المصالحة الوطنية عزّزت بقوة خيار الوئام وتعتبر إمتدادا واستكمالا سياسيا وأمنيا لمسار شاق ومضني ترجم فعلا قناعة عميقة وراسخة لدى رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة الذي وضع أسسه الأولى منذ إعتلائه سدّة الحكم عندما إلتزم أمام الشعب الجزائري بثلاثية عهدته القائمة على:
أولا: إطفاء نار الفتنة واستتباب الأمن إن عاجلا أم آجلا.
ثانيا: ترقية أداء الاقتصاد الجزائري والانطلاق في التنمية الوطنية الشاملة.
ثالثا: إعادة الجزائر إلى سابق عهدها على الصعيد الدولي.. باحتلالها مكانة مرموقة في الحظيرة بين الأمم.
هذه التعهدات المعلنة أنجزت عن آخرها وتجاوزت السقف المحدد أحيانا ونقصد هنا أن حكمة الرئيس بوتفليقة وعزمه الشديد وإرادته القوية وحبه اللامحدود للجزائر التي جاهد من أجلها وهو شاب يافع جعلته يستبق الأحداث في لمس النتائج المرجوة في زمن قياسي.. يلاحظ ذلك كل من كان يتابع ما يجري في كل لحظة ببلادنا، وهذا خلال فترة وجيزة جدا.. تغيرت أوضاع الجزائر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية رأسا على عقب.. نقول هذا الكلام من باب مرافقتنا للرئيس بوتفليقة في خرجاته الميدانية ونشاطاته المكثفة عبر الولايات.
الأهوال الأمنية توقفت وزالت نهائيا وبنسبة عالية لاقتصاد الوطني تحركت عجلته باتجاه العمل وفق المقاييس المعمول بها في هذا الشأن.. تبعته في ذلك كل ما يتعلّق بالشؤون الاجتماعية باستحداث قفزة في توفير آليات الحماية لكل الفئات وخاصة الهشّة منها.
وكان رئيس الجمهورية يدرك آنذاك، بأن التنمية بدون أمن وعمل وفق منهجية سياسية واضحة المعالم لا غبار عليها انطلاقا من مبدأ إعداد الأرضية اللازمة كي ينطلق البلد في وثبة عملاقة حتى تكون ولاياتنا من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب ورشات مفتوحة.
لابد من التذكير بهذه الخلفية كونها إشارة واضحة لما كان ينجز بسرعة فائقة لكن بثقة كبيرة ولمسة ثابتة بعيدة عن أي قراءة أخرى، لأن المرحلة تطلّبت ذلك.. أي التعجيل بالخروج من هذا الوضع الناجم عن سنوات الخراب..
لقد مرّ الوئام بسلام وحقّق نتائج غير منتشرة ومفاجئة للجميع عندما نزل ٦ آلاف مسلح من الجبال واستعادة قرابة ١٨ ألف قطعة سلاح والبقية تأتي كان لابد من جرعة أخرى أكثر جرأة وذات فعالية، وما لم يستطع الوئام الإتيان به حُضر له في مبادرة المصالحة الوطنية كي يلتقي المشروعان السلميان عند نقاط تقاطع كان لابد وأن يتمّ الذهاب إليها مهما كان الأمر ومهما كانت التأثيرات.
وحمل الرئيس بوتفليقة هذا المشروع السلمي قاصدا ولايات الوطن لشرح مضمونه وتوضيح أبعاده أينما حلّ وجد تلك الاستجابة الشعبية المنقطعة النظير الراغبة فعلا في عودة الاستقرار النهائي إلى ربوع البلاد بعد انتظار طويل تجاوز عشرية كاملة من التدمير الذاتي كلفت ٢٠ مليار دولار و٢٠٠ ألف ضحية، هل سنواصل السير على هذا النهج أم نغيّر هذا الواقع؟
هذا السؤال طرحه الرئيس بوتفليقة في خضم التجمعات الشعبية التي كان يشرف عليها شخصيا قائلا في هذا الصدد، هل نتقاتل إلى يوم الدين؟ كفى ما كلفنا هذا الهم والغم من الضحايا وجاءت اليوم تلك اللحظة التي كنا بصدد انتظارها ألا وهي وقف هذا النزيف، وقد فهم الجميع هذه الرسالة على أن قرار إعادة السلم قد اتخذ وحسم فيه ولا مجال للتردد أو التشكيك في هذا المبدأ السامي وقالها الرئيس صراحة في تجمع تيزي وزو بملعب أول نوفمبر عندما خاطب الجميع بعزم وحزم على أن لا بديل للمصالحة الوطنية وإن كان هناك خيار آخر فأتوني به.. هذا الخطاب الحامل لقيم التسامح بين أبناء الشعب الواحد كان محل إعتماد متواصل من قبل الرئيس بوتفليقة ولم يتخل عنه أبدا إلى غاية مصادقة الشعب الجزائري على هذا المشروع من خلال استفتاء تاريخي قال كلمته الفاصلة وموقفه الحاسم تجاه قضية مصيرية تستدعي التفاف جماهيري غير مسبوق حيالها دون العودة إلى عقلية الانتقام أو ذهنية الحقد الذي لا يخدم البلاد والعباد.
والجهد المضني الذي قام به الرئيس بوتفليقة كُلل بالنجاح التام بعد أن وافق الشعب على المشروع بنسبة مرتفعة جدا قاربت الـ١٠٠ ٪، شعورا منه بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه لتتحوّل فيما بعد إلى قانون «السلم والمصالحة الوطنية» عبارة عن مجموعة من المواد التشريعية تحدّد بدقة الكيفية التي يتم بواسطتها التكفل بكل من يريد الانضواء تحت هذا السقف بعد أن غرر به لسنوات طويلة وألقي به في غياهب العنف كما يبرز الإطار العام لتعويض الضحايا وغيرهم وإحالتهم على اللجان الولائية لدراسة أوضاعهم، وهذا يعني أن دعاة «اللاعقاب» كانوا على خطأ فادح.. أرادوا تضييق الدائرة الرحبة للمصالحة يجعلها مسألة قضاء فقط في حين أن القضية أكبر من ذلك.. وطن أو بلد كان يحترق وأناس في الصالونات تزيد من عنفوان الأزمة تدافع عن فلان وعلان ونسيت معاناة الشعب في تلك الفترة.
قانون «السلم والمصالحة الوطنية لم يهضم حق أحد كل من كان في دائرة حيثياته استجاب لمطالبه، وتكفل بانشغالاته الكل أنصفهم إنصافا عادلا يشهد التاريخ على ذلك ولم يميز بين هذا وذاك عاملهم بالصفة التي يحملونها أنهم جزائريون تورطوا في أعمال مسلحة والسلطات العمومية عندما مدّت يدها كانت في موقع قوة.. ما حركها فعلا هو أننا وصلنا إلى مرحلة لا يمكن الاستمرار بعد الحصار الذي تعرضنا له آنذاك باعتراف الجميع ولا داعي الدخول في التفاصيل.
دسترة المصالحة
مهما قلنا عن المصالحة الوطنية فإننا لا نفي حقها المطلوب لكنها لا يمكن وضعها في حقائب النسيان كما حاول البعض في مرحلة معينة، إنها مشروع سلمي أنهى مأساة إنسانية يعجز اللسان عن ذكرها نظرا لما احتوته من أعمال يعرفها العام والخاص قوة وصلابة وحضور هذا المسار تطلّب أن لا يختفي.. هكذا بعد أن سوّى أزمة زمنية حادة قضت على الأخضر واليابس.
وقد تقطّن لذلك السياسيون والمشرعون الذين أدرجوه بوضوح في ديباجة الدستور الجديد بشروحات لها أكثر من معنى إلى جانب الأحداث التي مرّت على الشعب الجزائري ذات الدلالة الكبرى ماتزال شاهدة على صناعتها في الأوقات الصعبة وعند الشدائد منذ الأزمنة الغابرة إلى يومنا هذا.
وبقراءة متأنية لتلك الفقرات الواردة في الدستور حول مفهوم المصالحة الوطنية، فإن هناك إبرازا ملحوظا وملفتا على أنها قرار سيادي صادر عن الشعب الجزائري صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، احتضنها وهو مصمم على الحفاظ عليها وهذا ما يعني ضمنيا التزام وتعهد كي تكون الدرع الواقي لـ» الفتن والعنف» وهي إشارة مباشرة على رفضه القاطع قصد السقوط في فخّ آخر قد يعرض البلد «لا قدر الله» إلى أشياء مرفوضة بتاتا.
وهذا الاستشراف المسجل في ديباجة الدستور يساير الأوضاع اليوم وجاء موازيا مع سيرورة الأحداث من خلال كل هذا الوعي الوطني والحس المدني المتوفر أو الذي يتمتع به الجزائريون حاليا بالرغم من كل ما يحدث هنا وهناك في هذا العالم من مقالب سياسة يريد أصحابها إعادة الشعوب إلى الوراء.
لذلك، فإن المصالحة الوطنية راسخة لدى الشعب الجزائري وبفضلها تتمتع اليوم بكل هذا الهدوء من أقصى الجزائر إلى أقصاها كانت نتيجة حتمية لكل ما بذل من جهد صادق، حتى تكون البلد في منأى عن أي طارئ وهذا هو الهدف المنشود منذ أن شرع في هذا العمل الوطني الشامل.
وإحياؤها اليوم، ما هو في حقيقة الأمر، إلا تذكير الجميع بأنها ثمار إرادة سياسية لا تلين قرّرت إعادة الاستقرار إلى كامل الوطن، والمضي باتجاه إقامة قواعد ثابتة في تسيير شؤون الدولة الوطنية بيعدا عن أي شكل من أشكال الغلو وما عودة الذكرى كل سنة على الجزائري دليل واضح على أنها في الذاكرة لن تمحى ولن تكون قطيعة في سيرورتها مع الأجيال الحالية والقادمة.