الإسلام دين يُسر وسُهولة، وفسحة وسماحة، روى الإمام أحمد - رحمه الله - عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبني أرفدة: «خذوا يا بني أرفدة حتى يعلم اليهود أنّ في ديننا فُسحة»، وهذا الإسلام الجم لا يمنع مطلقا الترويحَ عن النفس، ولا قضاء بعضِ الوقت في الاستجمام والراحة، فإن لنفسك عليك حقا، فقد روى أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - مرفوعا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبدو إلى السِلاع. قال العلماء في شرح الحديث: والمراد أنه كان يخرج إلى البادية لأجلها، فقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضُ الأوقات يخرج فيها ليستجم ويروح عن نفسه - عليه الصلاة والسلام - وهذا النوع من الخروج إلى البادية هو نوع محبّب إلى النّفس وفيه ترويح كبير، إذ يتخلّص المرء به من ضجيج المدن وزحامها وهمومها وأكدارها وأشغالها الشاغلة، فيخرج إلى الخارج ليستنعم بالنعيم والهواء العليل والجوِ الصافي الذي لا تكدره شائبة إلاّ من عصى الله - تعالى - فيه، كما أنّها فرصة سانحة لأن يتأمّل المسلمُ ملكوتَ السّموات والأرض، فيرى السّماء بصفائها وبهائها، فيسرحُ بخياله في هذا الفضاء فيتذكّر قولَه تعالى: {والسّماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} الأحقاف: 47 وقولَه: {رفع السّماء بغير عمد ترونها} الرعد: 2 وقولَه: {وهو الذي يمسك السّماء أن تقع على الأرض} الحج: 65ـ.
ويرى النّجوم بسحرها ووضوئها التي جعلها الله مناراتٍ في السّماء تهدي المسافرين في ظلماتِ البر والبحر، ويتأمّل في تلك الشُهُب التي تظهر أحيانا وتحتفي أحينا، يرسلها الله على الشياطينِ المسترقةِ للسّمع الصّاعدةِ في السماء، فيتذكر قولَه جلا وعلا: {وأنا لمسنا السّماء فوجدناها مُلئت حرسا شديدا وشهبا * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمعِ الآن يجد له شهابا رصدا }الجن: 7-8-9 وقولَه تعالى: {فأتبعه شهاب ثاقب} الصافات: 10، وينظر إلى القمر بروعته وجماله، وابتسامته وطلاقة وجهه، فيتذكر قولَه تعالى: {والقمر قدّرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} [يس:39-40] ثم يسرح بخياله مرة أخرى في هذه الأرض وكيفية انبساطها، وكيف جعلها الله ذلولا نمشي في مراكبها، ليتمكن الخلق من الانتفاع بها، وفي هذه الجبال الشاهقة الراسية العالية التي هي بمثابة القاعدة للأساس، فهذا الكون بجماله وكماله وسحره وأناقته مسارٌ في التفكر والتأمل في آيات الله - تعالى - المسطورة في كتاب الله والمنثورة في الكون التي هي في الأصل نوع من أنواع العبادة، تحصل بجلاء لمن خرج إلى البر أو البادية، لكن كثيرا من الناس يتفاوتون في خروجهم إلى هذه الجهات البرية، فمن كان اللهُ - تعالى - شُغلَه الشاغل وهمه المهم، فإنه يجعل من خروجه ذلك ورحلتِه تلك مرضاةً لله - تعالى -، فيُقيمُ أساسها على تقوى من الله ورضوان لا يغفل عن ذكر الله وعن الآداب والأحكام لحظة واحدة، أما إذا كان همه اللهو واللعب وتضييعُ الأوقات فإنه لعمر الله في غفلة عظيمة عن مثل هذه الآداب والأحكام مع ظنه أن الأمر لهو ولعب ومرح فقط، والحقيقةُ ليست كما يريد..
إنّ للخروج في هذه الأماكن من البادية أو الرحلات البرية أو الشّواطئ البحرية التي تكمن خارج المدينة آدابا وأحكاما يحسن بالخارج إلى مثل هذه الأماكن التنبهُ إليها والعملُ بها، فمن الآداب المهمةِ التي ينبغي التأدبُ بها عند خروجنا لمثل هذه الأماكن: ذكر دعاء النزول، فعن خولة بنت حكيم - رضي الله عنه - أنها قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من مكانه» (رواه مسلم وروى ابن ماجة).
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لدَغَت عقربٌ رجلا، فلم ينم ليلته، فقيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنّ فلانا لدغته عقرب، فلم ينم ليلته، فقال - عليه الصلاة والسلام - «أما إنّه لو قال حين أمسى: أعوذ بكلمات الله التّامات من شرّ ما خلق، ما ضرّه لَدْغُ عقربٍ حتى يصبح»، فهذا الدعاء الذي يُقال عند النزول في أي مكان كما يقال في الصباح والمساء، له أهمية كبيرة ومفعول عجيب، فهو حري وكفيل بإذن الله أن يَمنع عنك لدغ العقاربَ والثعابينَ وطَرْفَ النمل، إلا ما شاء الله - تعالى -من الغفلة التي تصيب القائل أو الناسي الذي ينسى هذا الدعاء فيقع في مقدور الله - تعالى - ومن الآداب أيضا: أنه يُسن للنّازل أن يخصّص مكانا للصلاة، يصلي فيه ويرفعُ الآذان منه لكل صلاة في وقتها، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي صعصعة المازني: «إني أراك تحب الغنمَ والبادية، فإذا كنتَ في غنمك أو باديتك، فأذنْتَ بالصّلاة فارفع صوتك بالنّداء، فإنه لا يسمع مدى صوتِ المؤذنِ جن ولا إنس ولا حجر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» (رواه البخاري)، وإن كان النازل قد خرج عن البلد مسافة السفر فإنّه يجوز له القصر والجمع، وقصر الصلاة في وقتها أفضل.
وعلى المسلم أن يحرص على الأشياء المفيدة كأن يجلب معه بعض الكتيبات البسيطة ككتب الفقه الصغيرة لترجع إليه إذا احتجت إلى مسائل، أو كتابٌ يختص بالأذكار ليكون الذكر رفيقك في حاضرتك وباديتك، وأن تصحب الرّفقة الصّالحة الطيبة التي يعينونك على الخير ويذكرونك به، حتى تعبد الله على بصيرة وإن كنت في البر.
وفّقنا الله وإيّاكم لكل خير، وأبعدنا عن كل شرّ، إنه نعم المولى ونعم النصير.