الوطنية: مصدر صناعيٌّ من الوطن، والوطن - كما جاء في القاموس -: منزلُ الإقامة ومربطُ البقر والغنم، وجمعه: أوطان، ووطن به يطِن: أقام، وأوطنه ووطَّنه واستوطنه: اتَّخذه وطنًا، هذا في اللغة.
والوطنية في الاستعمال المعاصر فكرةٌ جديدة على قِيَمنا واتجاهاتنا الفكرية التي كانت في أمَّتنا الإسلامية.
وهي تقوم على تمجيد النسبةِ إلى وطنٍ من الأوطان، والعمل على الدفاع عنه وحمايتِه ورعايته ورِفعته، وهي فكرة يراد منها أن يلتقي عليها أبناءُ بلد واحد، وقد تسرَّبتْ إلينا من الغرب، وقامت عليها حياتُنا السياسية في عددٍ من بلاد المسلمين.
إنّ حبَّ الإنسان لبلده أمرٌ فُطِرت عليه النّفسُ البشرية، ولا يُنكره الإسلامُ؛ لأنه لا يعارض الفطرةَ، وهذا نهجُه في كل ما تميل إليه الفطرةُ؛ كالتملُّك والغريزة الجنسية، وحبِّ الانتقام، وقد قَرن القرآنُ الكريم قتْلَ الأنفس بالإخراج من الدِّيارِ؛ فقال - تعالى -: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ النساء: 66، ولكن الإسلام يعضد هذه الفطرة، ويربط حبَّ الوطن بالعقيدة، وبذلك سما بهذه الفطرة؛ لتتفقَ وتكريمَ اللهِ للإنسان. كما إنَّ دفاع المرء عن بلده أمرٌ يدعو إليه الإسلامُ؛ فقد جعل الجهادَ فرضَ عينٍ على أهل البلد إذا هُوجموا، على الرجال والنساء، وعلى الشباب والشيوخ من القادرين.
ولقد أقر الاسلام فضل بعض البلاد عاى أخرى، فهناك بلادٌ ثبت فضلُها؛ كالحرمين الشريفين، وكبلاد الشامِ التي ثبت فضلُها في الكتاب والسنَّة الصحيحة من نحو قوله - تعالى -: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ الإسراء: 1 ومن نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن حَوَالة - رضي الله عنه - «عليك بالشام؛ فإنّها خيرةُ بلادِ الله في أرضه، يجتبي إليها خيرتَه من خَلقه»، وثبت فضلُ هذه البلاد لسببٍ ديني؛ كما هو الحال في مكة التي فيها البيتُ الحرام وقِبلةُ المسلمين، فقد ودَّع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الهجرة مكةَ عندما وقف على الحَزْوَرةِ وقال يخاطب مكة: «والله إنَّكِ أحبُّ البلاد إلى الله، وأحبُّ البلاد إليَّ، ولولا أن أهلَكِ أخرجوني منك ما خرجتُ»، فكانت أحبَّ البلاد إلى الله، ولكنها عندما استعلن الشركُ فيها، وأصرَّ أهلُها على الضلال، وعاندوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآذَوْه وآذوا المؤمنين، عدَّها الشرعُ دارَ كفر، وأوجب على المؤمنين الهجرةَ منها، ودعا الماكثين فيها ظالمين لأنفسهم، قال - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ النساء: 97 – 99.
وحب البلد ينبغي أن يكون مقيَّدًا بأحكام الشرع؛ فلا يجوز أن يكونَ البلد أحبَّ إلى المسلم من الله ورسولِه وجهادٍ في سبيله، وإلا كان المرءُ مهددًا من الله، قال - سبحانه -: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ التوبة: 24.
إنّ محبّةَ الوطن والدفاع عنه وابتغاء رفعته؛ هذه كلُّها أمورٌ طيبة ومطلوبة، والإسلام يدعو إليها، ولكن هذا شيءٌ، وإحلال الوطن محلَّ العقيدة شيءٌ آخر؛ فالإسلام ربط أتباعَه بعقيدة التوحيد، قال – تعالى:
﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ آل عمران: 19،
وقال - سبحانه -: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ آل عمران: 85،
وأقام أخوَّةَ المسلمين على الإيمان، فقال - عز وجل -: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ الحجرات: 10
ولما ربط الإسلام حبَّ الوطن بالعقيدة، رأينا على مر التاريخِ أن الذين يصونون أوطانَهم، ويدافعون عنها، ويرفعون سمعتَها هم المؤمنون الصالحون؛ إن هذه الأوطانَ ديارُ الإسلام، والمسلمون هم حُماتها، وأحداث التاريخ القريب في الجزائر تنطق بهذه الحقيقة.
وعليه، فإن الواجب علينا أن نحبِّب الناس بأوطانهم؛ حتى يشعر الإنسانُ بالدافع الذي يدفعه إلى الولاءِ لهذا الوطن والدفاع عنه؛ وذلك يقتضي،الاحترام وتوفير الحرية للناس، وتوفير الحقوق المشروعة للإنسان وكذلكتوفير الأمن والرعاية الصحية للإنسان وأسرته.
وإتاحة المجال لإبداع المبدع، وتيسير السُّبُل والوسائل التي يحتاج إليها؛ ليكون عطاؤه كبيرًا ينفع أمَّتَه، وينفع الناسَ جميعًا، ويجب أن يُكافَأ على إبداعه المكافأةَ المجزئة. وتحقيق العدالة لكل فرد في الوطن، وإنصاف كل طبقات الشعب،وبمحاربة الفقر والجهل والمرض والفساد.
إن المرءَ عندئذٍ لا يفكِّر في البُعد عن وطنه، ويبقى فيه، ولا يجعل عطاءه الفكريَّ والمادي للآخرين، إنَّ العقول المهاجرةَ، والكفاءاتِ العظيمةَ المرتحلة إلى أوروبا وأمريكا ستعود عندما تشعر بأنها موفورةُ الكرامة والأمن في بلدها، والله غالبٌ على أمره، والحمد لله رب العالمين.