المسلم النّاضج في فهمه، المتأثّر بمبادئ إسلامه، والذي سرى روح الايمان في دمه، تراه في جميع تصرفاته مسلما ربانيا، انساني المواقف، رحيما في المعاملة، رقيقا في المعاشرة، يزن كل شيء بميزان إسلامه، وإن لم يوافق رغباته وأهواءه، يبتغي بعمله رضا الله ربّ العالمين، وهو فيض رحمة على الصغير والضعيف والمسكين، وبحر عطف وحنان على كل ذي حاجة من خلق الله تعالى، وخير من يُجل الأكبر منه، ويعرف حقه عليه، وهو بذلك ينسجم مع انسانيته المشرقة بنور الايمان، ومع إسلامه النازل به من أجل سعادة الانسان، ومع ارتباطه برسوله حبا واتباعا. من أجل كل هذا جاءت نصوص القرآن والسنة لتضع أصولا للسلوك الاجتماعي لا عهد للناس يمثلها، فأمر بالعناية بكل ضعيف وبكل مسكين، وبكل كسير الجناح منكوب، كما أمر برحمة الصغير وتوقير الكبير في السن وفي الفضل والعلم، فقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} (الضحى ٩ - ١٠)،
وقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: ٢٨).
قال ابن كثير: أي أجلس مع الذين يذكرون الله ويهلّلونه ويحمّدونه، ويسبّحونه ويكبّرونه ويسألونه بكرة وعشيا من عباد الله سواء كانوا فقراء أو أغنياء، أو أقوياء أو ضعفاء.
وبهذا يكتسب المسلم صفة الصّلاح والفلاح، ويكون ربانيا خالصا، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “السّاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وأحسبه قال: وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصّائم الذي لا يفطر” (البخاري ومسلم).
ويتحدّث صلى الله عليه وسلم عن الرحمة المزروعة في المسلم على الصغير والكبير، والحيوان والشجر والجماد، أنّها من الله تعالى وهذا ما ميّز المسلم أما منزوعها فهو كالجماد لا يرحمه الله أبدا؟ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنه وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إنّ لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدا، فنظر اليه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: “من لا يَرحم لا يُرحم” (رواه الشيخان).
وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: “إنّي لأقوم إلى الصلاة وأريد أن أطوّل فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه” (رواه البخاري).
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم انه كان يحمل أمامة على عاتقه أثناء الصلاة وهي طفلة، وهي بنت إبنته زينب رضي الله عنها، وكان الحسن والحسين يركبان على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فيطيل السجود حتى لا يزعجهما، وربما كان ذلك وهو يصلي إماما بالناس.
وكانت المرأة تأتيه بالصبي ليباركه فيبول الصبي على ثوبه فتنزعج المرأة، وتطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيها الثوب لتغسله، ولكنه كان يكتفي بنضح الثوب بالماء ويهوّن الأمر على أمه.
وأما ما يتصل بتوقير الكبير وصاحب الفضل، فإن له في ذلك يدا طولى تدل على كمال أخلاقه وشدة اهتمامه برعاية الجانب الانساني في الحياة الاجتماعية، وقد وصل به الأمر الى أنه تبرأ من الذين لا يرحمون الصغار ولا يوقرون الكبار، ولا يهتمون بمكانتهم العلمية وقيمتهم الاجتماعية، فقال صلى الله عليه وسلم: “ليس منّا من لا يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا ويعطي لعالمنا حقه”، قال النووي حديث صحيح رواه أبو داود والترميذي، وقال الترميذي حديث حسن صحيح.
وكان صلى الله عليه وسلم يعلّم أصحابه هذا السلوك القويم في تصرفاتهم، بحيث يعطي كل ذي فضل فضله وذي مكانة مكانته، وكبير السن ما يناسب حاله سواء كان في الإمامة العظمى أو في الامارات الصغيرة أم في إقامة الصلاة أم في السلوك الاجتماعي العام، كما كان صلى الله عليه وسلم يحض أصحابه أن يكون الواقف وراءه مباشرة في الصلاة من أهل العقول الراجحة وذوي الفضل البيـّن، فيقول صلى الله عليه وسلم: “لِيلني منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم”.
وفي حديث آخر يقول عليه الصّلاة والسّلام: “يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنّة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنّا ولا يؤمنَّ الرّجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه” (رواه مسلم).
هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للصبي وللأمّهات وللمساكين والكبار والصّغار، والأقوياء والضّعفاء، وكان صلى الله عليه وسلم صورة معبّرة في أخلاقه وأسلوب تعامله وفي تقديمه للأشياء، وضع الناس في منازلهم فعلينا بالاقتداء به حبّا وسلوكا وأخلاقا واتباعا.