يقول سبحانه وتعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله}، سورة آل عمران.
إنّ هذه الآية الكريمة فيها دليل على خيرية هذه الأمة، وهذا بإجماع العلماء، فالله سبحانه بوّأها هذه المكانة العالية العظمى الرفيعة لأنها أمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمّة العدل ودفع الظلم ونصرة المظلوم، وهذا هو الذي رشحها لحمل الرسالة واستاذية العالم، بتعليمه وإرشاده إلى الطريق المستقيم وبذلك تكون أمّة بحق أخرجت للناس وتكون أمّة عزيزة كريمة لأنّ عزتها إنّما نستمدها من عزة الله تعالى الذي يقول: {ولله العزة ولرسوله} سورة المنافقون.
كما أنّ انتماء هذه الأمة إلى نبيّها الخاتم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكفيها ذلك فخرا، حيث أخرجها من الظلمات إلى النور ومن الجهالة إلى العلم ومن الذل والمهانة إلى العزّة والكرامة وأرشدها إلى التوحيد الخالص القائم على المعرفة والعلم يدلّها على الوحدة فهي ربّها واحد وهي أمة واحدة قال تعالى: {وأنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون}.
أي وحّدوني ولا تشركوا بي شيئا.
وصدق الشاعر إذ يقول:
ومما زادني شرفًا وتيهًا
وكدت بأخمصي أطأ الثريـا
دخولي تحت قولك: يا عبادي
و أن صيَّرت لي أحمد نبيا
ومن هذا فإن المفروض عليها الشعور بهذا الانتماء والعزة والكرامة وعدم الهوان كما يجب عليها التميّز عن الآخرين بشخصية إسلامية مستقلة تؤثّر ولا تتأثر تُتبع ولا تَتّبِع، قدوتها في هذا رسوله ـ محمد صلى الله عليه وسلّم ـ الذي كان يربيها على هذه المعاني وكان يحذرها من التشبه بالكفار وكان يقول «من تشبّه بقوم فهو منهم»، وكان يحب أن يكون متميزا على جميع المستويات باعتبار أنّ رسالته هي الرسالة الخاتمة وأنّه هو النبي الخاتم وعلى الناس كلّهم من أهل الكتاب أو من غيرهم أن يكونوا على هديه وإلاّ فهم في طريق الزيغ والكفر والضلال، ولذلك غضب ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما رأى عمر بن الخطاب حاملا صحيفة التوراة المحرّفة يطّلع عليها لم يقبل ذلك وصرخ في وجهه «أمتهوكون فيها يا بن الخطاب لقد جئتكم بها بيضاء صفية والله لو كان موسى بن عمران حيّا لما وسعه إلا اتباعي»، نعم فهي الرسالة الخاتمة المستقلة عن جميع الرسالات والغنية عن جميع المناهج والاضافات فهي جامعة للتوراة والانجيل قال تعالى: {الم. الله لا إله إلاّ هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدّقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان}، سورة آل عمران.
وانطلاقا من هذا وعلى أساسه حرّم الإسلام موالاة الكفار وأهل الكفر من اليهود والنصارى واعتبرهم مصدر خطر على الدين والدنيا فهم لا يدّخرون جهدا في القضاء على الإسلام وأهله ما سنحت لهم الفرصة ذلك، {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}،
فموالاتهم سبيل للسيطرة علينا وردّنا إلى الكفر والضلال، {يأيّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولاهم منكم فإنه منهم إنّ الله لا يهدي القوم الضالين}، سورة المائدة.
ولذلك كانت أمّة الإسلام في مقدمة الأمم حيثما والت الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويوتون الزكاة فكانت عزيزة مهابة تنصر بالرعب مسيرة شهر وكان خطابها للظلام والمستبدين عبارة واحدة تؤدي المقصود وتحقّق المبتغى وتنصر المظلوم وتأخذ على يد الظالم، بل كان حكامها الراشدون يتحدّون الغمامة في السحاب أن تمطر في أي أرض شاءت، فإذا اخرجت ثمرها وزرعها فإن ذلك سيأتيه إمّا زكاة شرعية أو جزية مدفوعة من أهل الذمة، وهذا فيه دليل على قوة الأمة واتساع رقعتها، فالله تعالى سخّر هذا العالم للمسلمين حين يتمسكون بحبله المتين.
إلاّ أن واقعها المتردّى الهزيل الضعيف يكاد يكذّب هذه الحقائق التاريخية ويعدّها السامع بأنها ضرب من الأساطير، وما ذلك إلا سبب ضعفنا والذل والهوان الذي نحن فيه، واستبدالنا للعزة بالمهانة، والأستاذية بالتبعية، فتشبهنا بالكفار بل اعطيناهم ولاءنا وأصبحنا مولوعين بتقليدهم فطمعوا في خيراتنا وسخروها لخدمتهم وأذلونا بها واحتقرونا واعتبرونا مرضى فقسموا تركتنا وحجروا على أموالنا وقتلوا نساءنا ورجالنا وأطفالنا فلم تغن كثرتنا عن شيء وصدق الرسول الكريم القائل: «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكله على قصعتها قالوا أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله، قال: «بلا أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل».
نعم لقد تحقق هذا الذل والهوان وتكالب علينا الأعداء واغتصبوا كل خيراتنا وجرونا إلى الذل والهوان فأصبحنا تبعا لهم في كل شيئ وأصبحنا لا شيء ولا حول ولا قوة إلا بالله.