تعود بنا اليوم الذاكرة التاريخية الجماعية للتوقف عند أهم المحطات المفصلية التي رسمت مرحلة جديدة في تاريخ الجزائر الحديث وساهمت في إعادة الأمل ولملمة الجراح وكفكفة دموع ضحايا العشرية السوداء، وكل ذلك بفضل الإرادة السياسية لرئيس الجمهورية وتدابير ميثاق السلم والمصالحة الوطنية الذي عرض للاحتكام الشعبي يوم 29 سبتمبر سنة 2005 فأحتضنه بتجاوب كبير باعتباره مخلصا ومنفذا وحيدا لاسترجاع السلم المفقود..
لما نتحدث عن المعاناة أو المحنة بمفهومها الشامل التي زرعتها سنوات الجمر بالجزائر خلال فترة التسعينيات، أكيد تطفح إلى السطح صورة لعدد من المناطق من الوطن كان نصيبها أكبر من هذا المشهد المروع الذي عبث بمقومات الأمة الاقتصادية وتسبب في آلاف القتلى والجرحى، وهنا تأتي ولاية بومرداس ببلدياتها وقراها المنتشرة في قمم الجبال كنموذج لمنطقة عاشت الويلات من أعمال الإرهاب الأعمى وكل أشكال المعاناة التي مسّت المواطن البريء المسالم في أمنه واستقراره وحرم من زراعة أرضه ما اضطره إلى الفرار بجلده كما فرّ العشرات من بعض المناطق التي كان يطلق عليها محليا بمثلث الموت أغلبهم من الفلاحين والشباب المستهدفين تاركين أرضهم وممتلكاتهم بحثا عن الآمن والآمان في مراكز المدن شكل بداية نزيف الهجرة الداخلية وتحول أحياء المدن الكبرى إلى ما يشبه “القيتوهات” نتيجة الضغط على المرافق والخدمات كما كانت تبعياتها وخيمة أيضا على برامج التنمية المحلية للبلديات خاصة قطاع السكن.
لكن دوام الحال من المحال كما يقول المثل بفضل إرادة الخيرين الذين ألمهم الوضع المحزن لوطن يرزح في فوضى وأنين شعب ظلّ يرتقب طريق الخلاص من هذا الكابوس المظلم الذي ارتسم في النهاية بجملة من التدابير الاستعجالية لإنقاذ الجزائر وإعادتها إلى السكة، فكانت البداية بقانون الوئام المدني والعفو الشامل عند المقدرة أو اليد الممدودة للمغرر بهم من أجل إرجاعهم إلى جادة الصواب، ثم جاء مشروع ميثاق السلم والمصالحة الوطنية بتاريخ 29 سبتمبر 2005، الذي أسّس لتاريخ جديد ووضع اللبنة الأولى للمصالحة الوطنية وإصلاح ذات البين بين الجزائريين، وكلها إجراءات ساهمت في إطفاء نار الفتنة ووضع حدّ لحالة الفوضى وخطر الانهيار، والتأسيس لمرحلة جديدة من تاريخ الجزائر بنظرة اقتصادية واجتماعية شاملة انعكست إيجابا على مسار التنمية المحلية لمختلف مناطق الوطن ومنها ولاية بومرداس التي حظيت باهتمام خاص من طرف السلطات العمومية بتسطير مشاريع تنموية شاملة لفائدة المواطنين في مختلف المجالات حملتها المخططات الخماسية لبرنامج رئيس الجمهورية، مع التركيز أكثر على المناطق المتضرّرة من العشرية السوداء بتخصيص أغلفة مالية ضخمة لإعادة بعث الحياة مجددا في هذه المناطق وتشجيع عودة العائلات المهجرة عن طريق إعادة فتح وتجديد الطرقات المهترئة والمقطوعة، فتح المسالك الجبلية لتسهيل عودة الفلاحين لخدمة أراضيهم، الاهتمام بمجال الخدمات العمومية كإعادة تهيئة وانجاز المؤسسات التعليمية، تهيئة وإعادة فتح قاعات العلاج المغلقة لسنوات ومدّ شبكات المياه والغاز الطبيعي، الإهتمام أكثر بانشغالات الشباب بإنجاز المرافق الرياضية والشبانبة ووضع آليات التشغيل المختلفة بواسطة أجهزة التشغيل المحلية “اونساج، كناك واونجام” التي ساهمت بشكل كبير في تأطير ومرافقة هذه الفئة وحاملي المشاريع الاقتصادية عن طريق انجاز مؤسسات مصغرة استفادت منها المرأة الماكثة بالبيت وكل هذا بفضل عودة الأمن والسلم الاجتماعي لمشروع المصالحة الوطنية الذي يبقى يشكل مرجعية ومصدر الهام لكل المشاريع المستقبلية..