للتدين المنحرف أسباب نفسية، وأخرى علمية، تظهر في أقوال المرء وأفعاله، وتلحظ فيما يصدره من أحكام على الأشخاص والأشياء، وتتفاوت هذه الأسباب قوة وضعفا وقلة وكثرة، ولكنها على أي حال ذات أثر عميق في تحديد المواقف والاتجاهات، والمفروض في العبادات التي شرعها الله للناس أن تزكي السرائر، وتقيها العلل الباطنة والظاهرة، وتعصم السلوك الإنساني عن العوج والإسفاف، والجور والاعتساف، وكان هذا يتم حتما لو أن العابدين تجاوزوا صور الطاعات إلى حقائقها ! وسجدت ضمائرهم وبصائرهم لله عندما تسجد جوارحهم، وتتحرك أنفس ما في كيانهم - وهو القلب واللب –عندما تتحرك ألسنتهم . .
أما إذا وقفت العبادات عند القشور الظاهرة والسطوح المزورة، فإنها لا ترفع خسيسة ولا تشفي سقاما.
وقد كتبت يوما كلمة عن الحُطيئة عندما يشتغل بالدعوة، وتساءلت: ماذا ننتظر من رجل طبيعته شرسة إلا الوعظ بقوارص الكلم وسيئ العبارات؟ إن طبائع بعض الناس تحول الدين عن وجهته إلى وجهتها هي، فبدل أن تهدي تصد، وبدل أن تسدي تسلب ! وقد نبّه القرآن الكريم إلى خطورة نفر من الأحبار والرهبان جعلوا الدين كهانة تفسد بها الفطرة وتصطاد بها المنفعة، (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) وهذا النوع من الناس آفة الأديان كلها، وفيه يقول الشاعر
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
فباعوا النفوس ولم يربحوا، ولم تغل في البيع أثمانها
والآفات النفسية تبدأ مع الطفولة، بل قد تتطور مع خصائص الوراثة، وإذا لم تذهب بها التربية الراشدة، نمت مع المرء شابا، وبقيت في دمه شيخا!
وانظر إلى رجل كأبي سفيان رضي الله تعالى عنه، لقد كان قائد مكة وشيخهما المقدم في الجاهلية، ولم يفت الرجال الذين يعرفونه أنه يحب الفخر، وإلى كلمة تنوه بشأنه قد تؤثر في حكمه.
واقترح العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل له شيئا يطمئنه على مكانته بعد غلبة التوحيد على أم القرى! واستجاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمه فقال: نعم ، من دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن قعد في بيته فهو آمن - واستراح أبو سفيان أن ذكر اسمه ومهد لتسليم مكة دون حرب ! !
وقد تتستر العلة النفسية وراء الحماسة للقيم والغيرة على الحق، وأوضح مثل لذلك الرجل الذي علق على تقسيم رسول الله صلى الله عليه و سلم للغنائم فقال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله . . . !
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يتألف بعض الناس بشيء من حطام الدنيا لأن اليقين لم يتمكن من قلوبهم وكان على الرجل الذي لم تعجبه القسمة أن يتساءل عن سرها . . . أما أن يسارع إلى اتهام أشرف الخلق، فهذا مرض باطن !
وقد نبّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن هذا الصنف يُطيل الصلاة والقراءة ،ولكن عبادته لا تزكي سريرته ولا تشفي علته ! !
وفي غزوة العسرة، تساءل النبي صلى الله عليه وسلم عن كعب بن مالك ما أخّره ؟ فتطوع رجل باتهامه قائلا : ألهاه النظر في برديه ! وهي كلمة محمودة تنبئ عن الحقد ! فكعب أحد الثلاثة الذين خلفوا، وقد عفا الله عنهم وتاب عليهم ! ! وفي أثناء أزمة كعب جاءته رسالة من ملك الروم تستحثه على ترك المدينة، واللحاق معززا بحاشية الملك، فعد ذلك محنة وأحرق الرسالة ! وارتقب الفضل الأعلى حتى جاءه ـ وهو له أهل ـ بيد أن بعض الناس ينظر إلى غيره بعين المقت التي تبدي المساوئ وتخفي المحامد، وينتهز أول فرصة ليشبع ضعفه . . . وجاء وفد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيهم رجل ثرثار دعي متشدق !
كلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما، طوعت له نفسه أن يقول كلاما أفصح يحاول أن يسامي به رسول الله . . . ! وكان التعليق الذي باء به أن هذا ومثله يلوون ألسنتهم بالكلام كما تلوي البقر ألسنتها بالحشائش ولهم النار يوم القيامة . . . !
وكم رأينا من سباق للكلام في الدين لا حصيلة له إلا اللغو والهباء.
فالوعظ لا يبلغ هدفه مهما كان بليغا إذا قارنته نيةٌ مغشوشة، سمع الحسن البصري ناصحا قوي البيان، ولكنه لم يتأثر به فقال له: يا هذا إن بقلبي شيئا أو بقلبك !
والآفات النفسية تشيع بين ناس كثيرين فيهم المتدين وغير المتدين، وعلماء التربية يرون هذه العلل أخطر من الرذائل المادية، ومن المقرر أن معاصي القلوب أخطر من معاصي الجوارح ! فالكبر شر من السُكر، وإن كان الشارع أعد عقوبة عاجلة للسكارى، إلا أنه أرجأ المستكبرين ليوم تطؤهم فيه الأقدام، وآسو في ذلك أن السكران يتناول ما يضره وحده غالبا، فهو بالخمر يفري كبده ويحقر عقله، أما المتكبر فهو يجتاح حقوقا ويظلم غيره ولا تقف دائرة عدوانه عند حد.
ولا تحسبن الكبر صعر الحد وتثاقل الخطو! فهذه مظاهره الطفوليه ! الكبر بطر الحق وغمط الناس، وانتهاج مسلك يفرض شهوة فرد على جماهير غفيرة . وتدبر سياسة هؤلاء المرضى العتاة وهم يقلبون الحق باطلا والباطل حقا، يقول موسى لفرعون : (قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل )، ويكون جواب الطاغية وملئه الكبر ( إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم ) . رجل يريد الفرار بقومه من العذاب فيتهم بأنه يريد إخراج المواطنين من أرضهم . . ! فإذا عرف نفر من الأتباع الحق وآمنوا به قيل لهم : (آمنتم به قبل! أن آذن لكم ؟) سبحان الله لماذا ينتظر إذنك ؟
وعندما أبحث عن جراثيم الانحراف بين المتدينين أجد هذا اللون من «الفرعنة» وراء جملة من المسالك التي نشجبها، ونضيق بأهلها.
إن بعض الشاب المتدين مختل المزاج، فصاحب الرسالة ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وهؤلاء الشبان ما خيروا بين أمرين إلا اختاروا أصعبهما، والإسلام يقدم الدليل ويؤخر العنف، فما يلجأ إليه إلا كارها، أما أولئك الشباب، فقد نظروا إلى الأسلوب الذي عوملوا به، واستبيحت به حرماتهم، فلم يروا أمامهم إلا السلاح ! !
ويوجد بين المتدينين قوم أصحاب فقر مدقع في ثقافتهم الإسلامية، وإذا كان لهم زاد علمي، فمن أوراق شاحبة تجمع كناسة الفكر الإسلامي، والأقوال المرجوجة لفقهائه ! وهم يؤثرون الحديث الضعيف على الصحيح، أو يفهمون الخبر الصحيح على غير وجهه، وإذا كانت المدارس الفكرية في تراثنا كثيرة ، فهم مع ظاهر النص ضد مدرسة الرأي، وهم مع الشواذ ضد الأئمة الأربعة، وهم مع الجمود ضد التطور.
وقد سمعت بعضهم يحارب كروية الأرض ودورانها، فلم تهدأ حربه حتى روى له أن ابن القيم يقول باستدارة الأرض ! ومازال البحث جاريا عن رواية أخرى تقول: إن الأرض تدور كي يسكت ويستكين . . . ! ! هل بين أولئك القوم وبين الخوارج القدامى قرابة روحية وفكرية؟ ربما . . .
إن الجو الحر هو المكان الوحيد الذي يموت فيه التطرف، ويتوارى أهله على بطء أو على عجل المهم أنهم لا يبقون ولا يستقرون !
وفي تجاربي ما يجعلني أشمئز من التدين المغشوش، وأصيح دائما أحذر من عقباه . . . ! ! فالمنحرفين يسترون ـ بركعات ينقرونها ـ فتوقا هائلة في بنائهم الخلقي وصلاحيتهم النفسية، وهم لا يظنون بالناس إلا الشر، ويتربصون بهم العقبات لا المئات، وهم يسمعون أن شُعب الإيمان سبعون شعبة، بيد أنهم لا يعرفون فيها رأسا من ذنب ولا فريضة من نافلة، والتطبيق الذي يعرفون هو وحده الذي يقرون . . . فالسواك سنة، ومن حقنا أن ننظف أسناننا بأي فرشاة وأي معجون، المهم نظافة الفم، وهؤلاء ينظرون إلى من لا يستعمل السواك نظرة مريبة !، لماذا لا يجعله في عروته مع القلم ؟ ولماذا لا يخرجه في المسجد وينظف فمه في الصف ثم يعيده بما فيه في جيبه ؟ هذا هو الدين عندهم.
والخلاف الفقهي لا يوهي بين المؤمنين أخوة، ولا يحدث وقيعة ! وهؤلاء يجعلون من الحبة قبة، ومن الخلاف الفرعي أزمة، والخلاف إذا نشب يكون لأسباب علمية وجيهة، وهؤلاء تكمن وراء خلافاتهم علل تستحق الكشف.
إن التدين يوم يفقد طيبة القلب ودماثة الأخلاق ومحبة الخلائق يكون لعنة على البلاد والعباد. والغريب أن التطرف لا يقع في مزيد من الخدمات الاجتماعية، ولا في مزيد من مظاهر الإيثار والفضل، إنه يقع في الحرص البالغ على تقصير الإزار والتنطع السخيف في مكان وضع اليدين أو طريقة وضع الرجلين خلال الصلاة، والاهتمام الهائل هنا تقابله قلة اكتراث ببناء دولة الإسلام الغاربة والإقبال على تجميع العناصر التي لابد منها لإقامة حضارتنا واستعادة كياننا...! !
والمجال المستحب للغالين في دينهم ينفسخ عندما ينظرون في ذنوب الناس، إنهم يسارعون إلى الحكم بالفسق أو الكفر، وكأن المرء عندهم مذنب حتى تثبت براءته على عكس القاعدة الإسلامية.
ومنذ أيام، ثار جدل حول تارك الصلاة كسلا، فلم يذكر أحد في شأنه إلا أنه كافر، مستوجب للقتل مخلد في النار! قلت : إن تارك الصلاة كسلا مجرم حقا، ولكن الحكم الذي ذكرتموه هو في تاركها جحدا، وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة خروج من الدين، أما الكسول، فهو مقر بأصل التشريع قالوا : يقتل حتما ! قلت : لماذا تنسون حديث أصحاب السنن في أن الرجل لا عهد له عند الله - بتكاسله -إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه !
ودخول هذه الجريمة فيما دون الشرك، أعني إمكان العفو الإلهي عنها هو رأي جمهور المسلمين، ومذهب الأحناف ألا يقتل الكسول، وعلينا بالتلطف والنصح الحسن أن نقوده إلى المسجد لا إلى المشنقة . . . ! بيد أن المتطرفين يأبون إلا القول بالقتل، وإن هذا وحده هو الإسلام . . .
ومجال آخر هو قضايا المرأة، إن حبسها وتجهيلها واتهامها هو محور النظر في شؤونها العبادية والعادية جميعا، ويجب ليُّ النصوص والآثار التي تربطها بالمسجد، وبالأمر والنهي والتعليم، وإذا خرجت من البيت لضرورة قاهرة فلا ينبغي أن يرى لها ظفر، هي عورة كلها، لا ترى أحدا ولا يراها أحد.
بقلم العلامة الداعية محمد الغزالي رحمه الله تعالى