إنهاء حرب التّحرير وإعادة بناء الدولة الجزائرية

هكذا خاض الجزائريّون الأشاوس معركة إيفيان

دكتور واضح مداني قسم التاريخ - جامعة الجزائر 2

 

 ساهمت الانتصارات الكبيرة لجيش التحرير الوطني في تسريع قرار تصفية الاستعمار وحق تقرير المصير، وهو ما أقرّته هيئة الأمم المتحدة سنة 1960 في القرار 1514 ، الأمر الذي دفع فرنسا للتعجيل بفتح مفاوضات رسمية مع قادة الثورة الجزائرية من أجل استرجاع السيادة الوطنية، بعد مراحل عديدة من الاتصالات والمفاوضات والتي كانت تتعثر في كل لحظة بسبب المطالب الفرنسية الهادفة إلى تحقيق بعض المكاسب، والتي عجزت عن تحقيقها في الميدان، فلم يكن الجيش الفرنسي قادرا على هزم جيش التحرير الوطني رغم تفوقه العددي والتقني والدعم الذي كان يتلقاه من الحلف الأطلسي، كما أن الحكومة الفرنسية لم تكن قادرة على الاستمرار في حرب لا تتوقف إلا لتنطلق من جديد دون رؤية اقتصادها يتراجع ونزعتها الاستعمارية في إفريقيا تمنى بالفشل.


الحلقة الأولى
 رغم مبادرة الحكومة الفرنسية بإصلاحات سياسية وعسكرية واقتصادية تحاول من خلالها تأخير استحقاق محتوم على المدى الطويل، إلا أن عمى الأوروبيين والجيش كان قد أفسد كل فكرة تعايش بينهم وبين الجزائريين لاسيما اقتناع جيش التحرير الوطني بأن إحراز النصر وهزيمة الإمبريالية ستكون سياسية أيضا في ظل تزايد عدد ضحايا الحرب وتدهور الحالة المعيشية، وتمسك الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بموقفها اتجاه المفاوضات مع الحكومة الفرنسية والمتمثل أساسا في مناقشة القضية الجزائرية في ضوء مبدأ تقرير المصير.
هذا وكان بيان أول نوفمبر 1954 قد حدّد قاعدة التفاهم بين الطرفين، وأكّدت هذه المبادئ وثيقة الصومام 20 أوت 1956 التي حددت الشروط السياسية لوقف القتال. ومنذ هذا التاريخ وفرنسا تبحث عن مفاوض مقبول له طرح فرنسي ومواقف تخدم المصلحة الفرنسية بهدف تحجيم استقلال الجزائر وليس انتصارها، وعلى هذا الأساس جاءت سلسلة من اللقاءات في عهد الجمهورية الرابعة بين جبهة التحرير الوطني والحكومة الفرنسية؛ لكنها انقطعت بفعل جريمة القرصنة الجوية المتمثلة في اختطاف طائرة زعماء الثورة في 22 أكتوبر 1956، لتتجدد اللقاءات مع بزوغ فجر الجمهورية الخامسة التي تأسست على وقع النعال الخشنة للجيش.
وجد رئيس الجمهورية الفرنسية الخامسة الجنرال شارل ديغول نفسه في مأزق تحت ضغط جبهة التحرير الوطني التي تملك كل الأوراق الرابحة سياسيا وعسكريا، وضغط الرأي العام الفرنسي والعالمي المطالب بالتعجيل في حل للقضية الجزائرية التي أصبحت تهدد الأمن القومي الأوروبي والمتوسطي، ولهذا سعى ديغول وحكومته لإجراء مفاوضات مع الحكومة الجزائرية تحفظ لهم هيبتهم وسلطتهم على المستويين الداخلي والخارجي، فجاءت دعوته لقادة جبهة التحرير الوطني في 14 جوان 1960 من أجل الجلوس على طاولة المفاوضات من جديد.
جاء خطاب 14 جوان 1960 يعكس الوضع الحقيقي الفرنسا، تحدّث ديغول من خلاله عن تسوية ملف السلاح وضمان مصير المقاتلين، ولو أنه أراد ضمنيا تحقيق استسلام مقنع، خاصة بعد فشل أهدافه الرامية إلى إرباك المساعي الثورية من خلال ترسانة المشاريع السياسية والاقتصادية والعسكرية التي أطلقها، بل جعلته يقتنع أن المشكل الجزائري هو قضية استرجاع سيادة وطنية كما شرح لوفد اليمين المتطرف الذي زاره بقيادة المارشال «جوان»، ففي كل الأحوال قد أرغم ديغول على قبول التفاوض مع جبهة التحرير الوطني هذا وقد أعلنت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية على لسان رئيسها فرحات عباس عشية تأسيسها في 19 سبتمبر 1958 عن تفضيلها للحل السلمي، وفي هذا الإطار حدّدت الخطوط العريضة لموقفها تجاه المفاوضات مع فرنسا، وكان ذلك بعد اجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية (CNRA) في ديسمبر 1959، كما قرّرت قبول المناقشة في العمق وإخضاع كل اتفاق عسكري لاتفاق سياسي، وأن تكون جبهة التحرير الوطني (FLN) هي المحاور الوحيد للحكومة الفرنسية.
إنّ القواعد المتينة التي اعتمدت عليها الحكومة المؤقتة في جلساتها التفاوضية مع الوفد الفرنسي سمحت لها بأخذ أقصى حد ممكن من المكاسب في وقت كان الجنرال ديغول قد أدرك أن الجيش الفرنسي رغم تفوقه العسكري، من الصعب عليه تحقيق انتصار على جيش التحرير الوطني، فكان الهدف من ذلك هو أن يبرهن لمن جاؤوا به للسلطة حدود سياستهم المتطرفة، وانتزاع أقصى المكاسب من المفاوض الجزائري.
هذا ما يطرح التساؤل عن جدية الموقف الفرنسي في المفاوضات من جهة، ومدى قدرة ومهارة الوفد الجزائري في التصدي لهذه المناورات التي لا تقل شراسة عن المعارك العسكرية في الميدان من جهة ثانية، لأن ذلك يتوقف عن المكاسب التي حققها كل طرف، رغم إيماننا العميق ببيان أول نوفمبر، الذي أكد بأن الكفاح سيكون طويلا، لكن النصر سيتحقق، وهو ما سنسعى إليه من خلال هذه الدراسة، ولن يتحقق مسعانا إلا من خلال الإحاطة بالمعطيات والظروف التي صاحبت معركة المفاوضات ثم تحليلها ونقدها بأسلوب يكثر فيه التاريخ وتغيب عنه العاطفة.
ظـروف سـير المفاوضــــات الجزائريــــة - الفرنسيــــة
 استجابة لنداء الجنرال ديغول ورغبة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في حل سلمي، أعلنت هذه الأخيرة في 20 جوان 1960 قبولها بعقد اتصالات رسمية مع الحكومة الفرنسية من أجل التفاوض، وأرسلت مبعوثين إلى «مولان» وهما أحمد بومنجل ومحمد يزيد في 25 جوان على أنهما مفاوضين، لكنهما عوملا على أساس (متمرّدين) وحرما من كل الحريات الفردية، ناهيك عن الشروط التي فرضها الجنرال ديغول ومن بينها تسليم الأسلحة ووقف القتال ضمن مشروع تسوية ملف السلاح وضمان مصير المقاتلين، فأراد ضمنيا تحقیق استسلام مقنع مثلما عرضه سابقا تحت مسمى «سلم الشجعان»، ففشل اللقاء في 26 جوان 1960 لأنّ ديغول كان يريد وقف المعارك وليس الاستقلال.
تجدّدت المفاوضات في 20 ماي 1961 بمدينة «إيفيان» الفرنسية برئاسة كريم بلقاسم للوفد الجزائري، وكويس جوكس للوفد الفرنسي، وجاء ذلك بعد إعلان الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في 16 جانفي 1961 أنها مستعدة للدخول في مفاوضات مع الحكومة الفرنسية حول شروط استفتاء حر للشعب الجزائري، حيث جاء الإعلان إثر مظاهرات 11 ديسمبر 1960، وانتخابات 08 جانفي 1961 التي حصل بموجبها الجنرال ديغول على موافقة الشعب الفرنسي وثقته من أجل وضع حد للحرب.
ورغم أنّ ندوة «إيفيان الأولى» استمرت حتى 13 جوان 1961 وتخللتها بعض الانقطاعات، إلا أنّها توقفت دون نتائج، بسبب إقحام حكومة فرنسا لأطراف أخرى في التفاوض غير جبهة التحرير الوطني، وكذا بسبب الانقلاب العسكري الفاشل الذي وقع في 22 ماي 1961، كما بدا سعي الوفد الفرنسي واضحا من أجل الحصول على أقصى حد ممكن من المكاسب، رغم علمه المسبق باختلاف وجهات نظر الطرفين خاصة فيما تعلق بالمسائل الاقتصادية الاستراتيجية، ومسألة المستوطنين الأوروبيين.
إنّ المساس بمبدأ سيادة ووحدة التراب الوطني، وأن الصحراء جزء لا يتجزأ منه، وبعض المسائل الاستراتيجية جعلت الوفد الفرنسي يطلب وقف المفاوضات مع الوفد الجزائري مع إبقاء باب الاتصال مفتوحا، بهدنة مؤقتة وحيدة الجانب سميت: «وقف العمليات الهجومية»، وذلك من أجل الضغط على الطرف الجزائري لإيقاف العمليات العسكرية من جانبه أيضا، لكن الحكومة المؤقتة الجزائرية ردت قائلة: لا يمكن الحديث عن وقف إطلاق النار ولا عن تهدئة قبل استكمال الاتفاق حول الضمانات السياسية.
استؤنفت المفاوضات من جديد في 20 جويلية 1961 في قصر لوغران LUGRIN بمدينة إيفيان EVIAN الفرنسية، وكانت لقاءات فردية بين رئيسي الوفدين ، لكنها فشلت بعد ستة أشواط من المحادثات بسبب قضية الصحراء.
في 27 أوت 1961، تمّ الإعلان عن إنشاء الحكومة المؤقتة الجزائرية الثالثة بقيادة بن يوسف بن خدة المعروف بصلابة مواقفه، وهي رسالة إلى الحكومة الفرنسية لإجبارها على التخلي عن بعض مطالبها كالقانون الأساسي للفرنسيين بالجزائر وكذا قضية الصحراء، وهذا ما أعلن عنه ديغول في 5 سبتمبر 1961 وقال إن فرنسا تخلت عن المطالبة بالصحراء الجزائرية، وأنها جزء لا يتجزأ من القطر الجزائري.
بعد هذا التصريح، استؤنفت المحادثات الأولى في مدينة «بال» بسويسرا يومي 28 و 29 أكتوبر 1961، والثانية في 09 نوفمبر من السنة نفسها، ورغم توقّف المحادثات بسبب إعلان المعتقلين الجزائريين بسجن فرنسا إضرابهم عن الطعام، إلا أنها مهّدت للقاء ليروس Les ROUSSES من 10 إلى 18 فيفري 1962، الذي توصّل فيه الطرفان إلى الاتفاق على النصوص المصاغة التي أعيدت قراءتها، وافترقا على أساس أن يقدم كل طرف الوثيقة المتفق عليها كاملة إلى حكومته.
بعد استشارة المجلس الوطني للثورة الجزائرية، افتتحت المفاوضات النهائية بين الوفدين في 17 مارس 1962 بمدينة «إيفيان» الفرنسية حيث ترأس الوفد الجزائري كريم بلقاسم،  الوفد الفرنسي «لويس جوكس»، وقد اعتمدت أرضية هذه المفاوضات على عدة نقاط اعتبرت خطوطا حمراء من طرف المجلس الوطني للثورة الجزائرية لا يجب تجاوزها مهما بلغت الظروف والأسباب، ورغم تعثر المفاوضات أحيانا بسبب بعض التفاصيل، إلا أنها انتهت يوم 18 مارس 1962 وتوجت بإعلان وقف إطلاق النار بين الطرفين ابتداء من 19 مارس 1962 على الساعة منتصف النهار، وتنظيم استفتاء تقرير المصير في 01 جويلية 1962، وعدة تدابير أخرى.
اتّفاقيــــات إيفيـــــــان..تحليــــــل المضمــــــــون
كانت الأنظار تتّجه نحو معاهدة السّلام التي ستعقب المفاوضات الأخيرة الدائرة بين الوفد الجزائري ونظيره الفرنسي بمدينة إيفيان، كون الحصول على أكبر المكاسب من هذه المفاوضات سيشكّل في حد ذاته إنجازا كبيرا للثورة الجزائرية، رغم طول أمد هذه المفاوضات الذي يرجع بالدرجة الأولى إلى تمسك الوفدين بمسائل الواجهة، حيث أخذت الحيز الكبير من هذه الاتفاقيات كون القبول باتفاق مثالي يصعب تطبيقه ميدانيا، بات يهدد الطرفين
مسألـــــــة توقيـــــــف القــــتال والاستفتــــــــــاء
 من دون شك أنّ الشّروط الأساسية التي تمّ على أساسها التفاوض بين الوفد الجزائري والوفد الفرنسي كانت واضحة لاسيما فيما تعلق منها بالشق السياسي، بحيث تؤسّس العلاقات السياسية بين الدولتين على أساس التوجه السياسي العام لكل منهما، في ظل المتغيرات والظروف الدولية السائدة التي من الممكن أن تؤثر في تغيير السياسة الدولية. وبموجب هذا تأسّست اتفاقيات إيفيان على مجموعة من النصوص التي تسلم فرنسا بموجها باستقلال الجزائر، لكن التحول سيتم دون الإخلال بمبدأ السيادة الفرنسية، فلن يكون هناك نقل للسلطات من الحكومة الفرنسية إلى الحكومة المؤقتة.
لقد وضع وقف إطلاق النار بين الطرفين المتفق عليه وفق الشروط التي خولت لجبهة التحرير الوطني أن تكون الضامن المسؤول عن ذلك باسم الشعب الجزائري، حدّا للعمليات العسكرية، وتم بموجبه حل النزاع الفرنسي الجزائري بواسطة معاهدة سلام، وهذا ما أرادته حكومة باريس لتنظيم التوازن بين الدول وممارسة سلطتها بنفسها فيما يخص الحصول على الاستقلال دون اعتبار اتفاقيات إيفيان - في أي حال من الأحوال - كعلامة اعتراف للطرف الجزائري بحقه في استرجاع سيادته الوطنية وهزم الإمبريالية الاستعمارية.
ويظهر هذا الطرح من خلال اشتراط الجنرال ديغول في عملية وقف القتال موافقة المجلس الوطني للثورة الجزائرية بهدف إتاحة إمكانيات الفوضى نتيجة الخلافات التي ستظهر فيما بعد، فيستطيع ديغول إنقاذ الموقف ويعيد الجيش الفرنسي سيطرته على كل شيء، إلا أن حنكة المفاوض الجزائري وتفطّنه لمثل هذه الدسائس من جهة، واستفاقة الشعب الفرنسي من غفلته التي طالما أيد بموجبها سياسة حكومته في الجزائر بتصويته يوم 08 أفريل 1962 بنسبة 90.7 % لصالح الاتفاقيات من جهة ثانية»، كانت من الأسباب التي وضعت حدا لحرب دامت أكثر من سبع سنوات، واستعمار دام أكثر من 132 سنة بالانسحاب التدريجي للقوات الفرنسية من الجزائر.
كما أقرّت اتفاقيات إيفيان تشكيل هيئة تنفيذية مؤقتة تعتبر أهم مؤسسة تمّ الاتفاق عليها في مفاوضات إيفيان كلفت بتسيير المرحلة الانتقالية بعضوية مختلطة بين جبهة التحرير الوطني والحكومة الفرنسية، لتنظيم ومراقبة الاستفتاء المقرر انطلاقا من السلطات المخولة لها، فكانت ممارسة السيادة الإسمية لفرنسا في الجزائر بصورة ضعيفة خلال هذه المرحلة ، ففي ظل استبقاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية خارجا حتى تنظيم الاستفتاء سيكون السلم مهدّدا في غياب قوة عسكرية جزائرية تحفظ الأمن.
وتتحدّد أهمية الهيئة التنفيذية التي أوكلت رئاستها إلى عبد الرحمن فارس في كونها حكومة استقلال داخلي لمدة شهور، إلى غاية تسليم السلطات لهيئة منتخبة ترتبط بتنظيم استفتاء تقرير المصير الذي حدّدت مدته بثلاثة أشهر كحد أدنى وستة أشهر كحد أقصى، وبعد الإعلان عن وقف إطلاق النار، بدأ الاتصال بأعضاء الهيئة التنفيذية المؤقتة، وفي هذا الإطار قام «لويس جوكس» الوزير المكلف بالشؤون الجزائرية في الحكومة الفرنسية بإعلام عبد الرحمن فارس بالمهمة التي أوكلت إليه يوم 21 مارس 1962، وأبلغه أيضا بالأعضاء الفرنسيين وصلاحيات الهيئة، وفي يوم 09 أفريل 1962 صدر قرار في الجريدة الرسمية الفرنسية عن وزارة الشؤون الجزائرية ينظّم السلطات، ويحدّد صلاحيات الهيئة التنفيذية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19736

العدد 19736

الجمعة 28 مارس 2025
العدد 19735

العدد 19735

الأربعاء 26 مارس 2025
العدد 19734

العدد 19734

الثلاثاء 25 مارس 2025
العدد 19733

العدد 19733

الإثنين 24 مارس 2025