لا ريب أن نعم الله تعالى على عباده كثيرة لا تحصى؛ إذ إن إحصاءها خارج عن مقدور البشر؛ مصداقًا لقول الله عز وجل في محكم تنزيله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}،[النحل: 18]. وكثرة النعم من المنعم، والإنسان لا يمكنه أن يُؤدي حقها إلا بالشُّكر عليها ومن هذه النعم أنه تبارك وتعالى أحسن إلينا بإتمام فريضة الصيام، ثم إقامة شعيرة صلاة العيد في يومٍ أعظمَ اللهُ قدرَه، والذي نسأله جل في علاه القبول والتوفيق للتمسك بالدين وشرائع الإسلام. الشُّكر اعتراف بالمنعم والنعمة، بل هوسبب من أسباب حفظ النعمة وزيادتها، قال الله تعالى في محكم تنزيله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم: 7]، فهذا وهيب بن الورد يُسأل عن ثواب شيء من الأعمال، كالطواف ونحوه، فيقول: لا تسألوا عن ثوابه، ولكن سَلُوا ما الذي على مَن وُفِّقَ لهذا العمل من الشُّكر، للتوفيق والإعانة عليه. وقد قيل: إذا أنت لم تَزْدَدْ على كُلِّ نِعمةٍ *** لموليكَها شُكْرًا فلسْتَ بشاكِر فكل نعمة على العبد من الله في دين أودنيا تحتاج إلى شكرٍ عليها، ثم التوفيق للشُّكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، ثم التوفيق للشُّكر الثاني نعمة أخرى تحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبدًا فلا يقدر العباد على القيام بشكر النعم، لكن هناك كثير من الوسائل التي تعين على شكر النعم وزيادتها نذكر منها:
1 - ترك المعاصي: قال مخلد بن الحسين: (الشكر ترك المعاصي)، وفي بعض الآثار الإلهية: {ابن آدم! خيري إليك نازل، وشرّك إليّ صاعد، أتحبب إليك بالنعم، وتتبغض إليّ بالمعاصي}.
2 - الإعتراف له بالنعمة: والثناء بها عليه، وعدم استخدامها في شيء من معاصيه، وقد سبق الحديث عن ذلك
3 - النظر إلى أهل الفاقة والبلاء: فإن ذلك يوجب احترام النعمة وعدم احتقارها، ولذلك قال النبي: {إذا نظر أحدكم إلى من فُضّل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فَضُل عليه متفق عليه. وفي رواية: انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم}.
قال النووي: قال ابن جرير وغيره: هذا حديث جامع لأنواع الخير، لأن الإنسان إذا رأى من فُضّل عليه في الدنيا طلبت نفسه مثل ذلك، واستصغر ما عنده من نعمة الله تعالى، وحرص على الازدياد ليلحق بذلك أويقاربه، هذا هو الموجود في غالب الناس، وأما إذا نظر في أمور الدنيا إلى من هودونه فيها، ظهرت له نعمة الله عليه وشكرها، وتواضع وفعل فيه الخير
4 ـ معرفة أن الإنسان بمنزلة العبد المملوك لسيده: وأنه لا يملك شيئاً على الإطلاق، وأن كلّ ما لديه إنما هو محض عطاء من سيده. قال الحسن: (قال موسى: يا رب! كيف يستطيع آدم أن يؤدي شكر ما صنعت إليه؟ خلقته بيديك، ونفخت فيه من روحك، وأسكنته جنتك، وأمرت الملائكة فسجدوا له. فقال: يا موسى! علم أن ذلك مني فحمدني عليه، فكان ذلك شكر ما صنعت إليه!). ولذلك ثبت في الصحيحين أن النبي قام حتى تقطرت قدماه. فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «أفلا أكون عبداً شكوراً». أي أن كل ما فعله الله تعالى بي من الاصطفاء والهداية والمغفرة هومحض عطاء منه سبحانه يستحق عليه الحمد والشكر، فما أنا إلا عبد له سبحانه.
5 - الإنتفاع بالنعم وعدم كنزها: فعن عمروبن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «كلوا واشربوا وتصدّقوا من غير مبخلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»، [أحمد والنسائي والترمذي وصححه الحاكم
6 - الصدقة والبذل والعطاء: فإن ذلك من علامات شكر النعم، ولذلك روي أن داود عليه السلام كان يقول في دعائه: (سبحان مستخرج الشكر بالعطاء). ودعي عثمان بن عفان إلى قوم على ريبة، فانطلق ليأخذهم، فتفرقوا قبل أن يبلغهم، فأعتق شكراً لله، ألا يكون جرى على يديه خزي مسلم!!
7 - ذكر الله عزّ وجل: فالشكر في حقيقته هوذكر لله عز وجل، وورد عن مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً}، [الإسراء:3 . قال: (لم يأكل شيئاً إلا حمد الله عليه، ولم يشرب شراباً إلا حمد الله عليه، ولم يبطش بشيء قط إلا حمد الله عليه، فأثنى الله عليه أنه كان عبداً شكوراً ). وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشرية فيحمده عليها»، مسلم
8 - التواضع وترك الكِبر: فالكبر يضاد الشكر، لأن حقيقة الكبر هو ظن العبد أنه المالك المتصرف، والشكر هو الاعتراف لله عز وجل بذلك.
9 - شهود مشهد التقصير في الشكر: وذلك بأن يعرف العبد أنه مهما بالغ في الشكر، فإنه لن يوفى حق نعمة واحدة من نعم الله تعالى عليه، بل إن الشكر نفسه نعمة تحتاج إلى شكر، ولذلك قيل: إن كان شكري نعمةُ الله نعمةً عليّ له في مثلها يجب الشكر فكيف وقوع الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر.
10 - مجاهدة الشيطان والاستعاذة بالله منه: قال ابن القيّم: (ولما عرف عدوالله إبليس قدر مقام الشكر وأنه من أجل المقامات وأعلاها، جعل غايته أن يسعى في قطع الناس عنه فقال: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}، [الأعراف:17].
11 - ترك مخالطة أهل الغفلة: فإن مخالطتهم تنسي الشكر وتقطع العبد عن التفكر في النعم. قيل للحسن: هاهنا رجل لا يجالس الناس، فجاء إليه فسأله عن ذلك، فقال: إني أمسي وأصبح بين ذنب ونعمة، فرأيت أن أشغل نفسي عن الناس بالاستغفار من الذنب، والشكر لله على النعمة، فقال له الحسن: أنت عندي يا عبد الله أفقه من الحسن.
12 - الدعاء: بأن يجعلك الله تعالى من الشاكرين، وأن يوفقك لطريق الشكر ومنزلته العالية. ولذلك ثبت أن النبي قال لمعاذ رضي الله عنه: {والله إني لأحبك، فلا تنسى أن تقول دبر كل صلاة: «اللّهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»، [أحمد وأبوداود والنسائي وهوصحيح]. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.