رائد الإصلاح والتفسير الديني في الأغواط
نتحدث عن علم من أعلام الجزائر وهو شخصية علمية وطنية لها مكان في قلوب الجزائريين قاطبة، وفي قلوب الأغواطيين بصفة خاصة، إذ يعتبرونه معلمهم ومرشدهم وموجههم إلى العقيدة الصحيحة. صحح ما لصق بعقيدتهم من شوائب انه الشيخ مبارك الميلي. موقفه من دعاة الاندماج، دوافع تأليفه لكتابيه تاريخ الجزائر، والشرك ومظاهره دون نسيان جهوده في التربية والتكوين، إعداده لرجال حملوا أمانة النهوض بالأمة ومواقف سعت إلى عرقلة مسيرته ورسالته. لكن الحديث عن الشيخ مبارك المليلي يحتم العودة الى جمعية العلماء المسلمين واستراتجياتها التي اعتمدها الشيخ محل موضوعنا.
لماذا جمعية العلماء المسلمين؟
هذا يقودنا للحديث عن تأسيس الجمعية كفكرة، إن البحوث تحدثنا أن فكرة جمع شمل العلماء راودت الشيخ ابن باديس منذ أن كان طالبا بالزيتونة ما إن تخرج ورجع إلى بلده شد الرحال نحو المشرق مستطلعا أحوال المشارقة وما هم عليه من خير وما أصابهم من ضير، فزار مصر وبتحديد الأزهر الشريف، والتقى بالشيخ البخيت، وناقشه، وهنا قال الشيخ البخيت: إتي أمام بحر من العلم، وكتب له في دفتر جوائزه شهادة عالم من علماء الإسلام، ثم رحل إلى الشام ووقف عند قبر خالد بن الوليد، وفي الوقوف أمام هذا العظيم رمز وأي رمز؟، والتقى بالشيخ البشير الإبراهيمي الذي كان مدرسا بالمدرسة السلطانية، وضرب معه موعدا بالمدينة حيث يوجد الشيخ الطيب العقبي، إذ كان يدرس بالمدينة المنورة، وطلب ابن باديس من صاحبيه (الإبراهيمي والعقبي) العودة إلى أرض الوطن، وقال لهما: إن الشرق له رجاله، وإن الجزائر في حاجة إليكما، وهناك التقى ابن باديس بشيخه حمدان لونيسي وقال له: ناشدتك يا عبد الحميد لا تجعل علمك في خدمة الاستعمار، فوقف ابن باديس عند شباك التوبة وقال: أعاهدك يا رسول الله أني أعيش من أجل دينك مجاهدا، وأموت من أجل دينك، وقد تحقق ذلك.
هنا كانت الخطة الإستراتجية للجمعية فكان ابن باديس بالشرق الجزائري، والشيخ البشير الإبراهيمي بالغرب الجزائري، والشيخ الطيب العقبي بالوسط الجزائري، وبقيت منطقة أخرى لها غربها وشرقها ووسطها وهي الجنوب المتسع الأرجاء فلا بد من أن يوفد إليه من يقوم بالمهمة:
فكان بالجنوب الشرقي علماء أجلة من وادي سوف، وبسكرة لهم علاقة بالشيخ ابن باديس فقد كان الشيخ اللقاني بتوقرت وهو شيخ فقيه مبرز في العلم، بحسب ما ذكره لي شيخي أبو بكر-رحمه الله تعالى-، وكان بالجنوب الغربي وبالضبط بوادي ميزاب ثلة من العلماء الإباضيين الذين آزروا ابن باديس، وبقيت منطقة بوسط الجنوب وهي منطقة معروفة بحبها للعلم والعلماء، وهي مدينة الأغواط، قلب الصحراء وبابه فقد تحرك أهلها وخاصة مشايخ الطريقة الرحمانية العزوزية، فاتصلوا بالشيخ باديس فأوفد إليهم في أول الأمر الشيخ سعيد الزاهري، وبقي في الأغواط سنة، وكان الشيخ الزاهري_رحمه الله- حكيما، نصوحا لحركة الإصلاح، يريد لها النجاح ولو بالانتقاص من نفسه، فقد وصف نفسه أن فيه خفة روح فقال لأهل الأغواط: أنا لا أليق لهذه المدينة المحافظة وإنما أدلكم على شخصية علمية تتلائم مع عقلية أهل هذه المدنية فدلهم على الشيخ مبارك بن محمد الميلي.
لمحة عن الشيخ مبارك
من هو الرجل؟ لا أريد أن أحدثكم عن حياته فهذا لا يليق بهذا المقام وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل.
أقف عند لفظ «رجل» لنعرف معناه: ليس الرجل في نظري ذلك الذكر المقابل للأنثى، الرجل الحقيقي الذي يعيش بفكره، ويحيا بقلبه، ويشعر بإدراكه ويسخر حياته لما ينفع الناس، ولا يسخرها لخدمة الجسم الفاني ولا لشهواته، إن الرجل الحقيقي في نظري هو الذي يسيّر المجتمع، تربية وتوجيها ونصيحة وإرشادا، ولا يساير الناس فيذوب ويتلاشى فيهم.
إن الرجل الحقيقي في نظري هو الذي يعيش لغاية، ويسعى لهدف، فقد سخر نفسه ليستفيد منه المجتمع ولا يستفيد هو من المجتمع، يشقى ليسعد الناس، يذوب ويذبل ليعيش الناس، وهدفه إرضاء رب الناس، إن الرجل بالأوصاف التي ذكرت هو مبارك بن محمد الميلي، إذ قدم إلى بلدة في قلب الصحراء لا يعرف فيها أحدا، قدم إليها شابا في مقتبل العمر، استطاع أن يؤسس بها مدرسة قرآنية، على الطراز العصري، ويجمع فيه بنات وبنين، رغم ما عرفت عليه من محافظة، وما يتخرج على يده من رجال بلغوا من العلم مبلغا، أليس هذا هو الرجل الحقيقي، ولا أسترسل في بيان الرجل الحقيقي حفاظا على الوقت..
وقد كوّن رجالا حملوا راية الإصلاح من بعده حين بلغوا من العلم مبلغا أذكر منهم: الشيخ العلامة أحمد قصيبة صاحب الجرأة في كلمة الحق إذ كان لا يبالي في الصدع بها مهما كلفه ذلك، والشيخ العلامة أحمد شطة الشهيد في سبيل الله؛ لأنه جهر بالموقوف بجانب الثورة المباركة، ودعا إلى الجهاد في خطبه الجمعية، فاعتقله الاستعمار وقتله، والشيخ العلامة أبو بكر الذي كان يستخلفه الشيخ ابن باديس للتدريس في الجامع الأخضر أثناء غيابه، ويكفي أن أشير إلى أن أحمد حماني من تلامذة الشيخ أبي بكر الأغواطي... -أما الأغواط فلا أحدثكم عنها قد لا أكون موضوعيا إن حدثتكم عنها؛ لأنها بلدتي، ومسقط رأسي ومحل تكوين طينتي منذ أن خلق الله بني آدم في عالم الذر.
إنما أخبركم عن لفظ الأغواط هو مأخوذ من اسم قبيلة من قبائل مغراوة، إذ آغواط بطن من هذه القبيلة الكبرى المغراوة، يقول عنها ابن خلدون وقد نزل بها عابر سبيل: إن قبيلة آغواط من أشد القبائل الأمازيغية امتناعا من العرب، وذلكم قبل الإسلام، فلما فهم أهلها الإسلام تحولوا إلى أشد القبائل دفاعا عن الإسلام والعروبة. (انظر تاريخ مبارك الميلي الجزء الثاني).
أما الحياة في هذه البلدة والعيش بين أهلها فنترك الشيخ مبارك الميلي هو الذي يعطينا صورة عن هذه المدينة وأهلها يقول-رحمه الله تعالى: الأغواط من الواحات الجميلة التي قلّما يتَفَلَّت قلبُ نزيلِها من جاذبية جمالها، والذي يزيده روعة دماثةُ أخلاق أبنائها البررة،ونشاطُهم المتجدّد،وذكاؤهم المفرط،ونزوعُهم إلى استدرار أفاويق اللذة المعنوية وتفانيهم في البحث عن مناحي الحياة المستجدة ليشاركوا هواءها في استنشاق نسيمها، شأن من يهوون بأفئدتهم إلى الحياة، وكل ما فيها من طريف، وتراهم إلى جانب تلك الخصائص أشد المحافظين العاملين على صيانة التقاليد العربية من شمم وإيباء، الذائدين على التعاليم الإسلامية الصحيحة، مع اتخاذ التسامح شعارهم فيما يدعم هذه وتلك ويطبعها بطابع الجديد الصالح،وإن واجههم-رغم ذلك الاعتدال- ما يوجه أمثالهم طبعا في كلّ بلاد هي تحت نير العادات الرثة من المصاعب والقحم (الهلاك) والمعاكسة في طريق العلم والنهوض لا يحجمون عن التضحية مهما غلا ثمنها، ومهما كان فيها من حرج ومضض.
ولهم ميراث يمتازون به وهو الجرأة في سبيل الواجب، والمرونة والتكيف بحسب الظروف العصيبة في غير هوادة ولا مماكسة إذا كان الواجب قد قضى بذلك، والتحايل على إخضاع تلك الظروف الجامحة ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، على أن وجود هذه الصفات في بلاد هي أغنى بلاد الجزائر بالاكفاء ليس فيه ما يدعو إلى الدهشة. انتهى كلام الشيخ. أمثلة تدشين مدرسة الشبيبة بعد رحيل الشيخ.
شاءت الحكمة الإلهية أن تزوره جماعة تشاركه النزعة العلمية جاءت إلى الأغواط تبحث عن مبارك الميلي، وقد طالت غيبته، ولم يسمعوا عنه خبرا، وأين وصل بما أنيط به فقال أحدهم: كنا نخشى أن يكون قد فشل في المهمة مثل غيره وخاصة وأن الظروف صعبة في ذلك الوقت، ثم قال بعد أن عاين ووجد غير ما كان يعتقد: كلما امعنت في البحث عن سير المدرسة وموقف أستاذها الحازم، وما أحرزه عليه تلامذته من المعلومات وجدت ما يبهج، وفوْق ما كنت أقدر فوجدت أن الرجل أسس مدرسة تامة المرافق، ومجهزة بجميع الأدوات، وأن التلامذة من ناحيتهم قد بدأوا في هذا المدى اليسير يتذوقون حلاوة العلم والمعرفة، وإن منهم بالأخص عشرة حصلت لهم ملكة التفكير والبحث، وظهرت عليهم مخايل النبوغ.
أما الأستاذُ من ناحيته فحسبه أنه مكونُ هذا الوسط المبهج ومغذي هذه الروح الوثابة، ومنجدُ هذه البلاد العزيزة، وملهمُ هذه الأفكار، وناشرُ ألْوِيَّة هذه المعارف الغضة، وغارسُ التعاليم الإسلامية الصحيحة في النفوس، ومبيدُ كل ما لا يتفق والشرع الشريف، ومروّضُ العقول على كيفية احترام الوازع الديني. ويظهر مع ذلك أنه يطمح إلى ما هو أبعد من ذلك، ويدل على هذا أنني سألته في أثناء محادثتنا عن مبلغ ارتياحه لهذه النتيجة المحسوسة، فأجابني: إن هذه النتيجة ما هي في نظري إلاّ نزر يسير مما كنت أؤّمٍّلُ وأقدر». من خلال قراءتي لما دار بين الرجلين فهمت أن الشيخ مبارك الميلي كان يتمنى توحيد برامج التعليم الذي يجب عليه السير في جميع المدارس الجزائرية آنذاك.
وقد أفصح الشيخ مبارك عما يعانيه رغم وما وصل إليه من نتائج على رغم العوائق التي منعته من الوصول إلى الشأو الذي قدره رغم أن بعض العائلات الأغواطية التي لها مكانتها أحاطته بالعناية، وعطفت عليه، وكانت رهن إشارته، بل حمته من كيد الكائدين،ولا أكتمكم سرا، فإن أذناب الاستعمار وعملاءه أرادوا به كيدا إلى درجة محاولة قتله، وقد حاولوا مرات عدة قتله، فوقف دونهم أناس صفت عقيدتهم من الشوائب، ففدوه بأنفسهم.
أذكر على سبيل المثال: البشير بن البيتر-رحمه الله-الذي صفت عقيدته من كل شائبة وسجِّلت مواقفُه الشجاعة بجانب الشيخ مبارك الميلي، ولا زال بعض أولاد هؤلاء يفتخر بذلك ولهم ذلك، وحق لهم الافتخار بتلك المواقف المشرفة يقول أحدهم مفتخرا-: إن أبي صرع ما يقرب من ثمانية عملاء للاستعمار حين هاجموا الشيخ مبارك. وقد حكى لي هذا أيضا، زميلي في التعليم الأستاذ لخضر واعر-رحمه الله-.
أذكر واقعة أخرى أن أحدهم تربص بالشيخ مبارك الميلي في المسجد العتيق وكان الشيخ في درس التفسير، وبالتحديد تفسير سورة الزلزلة، فراح مختفيا وراء سارية من سواري المسجد وهو يسمع للدرس فنهض وقال: ويلي ما أريد أن أفعل؟، وذهب إلى الشيخ وقال له: يا شيخ أترى هذا؟ قال له الشيخ في ثبات: نعم إنه قادوم قال: هذا أريد أن أقتلك به، ولكني تبت وعلمت أني ظالم وراح يبكي كالطفل الصغير، والشيخ يقول له في ثبات: الرجوع إلى الحق فضيلة، أحمد الله لك إذ نجاك من ارتكاب جريمة، وأأسف إذ حرمت من الشهادة.
موقفه من دعاة الاندماج:
لبيان موقف الشيخ-رحمه الله تعالى-من الاندماج لا بد من التعرض للدوافع التي دعته إلى بيان موقفه منه: نشرت مجلة الشهاب مقالا لأحدهم يدعو فيه للاندماج فقال هذا القائل في دعواه: إن سياسة الاتحاد (الاندماج) قبر لنا وذلك لأن التمدن العربي الإسلامي مفقود من الجزائر، ولا يسعنا أن نبقى على حالتنا الحاضرة.
فرد عليه الشيخ-رحمه الله تعالى-: ونحن نقول: إن سياسة الاندماج هي القبر الذي لا نشر بعده، وفقد التمدن العربي الإسلامي من الجزائر لا ينتج صلاحية الاندماج، بل يوجب علينا أن نسعى في إحياء التمدن العربي الإسلامي، وهذا التمدن الأوروبي الفرنسي الذي تراه لازما للأمة قد كان مفقودا أيضا من الجزائر، ولم يزل مفقودا، فما الداعي لترجيح تمدن بعيد عن دين الأمة وأخلاقها وعوائدها على تمدن هو المتفق معها في كلّ ذلك؟
إن الاندماج-كما قلنا- قبر لا نشر بعده، فالعاملون بسياسته عاملون على انقراضنا والتحاقنا بالأمم البائدة، ولم يبق لنا من وجود إلاّ في صفحات التاريخ، ولا من ذكر إلاّ بأقبح ما يذكر به المارقون من دينهم وقوميتهم.
ويختم الشيخ-رحمه الله تعالى- رده: والخلاصة أن سياسة الاندماج بعيدة في نفسها بعيدة عن الأمة، فهي سياسة عقيمة والمنتصر لها غير حكيم.
نحن لا نرى في هذين الرجلين العظيمين كليهما: الشبح مبارك الميلي وهذا الداعي إلى الاندماج إلاّ الخير، لأن كلا منهما اجتهد ويريد خيرا للجزائر، الحديث الشريف: «من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر»، الأجر ثابت لكليهما، إلاّ أننا مع الرأي الذي يسعى إلى الثقافة العربية الإسلامية، لا مع ثقافة الذوبان في الثقافة الفرنسية، ورحمه الله محمد العيد آل خليفة، إذ يقول في مثل هذا المقام:
خصمان فيما يفيد الأمة اختصما إياك أن تنقص الخصمين إياك
كلاهما فِي سبيل الله مُجتهـد فلا تذمن لا هـذا ولا ذاك
دواعي تأليف كتاب «تاريخ الجزائر»
إن أحدهم قال: بحثت في التاريخ عن قطر اسمه الجزائر فلم أجده فعكف الشيخ على كتب التاريخ القديم والحديث، وترجم له بعض المثقفين من أهل الأغواط عن الكتب الناطقة بالفرنسية مما ساعده على جمع المادة وأخرج للناس كتابا في تاريخ الجزائر سلك فيه منهجية فريدة من نوعها قال عنها الشيخ: ‹‹وعندي أن أحسن طريق يسلكها المؤرخ أن يضع بين يدي القارئ الحادثة التاريخية كما هي ثم يرشد إلى كيفية الاستنتاج منها، وبذلك يكون المؤرخ نزيها في نقله، والقارئ في مأمن من عثرة ذلك المؤرخ؛ لأنه إذا غلط في نظره استطاع القارئ أن يدرك غلطه وقديما قيل: ‹‹فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه››، وكثيرا من الناس لا يحسن الابتكار ولكن لا يفوته التمييز بين السليم والسقيم من الأفكار›› انتهى كلام الشيخ-رحمه الله تعالى.
قال أحدهم منوّها بصدور هذا الكتاب أي: كتاب تاريخ الجزائر: فالجزائريون كلهم مدينون لهذا الرجل بفضل لا يقدر ومن أقل ما يجازى أن ينفد ما طبع من كتابه في القريب ويعاد طبعه. انظر مجلة الشهاب.
وقد كتب الشيخ الميلي رحمه الله تعالى: فقال: لم يبق اليوم وطنٌ من الأوطان يجهل أبناؤُه وغيرهم تاريخه غير وطن الجزائر فرأيت أن محو هذا العار بتأليف تاريخ هذا الوطن على ما فيه من صعوبة وعقبات صعبة التذليل فشرعت في العمل مستعينا بالله. ثم قال: ولم يصدني عن المضي في سبيل هذا العمل الشريف بتهذيبه بما يقرب للقارئ مطلوبه بترتيب لم أسبق إليه وهو يشتمل على أبواب....الشهاب جوليت 1931م
ولم يقتصر نشاط الشيخ على مدينة الأغواط بل كان كثيرا ما يزور مدينة بوسعادة لإلقاء دروس الوعظ والإرشاد، ووجد بين أهلها ترحابا، وإقبالا على سماع وعظه وإرشاده، وكانوا يترقبون مجيئه.
وله مشاركة فاعلة بمدينة أفلو وهي مدينة بقرب مدينة الأغواط وأهلها كريم العنصر يكرمون الضيف إن نزل بساحتهم ونترك الشيخ يحدثنا عن هذه المدينة المضيافة فقال: أفلو قرية في آخر عمالة وهران شرقا جنوبيا تبعد عن الأغواط غربا بثلاثين ومائة ميل، وكثيرا ما كان سكانها يدعونني لزيارتهم، فلم يقدر الله تلبية دعوتهم إلاّ صحبة الأستاذ عبد الحميد بن باديس: وإذا بأفلو قرية متوسطة العمران في بسيط بأعلى جبل العمور قد رضِيَت عنه الطبيعة فحبَتْه بكل ما يَسْحِر الألبابَ ويضعُ العقلَ تحت حكم العاطفة، فما شئت من مياه غزيرة عذبةٍ تروق منظرا، وتلذ مطعما، ومن أشجار شديدة الخضرة باسقة الأغصان وارفة الظلال، ومن هواء بارد صيفا جاف شتاء من الرطوبات لبعده من البحر، وقربه من الصحراء.
ثم يقول الشيخ: منذ أن سمي بأفلو ترجمانا شرعيا السيد عمارة مزيان، فأخذ ينشر الفضيلة بسيرته ودروسه ثم أسس جمعية خيرية فوجد من أهل أفلو إقبالا عليها ومعاضدة له، وهو الكريم الأصل سريع الإجابة إلى المعالي.
فدعت هذه الجمعية الخيرية الشيخ الميلي ليشاركها نشاطها الإرشادي فلبى النداء، وشاركهم النشاط وقال عن مؤسس هذه الجمعية كلمة طيبة سجلها التاريخ: والشيخ عمارة مزيان من خريجي مدرسة الجزائر العليا ذو دين متين وفكر ثاقب وخلق سمح وهمة عالية يختلط بالناس ويلبس لباسهم ويظهر لهم في مظهر عالم ديني يعظهم ويعلمهم آداب دينهم، فسر نجاح الشيخ عمارة مزيان في مشروعه راجع إلى إخلاصه ومحافظته على الزي القومي ومحافظة أهل أفلو على أخلاقهم العربية الأصيلة.
في الختام: لا يسعني إلا أن أقدم الشكر لهذا العَلَم العالم الجليل شيخنا مبارك الميلي ولا أجد العبارة التي تليق بمقامه إلاّ ما شركه به شيخه وأستاذه ابن باديس في رسالة بعث بها إليه فقال: أخي مبارك: سلام ورحمة، حياك تحية من عَلِم وعَمِل وعَلّم وقفت على الجزء الأول من كتابك «تاريخ الجزائر في القديم والحديث» فقلت: لو سميته «حياة الجزائر» لكان خليقا، فهو أول كتاب صوّر الجزائر في لغة الضاد صورة تامة سوية، بعدما كانت تلك أشلاء متفرقة هنا وهناك، وقد نفخت في تلك الصورة من روح إيمانك الديني والوطني ما سيبقيها حية على وجه الدهر تحفظ اسمك تاجا لها في سماء العلا وتخطه بيمينها في كتاب الخالدين.
إذا كان من أحيا نفسا واحدة فكأنما أحياء الناس جميعا فكيف من أحيا أمة كاملة، أحيا ماضيها وحاضرها، وحياتهما عند أبنائها حياة مستقبلها فليس-والله-كفاءُ عملِك أن تشكرك الأفراد، ولكن كفاءَه أن تشكرك الأجيال، وإذا كان هذا في الجيل المعاصر قليلا، فسيكون في الأجيال الغابرة كثيرا، وتلك سنة الله في عظماء الأمم ونوابغها، ولن تجد لسنة تبديلا، وأنا واحد من هذا الجيل بلسان من يشعرون شعوري، أشكرك لأقوم بما علينا من واجب، لا لأقابل ما لك من حق، جازاك خير ما جازى به العاملين المخلصين للدين والوطن بعلم وتحقيق وإنصاف.
أظن سادتي أني قد أطلت عليكم وأكثرت من سرد الوقائع، فلا يسعني أن أقول-بالنسبة لي-: إن الحديث عن الشيخ العلامة مبارك الميلي لا يملّ فهو جزء من تاريخ مدينتي فقد قام الرجل بإرشاد أهلها وتوجيههم، وتصفية عقيدتهم من الشوائب، فإن الميلي بالنسبة لأهل الأغواط هو جزء منهم، فنسأل الله تعالى أن يجازيه عنا خير الجزاء، على ما قدّم لأهل هذه المدينة، وأسأل الله أن يرحم الصُّلْب الذي حمله، والبطن الذي حواه، والصدر الذي غذّاه، والمشايخ الذي هذبوا عقله وعلموه.