يبلغ المؤمن منه أعلى المراتب

أهمية تحرّي الصّدق وتجنّب الكذب

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور ليهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا”.
إن الحبيب صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يأمرنا بلزوم الصدق  في كل زمان وكل مكان وفي كل الأحوال، وفي كل المواقع والمواقف حتى يبلغ المؤمن منه أعلى المراتب.
كما يخبرنا بأن الصدق يدل صاحبه ويقوده إلى البر وهو اسم جامع لكل الخيرات من فعل الحسنات وترك المنكرات.
ويخبرنا أيضا بأن البر بدوره يهدي صاحبه الذي  يلتزمه إلى الجنة تصديقا لقوله تعالى : {إن الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا}.الإنسان: 5] وقوله تعالى: {إن الابرار لفي نعيم}الإنفطار: 13.
ويخبرنا أيضا أن المؤمن الذي يتوخى الصدق ويتحراه ويتقصده  ويتغياه، فإنه يبلغ به درجة الصديقين ويثبِّت الله له ذلك وهو مأمون الخاتمة إن شاء الله.
في الحديث أيضا نهْيٌ عن الكذب وتحذير منه ومن عواقبه ومنها أن الكذب يقود صاحبه إلى الفجور وهو الميل إلى الفساد والانبعاث في المعاصي وشق ستر الديانة، وهو اسم جامع لكل أنواع الشرور والآثام.
وأن الفجور بدوره يقود صاحبه ويهديه إلى النار على حد قوله تعالى: {وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين}الانفطار: 14 - 16 وهذه خاتمة سوء والعياذ بالله.
كما يخبر الحديث أن الذي يتساهل في الكذب يكْـثُـر منه فيعرف به، أو أن الذي يكذب ويجتهد في الكذب ويتحراه ويجعله جزءًاً من منهج حياته، ووسيلة من وسائله التي يعتمدها لتحقيق مآربه وينسج به علاقاته..ويتمادى في ذلك، ينتهي به الأمر إلى أن يُـكتب عند الله كذابا أي يَحكُـم عليه بهذه الصفة ويُـظهِــر أمره إلى المخلوقين من الملإ الأعلى ويلقي ذلك في قلوب أهل الأرض.
هذه خلاصة تظهر من القراءة الأولى للحديث، أما تدبر المعاني المكنونة في ثنايا كلماته والغوص في العبارات النبوية فإنها تنتهي بالقارئ إلى أن الحديث الشريف يدور على كلمة واحدة  وهي التزام فضيلة الصدق.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: “فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة”، فهده حكمة من حكم الصدق وثمرة من ثمراته القريبة، وقطف من قطوفه الدانية، وليس يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرنا بالحِـكم حتى نلتزم أمره ونمتثله بل يكفي أن يأمرنا لأننا نؤمن أنه صلى الله عليه وسلم لا يأمرنا إلا بما فيه خير لنا في عاجلنا وآجلنا: أليس هو من قال فيه الكريم جل ذكره: {النبيء اولى بالمومنين من انفسهم} الأحزاب: 6.
إن الحِكم التي يذكرها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقترنة بالأحكام التي يبلغها لنا، إنما هي من باب التحفيز والتشجيع على امتثال أوامره صلى الله عليه وسلم، وأما حقيقة الامتثال إنما تكون لحكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا للحِكم التابعة للأحكام قال تعالى: {وما كان لمومن ولا مومنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبيناً}الأحزاب: 36، ذلك بأن الأحكام الشرعية كثيرة ونحن  نتعرف عليها تباعاً وأما وعد الله تعالى ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم فواحد عرفناه فآمنّا به قال تعالى: {ولما رأى المومنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً} الأحزاب: 22.
ثم إن الأحكام الشرعية (أي أمر الله الحكيم وأمر رسوله الكريم) مؤسسة على الحكمة لا تخرج عنها البتة وأن هذه الأحكام ضامنة لمصالح العباد، لا يُـتصور أنها تناكد الحكمة أو تعارض المصالح، وجهل بعض الناس بها ليس دليلا على انتفائها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “…ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا”، يستخلص منه فائدتان كبيرتان هما:
- أن شخصية المؤمن، كشخصية كل إنسان، في دينامية مستمرة وفي تجدد دائم، وعليه ينبغي للمؤمن أن يمضي قدما في الاتجاه الإيجابي يرتقي نحو المعالي بِحمْـل نفسه على المكارم ومنها التزام فضيلة الصدق باختيارها في كل المواقع والمواقف وإيثارها على كل البدائل المتاحة. ومثلها في العبارة والقصد قوله تعالى: “…ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه…”. ومما يؤكد الحاجة إليها قوله تعالى: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا[البقرة : 215، وقوله تعالى: {ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّـن لهم الحق} البقرة: 108.
فعلى المسلم مجاهدة نفسه على تحري الصدق والتحلي به لأن
«الصدق يهدى إلى البر والبر يهدى إلى الجنة وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقاً” (متفق عليه).
ولأن الصدق دليل الفضائل والكمال وعنوان الرقي والجمال، لا يستغنى عنه عالم ولا حاكم ولا قاض ولا تاجر ولا رجل ولا امرأة ولا صغير ولا كبير ما داموا جميعاً يعيشون في مجتمع مسلم، وما وقعت الأمة في الضنك والشقاء الذي تحياه الآن إلا يوم كفن الصدق ودفن.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19635

العدد 19635

الجمعة 29 نوفمبر 2024
العدد 19634

العدد 19634

الأربعاء 27 نوفمبر 2024
العدد 19633

العدد 19633

الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024