وافق مجلس الأمن الدولي، بالإجماع، السبت الماضي، على مشروع قرار ينصّ على وقف إطلاق النار في سوريا لمدة 30 يوما، للسماح بإدخال المساعدات الإنسانية، واللافت أنه قرار «إنساني»، وليس اتفاق «سلام»؟
عقب معارك طاحنة في الغوطة الشرقية بسوريا، وبعد تبادل الاتهامات وتقاذف المسؤوليات بين مختلف الأطراف الداخلية والخارجية، كما جرت عليه العادة، أقرّ مجلس الأمن الدولي نصّا يتضمن الدعوة الصريحة لتنفيذ وقف إطلاق النار بأسرع وقت ممكن ولمدة شهر كامل قصد السماح بإيصال المساعدات الإنسانية.
وأبرز ما يشدّ الانتباه في مشروع القرار الذي بادرت به السويد والكويت، أنه عُدل عدة مرات، قبل صيغته النهائية، وأن روسيا طالبت بحصول كافة القوافل الإنسانية على موافقة مسبقة من دمشق لدخول المناطق المعنية، وهو ما رفضته الدول الغربية، والتي واقفت في المقابل على استثناء الجماعات الإرهابية وبعض الكيانات المتعاونة معها من وقف إطلاق النار.
كما طالبت موسكو من الدول الغربية تقديم ضمانات، بإنجاح الاتفاق ومنع حصول الجماعات الإرهابية على فرصة لالتقاط الأنفاس، الأمر الذي استدعى إضافة بند يقضي باجتماع آخر لمجلس الأمن بعد 15 يوما من دخول القرار حيز التنفيذ لتقييم النتائج على أرض الواقع.
ولم تمارس الدول الخمس الدائمة العضوية في المجلس، حقّ الفيتو، مثلما حدث في مرات سابقة.
أما بشأن روح مشروع القرار، فهو وحسب تصريح سفير السويد، أولوف سكوغ، ليس «اتفاق سلام حول سوريا وإنما إنساني محض»، بمعنى أن إذاعة خبر تبني مجلس الأمن الدولي للنص بالإجماع، لم يكن يستحق التفاعل الإعلامي الكبير الذي اعتبره إنجازا دبلوماسيا للمجموعة الدولية، لكونه في المجمل المفيد مجرد هدنة إنسانية لفترة زمنية محدودة لا تحمل أبدا بشائر نهاية الحرب.
إنسانية المجتمع الدولي؟
اختارت صحيفة «التايم»، البريطانية في عددها الذي أعقب صدور مشروع قرار مجلس الأمن الدولي، صورة صادمة لأطفال صغار هلكوا بنيران الحرب في سوريا، لصفحتها الأولى متسائلة عبر عنوان بارز عما إذا بقي شيء من الإنسانية في عالم اليوم؟.
والحقيقة أن الأزمات التي يعيشها العالم العربي، منذ ما سمي الربيع العربي سنة 2011، خلّفت ملايين الصور التي تستحقّ جوائز عالمية في التأريخ للمآسي والأحزان، وكشف التواطؤ الإقليمي والتخاذل الدولي والنفاق الغربي في التعاطي مع معضلات معقدة راح ضحيتها عشرات الآلاف من الأبرياء.
فبعد كل هذه السنوات من الدمار والاقتتال والترويج للسلوك البشري المتوحش، التفت مجلس الأمن أخيرا إلى واقع إنساني يفرض هدنة إنسانية، سبق وأن وقعت في مناطق عديدة من سوريا باتفاقات ووساطات داخلية أو إقليمية.
لقد استخدم الأبرياء ممن فشلوا في النجاة من الجحيم الذي حل ببلدهم (سوريا) كذروع بشرية للأطراف المتقاتلة، ورأى فيهم صنّاع تكتيك الحروب الأهلية أداة ضغط جهة على أخرى أمام المجتمع الدولي، واعتبرهم أصحاب المصالح ثمن بلوغ مبتغى الحرب.
ومنذ الأيام الأولى للأزمة السورية وما حلّ ببعض الدول العربية الأخرى، سقط ضحايا مدنيون بينهم أطفال ونساء وشيوخ، واكتفى المجتمع الدولي ببيانات الإدانة والتحذير من الانزلاقات، بينما أبقى على تغيير الأنظمة مهما كان الثمن هدفا أساسيا.
ولم يبادر أقوياء العالم، إلى دعوة أطراف المعارضة والسلطة الحاكمة في سوريا أو غيرها إلى طاولة الحوار لتفكيك الألغام، بل اختاروا مباشرة ودون تردّد طرفا معينا وساندوه بكل السبل (الدبلوماسية، المالية والعسكرية)، مع علمهم بأبعاد تعفن الوضع وخطورته على المدنيين.
وفي سنة 2013، حين اشتد غضب الغرب من الرئيس السوري بشار الأسد وأصرّ على رحيله عن السلطة مهما كان الثمن، فتحت أبواب مطارات أوروبية وبعض الدول لتسهيل انتقال آلاف المقاتلين إلى سوريا، مما زاد من صبّ الزيت على النار وبلوغ الأزمة ذروتها، واستقواء تنظيم داعش الإرهابي الذي سيطر على مساحات جغرافية شاسعة.
أدخلت نظرية «التحالف مع الشيطان لإسقاط العدو»، يومها مخبر التجريب ورصدت لها الأسلحة والأموال، إلى أن إكتوت أوروبا بنار الذئاب المنفردة سنة 2015، والبداية كانت بالعاصمة الفرنسية باريس، واضطرت الحكومات إلى مراجعة مواقفها بشأن هجرة الشباب الناشئ في المجتمع الغربي إلى سوريا والعراق، وشدّدت الرقابة على المطارات والطرقات والساحات العمومية لصد شظايا اللهيب المستعر في الشرق الأوسط.
فشل متوقّع؟
التقارير القادمة من سوريا، عقب مشروع قرار مجلس الأمن الدولي، أكدت أن الأطراف المتقاتلة لم «تأبه» بهدنة الـ30 يوما، وأن المعارك استمرت بالوحشية ذاتها على الأرض.
ومن السهل توقع فشل «الاتفاق الإنساني»، بالنظر لتجارب سابقة، من جهة وحالة عدم الثقة التي بلغت مداها بين واشنطن وموسكومن جهة أخرى.
ولم يكن التراشق اللفظي بين سفراء القوى المسيطرة على مجلس الأمن، ليعطي أي انطباع عن فرصة بلوغ اتفاق قوي يمكن تطبيقه على أرض الواقع، ثم إن الأزمة السورية في حاجة إلى نقاشات وقرارات جادة وجريئة لحلها وليس للتعامل مع حالات مجزأة.
لقد حقّقت الأمم المتحدة انتكاسات دبلوماسية ضخمة، في سوريا، فبعد 7 سنوات من الحرب، سقط 340 ألف قتيلا والرقم مرشح للارتفاع سريعا ليصل 400 ألف بنهاية العام الجاري، وهاجر ملايين الأشخاص نحو أصقاع العالم.
بينما استهلكت المنظمة الأممية 3 مبعوثين شخصيين للأمين العام، أشرفوا على 7 جولات مفاوضات في استانا، 8 جولات في جنيف وجولة واحدة في سوتشي إلى جانب 11 مشروع قرار وقف إطلاق.
وبعد خلاص سوريا من سرطان داعش الإرهابي وتبخر عناصره المأجورة نحو وجهات مجهولة، برزت تحديات أكبر من الإرهاب.
صراع الأمم
يمكن القول إن الخبراء في الشؤون الأمنية الذين اسهبوا في التحذير من مرحلة ما بعد داعش الإرهابي بسبب اعتماد عناصره الدموية أساليب جديدة، قد تناسوا تحضير الرأي العام الدولي، لحقيقة خطيرة على البشرية ككل، والمتمثلة في عودة أجواء الحرب الباردة وبقوة بين واشنطن وموسكو. فمع العقيدة النووية الجديدة لأمريكا وما صاحبها من تراشقات دبلوماسية مع الصين وروسيا وردود متفاوتة لعشرات الدول، بات واضحا أن دولا تعتبر دولا أخرى أكبر خطر يتهدّد أمنها القومي ومصالحها الاقتصادية بدل الجماعات الإرهابية.
وترجم صراع النفوذ والقوة في إحدى أبشع حروب الوكالة، والتي تدور رحاها في الأراضي السورية، وبدرجة أقل في ليبيا.
وكشف مؤتمر ميونخ حول الأمن في دورته الأخيرة، مدى حجم الاختلاف بين الدول للحل الأنسب في سوريا، حيث أجمع كل المتدخلين على خطورة الوضع ومأساويته، بينما اختلف الكل على طريقة إيجاد المخرج، إذ تعصبت كل دولة لتصورها الذي يضمن مصالحها.
وقد تكون خطوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل، بفتح قناة اتصال مع الرئيس الروسي فلادمير بوتين، لتحقيق وقف إطلاق النار في سوريا خطوة في الاتجاه الصحيح، لأن إنقاذ الشعب السوري من مستنقع العنف لا يقتصر على حوار داخلي وإنما حوار جاد بين القوى الدولية المتخاصمة.
وإذا ما استمر نزال أقوياء العالم على الحلبة السورية، لن يبزغ بصيص الأمل المنشود في نهاية الكابوس الطويل الذي حطم دولة كاملة السيادة، وسيكون أمام مجلس الأمن ملايين القضايا الإنسانية للنحيب وذرف دموع التماسيح.