واشنطن تطلق سباق تسلّح جـــديدا
أحدثت وثيقة العقيدة النووية الجديدة، للولايات المتحدة الأمريكية، التي صدرت الجمعة 02 فيفري الماضي، اضطرابات دبلوماسية بين القوى الكبرى، التي رأت فيها استدعاء لخطابات الحرب الباردة وإشارة انطلاق نحو سباق تسلح جديد.
نشرت واشنطن، وثيقة من 64 صفحة، حول السياسة النووية الجديدة، وأظهرت من خلالها تقبلا كبيرا لاستخدام الأسلحة النووية كقوة ردع للخصوم، وعلى رأسهم روسيا.
ونقلت وسائل إعلام عالمية، مضمون الوثيقة الذي ينصّ على زيادة حجم الانفاق على قدرات الردع النووي لأكثر من ضعفين، ويقدر حجم الانفاق الحالي بـ 700 مليار دولار.
وقالت واشنطن فيما اسمته بخطة مراجعة الموقف النووي، أن «روسيا والصين تقومان بتطوير قدراتهما النووية»، وأضافت «استراتيجينا ستضمن إدراك روسيا أن أي استخدام للأسلحة النووية مهما كان غير مقبول».
وأكدت أن «الولايات المتحدة ستدعم وتعزّز، حسب الضرورة، إمكانيات نشر المزيد من القاذفات النووية والطائرات ذات الاستخدام المزدوج، في جميع أنحاء العالم. ونعتزم تحديث هذه الطائرات ذات الاستخدام المزدوج مع القدرات النووية من خلال طائرة «إف 35».
ونقلت وكالة رويترز عن مسؤولين أمريكيين قولهم «إن المبرّر المنطقي لبناء قدرات نووية جديدة هي أن روسيا ترى حاليا أن الموقف والقدرات النووية للولايات المتحدة قاصرة». وبموجب الوثيقة ستعدل واشنطن عددا صغيرا من رؤوس الصواريخ الباليستية التي تطلق من الغواصات بخيارات ذات قوة تدميرية منخفضة.
وحسب الخبراء تقل قوة الأسلحة النووية ذات القوة التدميرية المنخفضة عن 20 كيلو طنا، لكنها تسبب دمارا أيضا. وكانت للقنبلة الذرية التي أُلقيت على مدينة هيروشيما اليابانية نفس هذه القوة التدميرية.
والحجة بالنسبة لهذه الأسلحة هي أن القنابل النووية الأكثر قوة تعدّ كارثية جدا إلى حدّ أنها لن تستخدم مطلقا ولن تنجح كسلاح ردع. وقد يزيد احتمال استخدام الأسلحة النووية ذات القوة التدميرية المنخفضة كسلاح ردع فعال.
رسائل ترامب لروسيا
وسرّبت الوثيقة إلى وسائل الإعلام مطلع جانفي المنقضي، لكن البيت الأبيض رفض التعليق على محتواها، على اعتبار أنها مسودة، ليتضح في النهاية أنها الرسمية التي وافق عليها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
هذا الأخير، اتضح أنه لا يعارض أوباما في قانون الرعاية الصحية والتعامل مع المهاجرين، وإنما في مجال حيوي واستراتيجي أيضا وهو الأسلحة النووية، وورد في المسودة، «أنه ثبت عدم صحة افتراضات فترة أوباما الرئاسية بقلة أهمية الأسلحة النووية في عالم اليوم»، وأضافت «بل أصبح العالم أكثر خطورة».
ومنذ توليه الرئاسة العام الماضي، كتب دونالد ترامب على صفحته الرسمية بموقع تويتر، أكثر من تغريدة يتحدث فيها عن القوة النووية لبلاده، حينما كان يهاجم الزعيم الكوري الشمالي كيم جونع أون.
وقال ترامب في سبتمبر الماضي: «أول أمر وجهته كرئيس للولايات المتحدة كان تجديد وتحديث ترسانتنا النووية. وهي الآن أقوى بكثير وأكثر قدرة مما كانت عليه في أي وقت مضى»، وأضاف، «آمل ألا نضطر قط لاستخدام هذه القوة، لكن لن يأتي وقت لا نكون فيه الدولة الأقوى في العالم».
وغرد ترامب مطلع السنة الجارية قائلا: «الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ - اون قال لتوّه إن الزر النووي موجود على مكتبه دوماً، هلّا يبلغه أحد في نظامه المتهالك والمتضوّر جوعاً بأنني أنا أيضا لدي زر نووي، ولكنه أكبر وأقوى من زره، وبأن زري يعمل!».
وعقب إماطة اللثام عن السياسية النووية الجديدة لأمريكا، وتحميلها المسؤولية المباشرة لروسيا وبدرجة أقل الصين، في نيتها تحديث وتعزيز قدراتها النووية، أن تباهي ترامب بقدرات بلاده أمام كوريا الشمالية، هي رسائل موجهة بالدرجة الأولى لموسكو.
ويدرك ترامب الذي اتخذا من عبارة «أمريكا أولا» كشعار له، أن تفوقه بلاده في جميع المجالات لابد أن ينطلق من تجاوز روسيا في قوة الردع.
وتأكد هذا الطرح على لسان الرئيس الإيراني حسن روحاني، عندما قال «الأمريكيون يهدّدون الروس دون خجل بسلاح نووي جديد».
ردود فعل وتداعيات
وجاء رد روسيا سريعا على ما ورد في الوثيقة الأمريكية، حيث قالت: «أنها وثيقة مثيرة للتساؤلات وتبعث على القلق وخيبة الأمل»، وقالت الخارجية الروسية إن «الفقرات التي تشير إلى تسوية العلاقات مع موسكو مجرد نفاق».
واعتبرت موسكو على لسان سفيرها في واشنطن، أنها أمريكا تتخذ من روسيا فزاعة لتمرير خطط زيادة حجم الانفاق العسكري ورفع القدرات النووية.
وندّدت الصين وإيران وبعض الدول الأخرى بمضمون الوثيقة التي أعدها البنتاغون، حيث رفضتها الأولى بشدّة واعتبرت الثانية أنها تهديد بفناء البشرية.
ولعلّ ما يهمّ في التوجه الأمريكي الجديد، هو تداعياته على صعيد العلاقات الدولية، إذ ظهر جليا تقارب مسافات الصراع بين القوى الكبرى، وقد تصل إلى التصادم في قادم السنوات، بعدما تحول التنافس من إدارة مناطق النزاع في قارات العالم والحرب على الإرهاب إلى التنافس المباشرة على الردع النووي.
وتبرز الأزمة السورية قوة القبضة الحديدة بين واشنطن وموسكو وبدرجة أقل دول الاتحاد الأوروبي، حول تغليب المخرج الأنسب لمصالح كل منهما.
ومع تداعي حصون الإرهاب وتشتّت عناصرها في الصحاري والمغارات، انكشفت مخططات القوى العظمى، ويبدو أن تركيا وجدت نفسها أبرز ضحايا اللعبة الجديدة بعدما وقفت على حجم التحالف بين الأكراد والولايات المتحدة الأمريكية وما تبع ذلك من نوايا الانفصال في العراق وخلق منطقة حكم ذاتي أو فيدرالية في شمال سوريا.
وفي خطّة الأمن القومي الأمريكي الصادرة في ديسمبر الماضي، قال ترامب أن الصين وروسيا تتحديان النفوذ الأمريكي، وأكد أنهما «أبرز تهديدين أمام المصالح الاقتصادية لبلاده». ولاشك أن التنافس على هذا المستوى لا يمكن أن يحسم إلا من خلال التفوق في الأسلحة النووية أو الإخلال بما يسمى «توازن الرعب»، عبر تحديث الترسانات النووية وتطويرها.
وعبّر وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل عن قرار الإدارة الأمريكية بشأن السلاح النووي التكتيكي الجديد قائلا: «أنه يظهر أن دوامة سباق تسلح نووي أخرى بدأت تدور من جديد».
حجة إضافية
العقيدة الأمريكية الجديدة، وإمكانية انطلاق سباق تسلّح آخر، يعطي حجة إضافية على كوريا الشمالية، التي تسعى إلى امتلاك سلاح نووي يهدّد التراب الأمريكي، خاصة وأنا بيونغ يانغ، تعتقد أن أفضل طريقة لحماية نفسها من القوى الغربية وأطماعها هي «امتلاك سلاح الدمار الشامل».
وقد يدفع الوضع الحالي، إلى تأزّم أكبر للأزمة في شبه الجزيرة الكورية، خاصة مع مباركة الحكومة اليابانية للعقيدة النووية الأمريكية المعلن عنها مطلع فيفري الجاري، فهي تدعم واشنطن من جهة وتندّد بتجارب بيونغ يانغ من جهة أخرى.
لن يختفي سلاح الدمار الشامل
ووفقا لاتفاقية ستارت 3، الموقعة بين واشنطن وموسكو سنة 2010 ودخلت حيز التنفيذ في 05 فيفري 2011، فإن الوقتين النوويتين مطالبتين بتحديد سقف معين للأسلحة الاستراتيجية خلال 7 سنوات.
بمعنى أن الأمر كان يجب أن يتمّ الاثنين الماضي، وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية هيذر نويرت، إن بلادها «تأمل باستمرار العمل في هذه المعاهدة مع روسيا. وأنها ستتبادل مع موسكو البيانات حول ترساناتهما النووية الاستراتيجية خلال الشهر القادم».
ومما جاء على لسان نويرت أن العقيدة الأمريكية الجديدة تنصّ على «العمل مع الدول الأخرى بما في ذلك روسيا لتهيئة الظروف المناسبة للتخلص من الأسلحة النووية في كل أنحاء العالم».
ويتعارض عزم أمريكا وباقي الدول النووية، على تطوير وعصرنة ترسانتها النووية مع آمال الشعوب في خلو كوكب الأرض من أسلحة الدمار الشامل، وهي خيبة عبرت عنها جمعيات ضحايا قنبلة هيروشيما في اليابان، إذ كيف يمكن للعصرنة وصناعة قنابل جديدة حادة الدقة في أن تقضي على القدرات النووية.
النفاق الدبلوماسي الظاهر عند الحديث على مسألة الدمار الشامل، لا تعكسه فقط لغة الأرقام، التي تتحدث عن 15 ألف و395 رأس نووي بحوزة 9 دول حسب معهد ستوكهولم للسلام، وإنما بنود السياسات النووية لهذه الدول التي تعطيها الحقّ في إخفاء الرقم الحقيقي لترساناتها بحجة الحفاظ على الأمن القومي.