ساهمت الانتصارات الكبيرة لجيش التحرير الوطني في تسريع قرار تصفية الاستعمار وحق تقرير المصير، وهو ما أقرّته هيئة الأمم المتحدة سنة 1960 في القرار 1514 ، الأمر الذي دفع فرنسا للتعجيل بفتح مفاوضات رسمية مع قادة الثورة الجزائرية من أجل استرجاع السيادة الوطنية، بعد مراحل عديدة من الاتصالات والمفاوضات والتي كانت تتعثر في كل لحظة بسبب المطالب الفرنسية الهادفة إلى تحقيق بعض المكاسب، والتي عجزت عن تحقيقها في الميدان، فلم يكن الجيش الفرنسي قادرا على هزم جيش التحرير الوطني رغم تفوقه العددي والتقني والدعم الذي كان يتلقاه من الحلف الأطلسي، كما أن الحكومة الفرنسية لم تكن قادرة على الاستمرار في حرب لا تتوقف إلا لتنطلق من جديد دون رؤية اقتصادها يتراجع ونزعتها الاستعمارية في إفريقيا تمنى بالفشل.
الحلقة الأخيرة
نصت إتفاقيات إيفيان على أن تنظيم استفتاء تقرير المصير للشعب الجزائري وتحديد تاريخه هو من صلاحيات الهيئة التنفيذية التي حددت تاريخه يوم 01 جويلية 1962، ودعت كل الجزائريين للتوجه إلى صناديق التصويت وفق الصيغة المتفق عليها والصادرة في الجريدة الرسمية يوم 08 جوان 1962 والتي طلبت من الشعب الجزائري أن يصوت عليها بنعم أو لا وهذه الصيغة كالتالي هل تريدون أن تصبح الجزائر دولة مستقلة ومتعاونة مع فرنسا في إطار ما تم الاتفاق عليه في 19 مارس 1962..
قد استطاع المفاوض الجزائري انتزاع حق استفتاء تقرير المصير الذي سيشمل كل الإقليم الجزائري بما في ذلك الصحراء، كما أقر الاتفاق أن الاستفتاء سيكون استفتاءين فالشعب الفرنسي سيقول كلمته حول تقرير المصير، والجزائريون حول تشكيل دولة منفصلة عن فرنسا، كما أن اشتراط فرنسا في التصريح العام لاتفاقيات إيفيان انتخاب جمعية تأسيسية بعد ثلاث أسابيع من إجراء استفتاء تقرير المصير هو ضمان مشاركة ممثلو الأوروبيين في هذه الجمعية حيث كانت فرنسا تخشى رحيلهم من الجزائر إذا طال الأمد الفاصل بين استقلال الجزائر وانتخاب الجمعية”.
وفي الحقيقة فإن الإطار العام لبنود اتفاقيات إيفيان هو شبه اعتراف مسبق بأن الاستفتاء لا يمكن أن يؤدي إلا للاستقلال، وهو ما ينسجم مع أهداف الثورة، كما أن وجود رئيس هيئة تنفيذية مسلم جزائري مسؤول على العملية الانتخابية، قد يعتبره البعض ضمانات غير كافية لتجنب التزوير من طرف الإدارة الاستعمارية، لكن الواقع يبين عكس ذلك، ففرنسا يئست من أي شيء في الجزائر يقال له سيادة فرنسية، خاصة وأن التزوير سيزيد من سمعة فرنسا سوءا. ويزيد الجيش السري قوة وقد يصل التهديد إلى فرنسا نفسها فأصبح الحفاظ على مصالحها بعد استرجاع السيادة الوطنية يعد من أولوية أولوياتها.
أدركت الدول الاستعمارية أن رياح التحرر لا يمكن صدها عن إفريقيا، وعليها التفكير في شكل جديد من أشكال الاستعمار يتلاءم وروح العصر ومقتضيات القانون الدولي والتصريح العالمي لحقوق الإنسان وهو ما سمي بالاستعمار الجديد، وذلك بمنح الاستقلال السياسي لمستعمراتها والحفاظ على مصالحها الاقتصادية والعسكرية، وهو الهدف الذي حاولت فرنسا تحقيقه في الجزائر من خلال اتفاقيات إيفيان التي شكل الجانب الأمني والعسكري منها أهمية استراتيجية كبيرة إذ بواسطته تتم حماية جميع المصالح الأخرى.
وفي هذا السياق، يرى رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بن يوسف بن خدة أن اتفاقيات إيفيان حافظت على الشيء الأساسي في التفاوض ألا وهو الوحدة الترابية ووحدة الشعب وإمكانية إنشاء الدولة الجزائرية المستقلة ذات السيادة، ولاشك بأن ذلك أكبر إنجاز جنب الجزائر التقسيم والتفكك كما حدث لبلدان عديدة من عالمنا المعاصر، حيث ظلت عاجزة وممزقة إلى اليوم وغير قادرة على توحيد أرضها، أو تلك التي تمكنت من الوحدة، لكن بعد تضحيات جديدة وغالية الثمن كما هو الشأن بالنسبة لكوريا وكوبا والفيتنام، كما جاءت مطابقة لمبادئ الثورة وللأطر الواقعية للوضع العام آنذاك، إذ كان لابد من إيجاد حل وسط للحصول على السلم ولم يكن في ذلك أي رهن لمستقبل الجزائر حتى وإن كان يضيق على مستقبل سيادتها في بعض المجالات، وقد أثبتت الجزائر لاحقا بأنه حين يتوفر الرصيد الثوري يمكن أن يحول الاتفاقيات الوسطية إلى مجرد صياغة شكلية، وهذا ما يبرر رد فعل المستوطنين الأوروبيين على بنود اتفاقيات إيفيان من خلال الممارسات الإجرامية والتخريبية لمنظمة الجيش السري
ويبدو واضحا من خلال بنود الاتفاقيات أن الحكومة المؤقتة الجزائرية كانت تسعى جاهدة لفهم المشارك في التفاوض حتى لا تمس كرامته ولا تظهر بمظهر المتعنت والمتصلب دون التنازل عن مبادئها العليا، وكان لزاما على الحكومة الفرنسية أن تتعاطى أكثر فأكثر مع جبهة التحرير الوطني، هذا ما جعل المحادثات بين الطرفين تعكس وجود نية حقيقية في الوصول إلى حل نهائي يرضي كليهما، فصحيح أن الموقف لا يسمح بالتسامح أو الاسترضاء ذلك بأن الفرنسيين حاولوا إنقاذ ما يمكن إنقاذه مع علمهم المسبق أنهم خسروا كل شيء، إلا أن الوفد الجزائري الذي تبنى موقفا صلبا مكنه من الوصول إلى الاستفتاء الذي لم يكن سوى استفتاء شكليا يخفي - سياسيا - هزيمة الاستعمار، ولذلك أعطى الجنرال ديغول تعليمات للوفد المفاوض بعدم إعطاء أهمية كبيرة للتفاصيل، كما أوصى بعدم التمسك بمطلب الجنسية وعدم تعقيد الأمور حول مسألة الصحراء لعلمه المسبق بأن كل ذلك سيتقرر مصيره مع الجزائر المستقلة، ومع مرور الوقت تجسد ذلك فعلا عن طريق عمليات التأميم المختلفة ومنع إجراء التجارب النووية في الصحراء، وسرعة انسحاب القوات الفرنسية فاستطاعت الجزائر أن تتجاوز بعض عقبات اتفاقيات من الاستعمار. إيفيان وأعيد بعث وإحياء الدولة الجزائرية مجددا بعد 132 سنة من الاستعمار.
أما بخصوص الامتيازات التي تحصلت عليها فرنسا، فيرى الوفد الجزائري المفاوض أنها ستؤول للوطن الأم، ذلك بأن أي مفاوضات بين طرفين متنازعين هي عبارة عن أخذ ورد، وإن ربطت بالتعاون إلا أنه تعاون سيادي، كما قدرت الحكومتان الجزائرية والفرنسية ذلك، لاسيما وأنه يندرج في إطار المصلحة المتبادلة بين البلدين وهذا ما نلمسه في موقف النائب الفرنسي Lefèvre d’Ormesson الذي اعتبر أن اتفاقيات إيفيان لم تعد سوى قصاصة من ورق، بعد أن تراجع المكتب السياسي عن كل ما تضمنته الاتفاقيات واختار توجهات مغايرة تماما لملامح الاتفاقية، وهذا يعكس الكفاءة الديبلوماسية والعسكرية التي كانت تتمتع بها قيادة الثورة ومعرفتهم حدود الوطن وكل نقطة فيه، وأنهم قادرون على التعاطي مع الملفات الأكثر تعقيدا، ودخول أعتى المعارك الديبلوماسية التي لا تقل ضراوة عن المعارك العسكرية التي كان جيش التحرير الوطني يخوضها في الأوراس والشمال القسنطيني والقبائل وعلى الحدود، وفي غيرها من مناطق الجزائر.
في السياق، يذكر عبد الرحمن فارس أن ديغول قال له أثناء زيارته في 27 أوت 1962 “إن مستقبل الجزائر متوقف الآن على الجزائريين، قل لقادتكم أن فرنسا وديغول موجودون دائما لمساعدتكم في جميع الميادين، هذا إذا كانوا يرغبون في ذلك”...لقد عمل ديغول وحكومته على تلغيم الاستقلال..
إن الثورة الجزائرية عاشت في سنواتها الأخيرة تحديات خطيرة على مختلف الأصعدة، لاسيما الصعيد العسكري، مما صعب من مهمتها بشكل كبير لو استمرت لسنوات أطول، كما صعب من مهمة الدولة الفرنسية التي باتت تتخبط في ضغوطات داخلية وخارجية من أجل تسوية القضية الجزائرية، وعلى هذا الأساس، شكلت اتفاقيات إيفيان مغزى له دلالة للشعبين الجزائري والفرنسي، وانتصار للسلم في كلا البلدين، إذ استطاعت أن تضع حدا للحرب فانتصرت الإرادة الشجاعة للطرفين، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن التحليل الدقيق لاتفاقيات إيفيان يعطي لنا قاعدة أبعاد منها أنها كانت مثالية إلى حد ما، فالحكومة المؤقتة الجزائرية تعلم بأن تطبيقها كما هي ضرب من المستحيل، لاسيما وأنها كانت مرحلية، وهذا لا يعني بالضرورة أنها إن قبلت بها في تلك اللحظة ستقبل بها لاحقا، فلابد من إعادة النظر فيها لأنها ليست منطقية ولا تتماشى مع مبدأ الاستقلال والسيادة الوطنية، فكان لزاما على المفاوض الجزائري هو الآخر أن يقدم ظاهريا بعض التنازلات اعترافا بما قدمه المفاوض الفرنسي من اعترافه الرسمي باستقلال الجزائر، وبذلك تكون اتفاقيات إيفيان مثلت حلا وسطا لتحقيق الأهم وهو استرجاع الاستقلال الوطني.