عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه”.
الكفاف ما كفّ عن السؤال مع القناعة لا يزيد على قدر الحاجة، وفيه الزهد: الكفاف الذي ليس فيه فضل عن الكفاية. روى أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب عن سعيد بن عبد العزيز أنه سئل: ما الكفاف من الرزق؟ فقال: شبع يوم وجوع يوم. وقال القرطبي: هو ما لم يكف عن الحاجات ويدفع الضرورات والفاقات ولا يحلق بأهل الترفهات. وإنما كان ذلك فلاحًا لكونه حاز كفايته وظفر بإقامته، وسلم من تبعة الغنى وذلّ سؤال الشيء .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس الغِنَى كثرة العرض ولكن الغِنى غِنى النفس”، قال ابن بطال: معنى الحديث ليس حقيقة الغنى كثرة المال، فكثير من الموسع عليه فيه لا ينتفع بما أوتي، جاهد في الازدياد لا يبالي من أين يأتيه. فكأنه فقير من شدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألحّ في الطلب. وقال القرطبي: وإنما كان الممدوح غنى النفس لأنها حينئذ تكفّ عن المطامع فتعزّ وتعظم، ويحصل لها من الحظوة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله مع كونه فقير النفس لحرصه، فإنه يورّطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال لدناءة همته وبخله وحرصه، فيكثر من يذمه من الناس فيصغر قدره عندهم فيصير أحقر من كل حقير وأذلّ من كل ذليل .
و لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيمانًا ويقينًا، وأقواهم ثقةً بالله سبحانه وتعالى وأصلحهم قلبًا، وأكثرهم قناعة ورضى بالقليل، وأنداهم يدًا، وأسخاهم نفسًا، حتى كان – عليه الصلاة والسلام – يفرِّق المال العظيم: الوادي والواديين من الإبل والغنم ثم يبيت طاويًا. وكان الرجل يُسْلم من أجل عطائه صلى الله عليه و سلم ثم يحسن إسلامه. قال أنس رضي الله عنه: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا؛ فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.
أما تلك الصورة الرائعة من بذله – عليه الصلاة والسلام – التي جعلت أقوامًا وسادة وعتاة من أهل الجاهلية تلين قلوبهم للإسلام وتخضع للحق، فأمامها صور عجيبة لا تقل في جمالها عنها من قناعته – عليه الصلاة والسلام – ورضاه بالقليل وتقديم غيره على نفسه وأهله في حظوظ الدنيا؛ بل وترك الدنيا لأهل الدنيا، ومن ذلكم:
أولاً: قناعته صلى الله عليه وسلم في أكله:
روت عائشة رضي الله عنها تخاطب عروة بن الزبير رضي الله عنهما فقالت: ابن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أُوقِدَت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر، والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم جيران من الأنصار كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم فيسقيناه.
ثانيًا: قناعته صلى الله عليه وسلم في فراشه:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم وحشوه من ليف.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثّر في جنبه، قلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاءً؛ فقال: ما لي وللدنيا؛ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
ثالثًا: تربيته صلى الله عليه وسلم أهله على القناعة:
لقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أهله على القناعة بعد أن اختار أزواجُه البقاء معه، والصبر على القلة، والزهد في الدنيا، حينما خيرهن بين الإمساك على ذلك أو الفراق والتمتع بالدنيا، كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ الأحزاب: 28 – 29.
فاخترن – رضي الله عنهن – الآخرة، وصبرن على لأواء الدنيا، وضعف الحال، وقلة المال، طمعًا في الأجر الجزيل من الله عز و جل.
ولم يكن هذا المسلك من القناعة إلا اختيارًا منه صلى الله عليه وسلم وزهدًا في الدنيا، وإيثارًا للآخرة.