفى بن بوالعيد الذي استشهد مع بعض المجاهدين ليلة 22 مارس 1956، خلال إشرافه على اجتماع تافرنت الذي حضره قادة المنطقتين الأولى والثانية، إضافة إلى القائدين زيان عاشور وسي الحواس كممثلين عن منطقة الصحراء.
وصـول تعزيزات جديدة لمقر الإدارة والقـيـادة بجبل أرفـو
بالموازاة مع ذلك، شهدت وتيرة تهريب الأسلحة إلى الجزائر عبر الحدود الليبية التونسية تصاعدا خلال النصف الثاني من شهر مارس 1956 من أجل تزويد جيش التحرير بأكبر قدر من احتياجاته مع تزويد جبهة الجزائر الشرقية بالأوراس وسوق أهراس في نفس الوقت بكميات وفيرة من السلاح لدعم قدراتها القتالية، أين تزايدت خلال الفترة عمليات إدخال الأسلحة إلى الجزائر برغم عمليات المراقبة المكثفة التي لجأت إليها المصالح الفرنسية، وقد تمّ إدخال أربع دفعات من السلاح إلى الجزائر ما بين 20 مارس و06 أفريل 1956، حيث تلقّت القيادة الثورية لناحية تبسة المتمركزة في جبل أرقو بجنوب بناحية تبسة قافلة من بين قوافل التسليح هذه وفقا لما ذكره الضابط الفرنسي دومنيك فارال الذي كتب في هذا الشأن يقول: تلقّت عصابات المتمردين المتمركزة في وادي الهلايل تعزيزات بشرية وإمدادات بالسلاح والذخيرة انطلاقا من الأراضي التونسية”. وهذا ما يؤكّده المجاهد الطيب بن سلطان علوان قائلا: “وصل رجال شريط لزهر في قافلة جمال من ليبيا، إلى مركز القيادة في وادي اهلال بأرقو ثلاثة أيام قبل معركة الجرف، واحتوت القافلة على شحنة أسلحة جديدة منها: 150 بندقية إنجليزية، و18 بندقية و18 بندقية M إنجليزية، و05 بنادق F.M إنجليزية”.