آداب التعامل

وقفـــات مــن سـورة الحجـرات

خاطب الله - عز وجل - المؤمنين في هذه السورة خمس مرات بـقوله {يا أيها الذين آمنوا}، في كل نداء من هذه النداءات توجيه إلى مكرمة خلق ينبغي التحلي به، ثم خاطب في المرة السادسة عموم الخلق بقوله ((يا أيها الناس)) ليرشدهم إلى طريقة تحفظ أمن الجميع وسلامتهم وتعاونهم على البر والتقوى وهي تضع جملة من الآداب في التعامل.
أولاً: أدب التعامل مع الله ورسوله - عليه الصلاة والسلام -:
قال الله - تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم}.
نداء من الله للذين آمنوا به بالغيب. واستجاشة لقلوبهم بالصفة التي تربطهم به، وتشعرهم بأنهم له، وأنهم يحملون شارته، وأنهم في هذا الكوكب عبيده وجنوده، وأنهم هنا لأمر يقدره ويريده، وأنه حبّب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم اختيارا لهم ومنة عليهم، فأولى لهم أن يقفوا حيث أراد لهم أن يكونوا، وأن يقفوا بين يدي الله موقف المنتظر لقضائه وتوجيهه في نفسه وفي غيره، يفعل ما يؤمر ويرضى بما يقسم، ويسلم ويستسلم:
 ثانياً: الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
قال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}.
وقد نهى الله - تعالى -في هذه الآية عن ثلاثة أمور:
- عن التقدم بين يديه - صلى الله عليه وسلم - بما لا يأذن به من الكلام والآراء والأحكام
- عن رفع الصوت بحضرته.
- عن الجفاء في مخاطبته ومحاورته.
كما أمر بتعظيمه - صلى الله عليه وسلم -، وتوقيره وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته، والتزام توجيهاته وأوامره. وبما أن حرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيا كحرمته ميتا، وكلامه المسموع منه مباشرة ككلامه المروي عنه بعد موته في الرفعة والإلزام، فقد وجب على كل من يسمع حديثه وسنته وهديه ألا يرفع صوته عليه أو يعرض عنه لأن رفع الصوت والجهر به في حضرته - صلى الله عليه وسلم - أو عند تلاوة سنته دليل على قلة الاحتشام وترك الاحترام.
 ثالثاً: التعامل مع الفسقة:
قال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}.
وبما أن الفسقة أولياء للشيطان، والشيطان عدو للمؤمن الصادق فإن همّ الشيطان وأوليائه الفسقة دائما هو إيقاع الفتنة بين المؤمنين، وتمزيق صفهم بنقل الأخبار الكاذبة والملفقة، والأضاليل المخترعة. فإذا كان الناقل فاسقا وجب التثبت والتبين والبحث عن الحقيقة في الأمر. وينطبق هذا التوجيه الرباني أيضا على الأنباء والتحاليل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تنشرها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة التي يشرف عليها فساق الأمة أو أعداؤها لأن غاية هؤلاء في الأصل فتنة الأمة وإضعافها وإفساد أحوالها.
ولقد بين لنا كيفية التغلب على هذه الفتنة بقوله: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون}.
رابعا: في تعامله مع إخوته المؤمنين في حال غيبتهم وعدم حضورهم:
قال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسّسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه، واتقوا الله إن الله تواب رحيم}، وإذ حض - سبحانه وتعالى - في الآية السابقة على إساءة الظن بالفاسق والتبين في أقواله وتصرفاته، نهى هنا عن إساءة الظن بالمؤمنين وعن التجسس عليهم، ومحاولة الاطلاع على أسرارهم أو نقلها إلى أعدائهم، وعن اغتيابهم، وانتهاك أعراضهم في غيبتهم، وقد أخرج البخاري ومسلم قوله - صلى الله عليه وسلم -: {إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك}.
والغيبة ثلاثة أوجه في كتاب الله - تعالى -: الغيبة، والإفك، والبهتان. الغيبة أن تقول ما في أخيك، والإفك أن تقول فيه ما بلغك عنه، والبهتان أن تقول ما ليس فيه.
وقد عد - سبحانه وتعالى - هذه الموبقات بمثابة أكل لحم المؤمن ميتا، فقال: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه}، وهذا غاية البشاعة واللؤم والانحطاط.
- خامسا: نداء البشرية كافة:
قال - تعالى -: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} .كان النداء في هذه الآية بقوله - تعالى -: (يا أيها الناس) خطابا لما يعم المؤمن والكافر مما ترتب على كونهم من أصل واحد هو آدم وحواء، وتذكيرا لهم بحقيقة كونية، هي أنهم خلقوا من نفس واحدة: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء}، (النساء 1)، وهذا ما يؤكد الأخوة البشرية الشاملة التي لا تفرق بين مسلم وكافر، أبيض أو أسود أو أحمر إلا بالتقوى، وأن هذه الأخوة مدعاة بين الأفراد والشعوب والقبائل إلى التعارف بما يؤدي إليه من أعمال البر والإحسان والتناصح والمعاملة الكريمة، والتعاون على معرفة الحق والعمل بمقتضاه. وأن ما يميزهم عن بعضهم شئ واحد هو التقوى التي هي ثمرة الإيمان الحق الذي هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان، واتقاء الشرك ظاهرا وباطنا، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله}.
يا أيها الناس. يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا، المتفرقون شعوبا وقبائل. إنكم من أصل واحد. فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا، إنما هنالك ميزان واحد تتحدّد به القيم، ويعرف به فضل الناس: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).. والكريم حقا هو الكريم عند الله. وهو يزنكم عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين: (إن الله عليم خبير)..
وهكذا تسقط جميع الفوارق، وتسقط جميع القيم، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19635

العدد 19635

الجمعة 29 نوفمبر 2024
العدد 19634

العدد 19634

الأربعاء 27 نوفمبر 2024
العدد 19633

العدد 19633

الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
العدد 19632

العدد 19632

الإثنين 25 نوفمبر 2024